الوضع العراقي ازداد تعقيدا في الآونة الاخيرة في ظل جملة من التحديات الامنية والاخفاقات السياسية التي يمر بها البلد في الاشهر الاخيرة، والتي ولدت، مجددا، نوعا من انعدام الثقة بين المكونات الرئيسية المشاركة في العملية السياسية والحكومة الحالية، ومع ان انعدام الثقة اصبحت مسألة متجذرة في التعاطي السياسي بين الكتل والمكونات الاساسية منذ عام 2003 وما تلاها من تعاقب للحكومات، الا ان الانفراجة السياسية والامنية التي تلت تولي السيد "حيد العبادي" رئاسة الحكومة نهاية العام الماضي، والتي حاولت تمثيل اكبر عدد ممكن من اطياف العملية السياسية داخلها، وتوحيد الكلمة والموقف لعبور المرحلة الصعبة والتحديات التي تواجه بقاء الدولة العراقية ومؤسساتها، قد اعطت انطباعا ايجابيا لفترة من "الانتعاش السياسي" وبارقة امل بمستقبل افضل في قادم الايام.
طبعا التوجهات المقلقة الحالية اتخذت منعطفات بعضها جديد والاخر متجدد، ويمكن ان نحددها بالاتي:
- تنامي الصراع الداخلي (صراع السلطة) بين الحكومة الحالية وما بات يعرف بـ"الدولة العميقة" او الموازية، والتي تتكون من سياسيين سابقين او العاملين خلف الكواليس (البيروقراطية او الدواوينية)، والتي تحاول عرقلة اي جهود لا تخدم مصالح او تتعارض مع منافعهم الشخصية، اضافة الى التستر على ملفات الفساد الاقتصادي والامني والاداري والسياسي الضخمة التي مازال العراق يتحمل تبعاتها الخطيرة.
- عودة بوادر الازمة بين الحكومة الحالية واقليم كردستان العراق، (صراع الحكومة الاتحادية والاقليم)، بشقيها الاقتصادي (الخلاف حول تصدير النفط وحصة الاقليم من الموازنة الاتحادية، اضافة الى مستحقات الاقليم المالية)، والانفصالي (بعد تجدد دعوات الانفصال التي يقودها رئيس الاقليم "مسعود بارزاني"، والتي طالب فيها بضرورة الانفصال واقامة دولة كردية مستقلة، واعتبر هذا المطلب حق طبيعي للكرد في العراق، بعد تجاوز كافة العقبات التي قد تعيق هذا الانفصال).
- الذهاب الى منعطف تشكيل الاقاليم (اقليم شيعي في الوسط والجنوب، واخر سني في الغرب والشرق، وثالث تركماني في كركوك)، وسط مطالب اخرى اكثر حدة تدعو الى تقسيم العراق (وفق مقترح "بايدن" نائب الرئيس الامريكي) على اساس طائفي، وما قد تنتج عنه هذه الدعوات من انقسامات حادة حتى داخل المدينة الواحدة، قد تؤدي الى صراعات حدودية دامية، والغريب ان هذه الدعوات لا تتفق عليها جميع الاطراف، وهي مثار جدل حاد بين جميع المكونات، سيما وان تقسيم الموارد المائية والنفطية وترسيم الحدود هو امر اشبه بالمستحيل، اضافة الى سيطرة اجواء انعدام الثقة بين جميع الكتل السياسية، وهو سبب اضافي لتعقيد المسألة.
- تراجع الانتصارات العسكرية التي تحققت في الآونة الاخيرة ضد تنظيم داعش، بعد تشكيل قوات "الحشد الشعبي" وتضامنها مع القوات الامنية، وادى التشكيك في ولاء هذه القوات ورفض دخولها الى بعض المناطق (خصوصا المناطق الغربية) الى جمود عمليات التحرير وانسحاب المقاتلين من مناطق اخرى، ما شكل فرصة مثالية لعودة الهجمات التي يشنها عناصر داعش للسيطرة على المزيد من الاراضي، بعد ان كان في حالة دفاعية، اضافة الى انعكاسها على تردي الوضع الامني في العاصمة العراقية بغداد، وعودة النزوح الجماعي من مناطق الاضطرابات الامنية من جديد.
- الموقف الامريكي المتذبذب من الحكومة العراقية الحالية، والذي بدء التعاطي مع الازمة الامنية في العراق على اساس "خلق التوازنات" والتشكيك بميل الحكومة نحو جهات اقليمية بعينها (ايران) على حساب علاقتها مع الولايات المتحدة الامريكية، وبدء هذا التوجه الامريكي منذ حرب "تكريت" (التي شهدت توقف العمليات لعدة اسابيع بفعل الضغوط الامريكية)، وصولا الى معركة مصفى "بيجي" التي وصف "البنتاغون" المعارك فيها بانها "تسير في الاتجاه الخاطئ"، ووصل الخلاف الامريكي-العراقي الى ذروته بعد تلويح الولايات الامريكية المتحدة بإمكانية تسليح "السنة" و"الاكراد" دون الرجوع الى الحكومة المركزية.
الامر الذي ينبغي ذكره ان الحكومة العراقية اليوم في وضع لا تحسد عليه، ومع انها تسير حتى اللحظة في مسار "التهدئة"، والابتعاد عن التصعيد او التهويل، وهو مسار صحيح وناجح لامتصاص زخم الاحداث، لكن التحرك نحو معالجة جدور الازمات امر ضروري ومطلب ملح لمنع الوصول الى حالة التصادم السياسي ومنع المزيد من الانهيارات الامنية، سيما وان "التهدئة" غالبا ما تلجأ الى الحلول الانية (كما جرى في الاتفاق المؤقت مع اقليم كردستان حول تصدير النفط) التي سرعان ما تنهار عند اول مطب، وهنا ينبغي على الحكومة العراقية تقسيم الاولويات بحسب الاهم فالمهم، والعمل على معالجة جذرية لهذه الاولويات، بدلا من وضعها في سلة واحدة او البحث عن حل واحد لجميع المشاكل.
ان اهم ما يمكن التركيز عليه في المرحلة الحالية هو توحيد الجبهة الداخلية سياسيا، والتركيز على مواصلة جهود مكافحة تنظيم داعش وطرده من المناطق التي يسيطر عليها داخل العراق، والا فان عملية الكر والفر السياسي والامني ستبقى هي السمة الابرز في المشهد العراقي، وسيبقى تحقيق الانتصارات الامنية وتحقيق التوافقات السياسية مرهونا بالمزاج الدولي او التدخلات الخارجية، والتي قد تبطئ مسار الاحداث او تسرع وتيرتها بحسب ما تقتضيه مصالحها الخاصة.
اضف تعليق