q

قديما قيل "السياسية بلا اخلاق"، خصوصا من يتبع "المدرسة الميكافيلية" في الحكم، وكنا قد صدقنا بأن هذه السياسة باتت من الماضي الاستعماري والسياسات السالفة التي اتبعتها من قبل الدول الكبرى في العالم الغربي، وتحديدا القارة العجوز (اوربا)، وانها نزعت عن حاضرها رداء الماضي المتخم بالسيطرة والاستعمار وحب الهيمنة والتحكم بالعالم الثالث، الذي يعتبرونه اقل شأن من بلدانهم المتطورة، لكن التجربة اليوم تثبت خلاف ذلك، وان السياسة فعلا بلا اخلاق، وعلى من يريد ربط الاخلاق الانسانية بالسياسة المجردة، ان يدفع ثمن هذا الربط، وان يتحمل النتائج المترتبة على ذلك، كما تحملتها السويد بعد ان نادت السعودية بالتحلي بشيء من الانسانية وترك سياسة ما اسمتها "القرون الوسطى" في استهداف الناشطين واصحاب الراي في قضية "البدوي" المشهورة، حيث تركت وحدها في الميدان (ربما باستثناء كندا التي منحت اسرة البدوي حق اللجوء اليها)، بعد ان سحبت السعودية سفيرها ومنعت وزيرة الخارجية من القاء كلمتها امام "القمة العربية" التي اقيمت في مصر، اضافة الى منعها لمنح العمال السويديين تأشيرات العمل داخل المملكة، ما اضطرها الى التحرك الدبلوماسي لإرضاء غضب السعوديين عليها وبالتالي حرمانها من اموال البترول والعقود والاستثمار.

فرنسا

بالمقابل فان فرنسا التي تعيش هذه الايام ذكرى الحرب العالمية الثانية المؤلمة على عموم المواطنين الاوربيين والمواطنين الفرنسيين على وجه الخصوص، سيما وانها تسترتج ذاكرتها في هذه الايام على ذكرى استباحة النازيين لفرنسا وما جرت عليها من ويلات حتى اخر رصاصة اطلقت في الحرب العالمية الثانية، ما زالت تتنفس الهوى الاستعماري، متناسيا ما حصل لها قبل 70 عاما من دمار وعنف واهدار لكرامة فرنسا وانسانية مواطنيها، والتي من المفترض ان تشارك به الاخرين بدلا من العودة الى الوراء، كما ان موقفها الاخير من اليمن لا يمكن ان يحسب ضمن اخلاقيات الثورة الفرنسية ومبادئها في (الحرية، المساوة، العدل)، ولا ضمن دعواتها المكررة في رفض الاستبداد والظلم والانظمة الدكتاتورية، بل يحسب كجزء من الماضي الذي لعبت فيه دورا اساسيا في استعمار الجزائر وشمال افريقيا ودول البحر المتوسط وغيرها من مناطق الشرق الاوسط، بعد ان اعلنت نفسها حليفا موثوق لدول تحالف بالأساس على قصف بلد فقير، (اليمن)، من دون النظر الى الاسباب او الخيارات الاخرى المتاحة او حتى نتائج هذه الحرب، فكل ما هم فرنسا، عشرات المليارات من الدولارات التي ستجنيها من صفقات السلاح والاستثمارات الاخرى بعد ان وافقت على تمرير الحرب بسلاح فرنسي، والتشدد ازاء الملف النووي الايراني، اضافة الى ادوار سياسة مستقبلية ممكنة الحدوث في سوريا قد نراها قريبا.

بريطانيا

بريطانيا هي الاخرى، على ما يبدو بدأت تندب حضها حسدا على ما حصل عليه الفرنسيون من وجاهة عربية، واموال خليجية، وهم حائرون او خائفون من خسارة "الحليف الخليجي" لصالح فرنسا، على حساب بريطانيا (الذي صوت برلمانها المشاركة في دعم اي عمل عسكري في سوريا) والولايات المتحدة الامريكية (التي وصفها الخليجيون بالتردد وضعف المواقف في سوريا واليمن وايران في عهد الرئيس الحالي اوباما).

ونشرت صحيفة "التايمز" البريطانية تقريرا يوضح حجم القلق البريطاني تحت عنوان "فرنسا تأخذ مكان بريطانيا في شراكة دول الخليج"، حيث وجدت ان التحرك الفرنسي الجاد والنشط يمكن ان يهدد "العلاقة الرومانسية" التي تجمعها مع الخليج، وكشفت أن "الدبلوماسيين البريطانيين يعبرون عن إحباطهم من غياب الدعم الحكومي لجهودهم، فلم يزر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الرياض إلا بعد عامين من توليه المنصب، أما وزير الخارجية السابق ويليام هيج فقد كان غائبا. وبالنسبة لفيليب هاموند، الذي حل محل هيج وكان وزيرا للدفاع، فقد زار الرياض تسع مرات، ولكن العلاقات الثنائية يتم تعزيزها من خلال الرجال في قمة الحكم"، هذه المخاوف قد تهدد الصفقات البريطانية مع الخليج، وبالأخص مع السعودية عندما وقعت معها عقدا بقيمة (20) مليار دولار عام 2007 لشراء مقاتلات حربية، واليوم ترى بريطانيا ان فرنسا متفوقة عليها في حساب المصالح والارباح التي يمكن ان تجنيها على حساب حلفائها التقليديين.

النفاق الاوربي على المستوى السياسي لا يقتصر عند حدود الخليج، وان كان الاوضح، بل يتعداه الى ابعد من ذلك، والامثلة عليه اكثر من ان تحصى، ولعل بريطانيا وفرنسا حملتا الجزء الاكبر منه، عبر دعمهما للعديد من الانظمة الاستبدادية السابقة والحالية، اضافة الى العديد من الحركات والمنظمات المتطرفة التي تجمعها الكثير من الروابط المشبوهة مع البلدين، في سوريا توالت الاخبار بدعم فرنسا سرا لعدد من الجماعات المسلحة بأسلحة فتاكة، وفي افريقيا لا تكاد تجد بلد افريقي يخلو من التواجد العسكري او الاستخبار او الامني الفرنسي حتى بعد نيل هذه البلدان استقلالها من الاستعمار الفرنسي، اما بريطانيا، فحضورها اكبر من ان يذكر، الا انها ذكية في اخفاء اثارها المادية او تدخلاتها المباشرة، بخلاف الاخرين وخصوصا اذا ما قورنت بالولايات المتحدة الامريكية، ومع ان الجميع يفكر بنفس العقل والمنطق من دون اظهاره الى العلن، الا ان التنافس فيما بينهم حول المكاسب غالبا ما يكشف النوايا الحقيقية لتلك الدول والطريقة التي تدار بها الامور.

اضف تعليق