وجود الظواهر الخاطئة في المجتمع، تستتبع ردود فعل سريعة – احياناً- لتعارضها مع الفطرة السليمة من جانب، والذوق العام والثقافة الدارجة وغيرها من المتبنيات الاجتماعية من جانب آخر، مما يدفع البعض لاستعجال التغيير نحو الافضل، بإلغاء تلك الظاهرة السلبية من الوجود تماماً، او تصحيحها فوراً، وهي توقعات، تُعد مشروعة وصحيحة، بيد أن الصحيح ايضاً، ان الاخطاء – مهما كانت- سواء صدرت من انسان عادي، بأبعادها المحدودة، او من انسان وجيه اجتماعياً او مسؤولاً في الدولة، بأبعادها الواسعة وانعكاساتها الكبيرة، فان النتيجة تبقى واحدة، وهي ان الخطأ (الانحراف)، انما يصدر من واقع المجتمع والامة، ولم يأت من الخارج، مثلاً؛ مظاهر الظلم في التعاملات اليومية في السوق والشارع، او التصدّع في حقوق الانسان، مثل انتهاك الحريات واعتماد التمييز والمحاباة وغيرها، كلها تمثل افرازات الواقع الذي يعيشه الناس، وربما تكون نتائج وعلل لأعمال ومواقف ومتبنيات سابقة أدت الى هذا المآل، وهو الحقيقة التي طالما أشار اليها المفكرون في عديد البلاد الاسلامية.
واذا نلاحظ التقدم الفائق والباهر للحضارة الاسلامية في فجرها الاول وعصرها الذهبي، فمن اهم عواملها، هو هذه الرؤية الواقعية لحياة الانسان، والأخذ بنظر الاعتبار الظروف الموضوعية التي يعيشها، كفرد و كمجتمع، وهي سياسة السماء التي حملها الرسل والانبياء الى الناس أجمعين، فعصا موسى، عليه السلام، لم تكن لتغيير الواقع الفاسد الذي كان يعيشه مجتمع بنو اسرائيل، إنما لإثبات الوجود الرباني أمام التحدي الفرعوني، تبقى مسألة الولاية (القيادة) والالتزامات الدينية والتغيير الذاتي اخلاقياً وثقافياً، وغيرها، تعود الى العملية التغييرية التي يشترك فيها الرسول او النبي، او في بعض المراحل؛ المثقف والعالم المصلح وامثالهم، من جهة، وعامة الجماهير من جهة اخرى.
وهذا يجيب على تساؤل الكثير في بعض البلاد التي تعيش ويلات الحروب والازمات الخانقة والمعقدة، بالسبب في عدم تحرك القيادة لصنع الحلول السريعة، لإنقاذ الناس مما يعيشونه، كما ان سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- له إجابة أروع على هذا التساؤل البريء في كتابه "ممارسة التغيير"، واصفاً حال الفئة التي تمتلك القدرات الخارقة والكبيرة على التغيير، وتحجم عن الاستفادة من هذه القدرات بـ"سعة الصدر"، ويبين السبب في عدم إقدام الانبياء والأولياء على الاستفادة من قدراتهم الاعجازية وعلمهم بالغيب للتخلص من الطغاة والانتصار للمظلومين، بأن اذا حصل ذلك فانهم لن يكونوا بعد إذ قدوات للآخرين، لانهم سيكونوا مميزين وذو قدرات خاصة لا تتوفر للآخرين، ولن يكون باستطاعة أحد مواجهة الانحراف في سياسة الحكام، لان هذا من شأن وقدرة انسان مثل الامام علي، او الامام الحسين، عليهما السلام، - مثلاً- اذا ما استخدما قدراتهما الخارقة في التغلب عسكرياً على الاعداء وأفنوهم جميعاً.
ان التغيير الحقيقي الذي ترنو اليه الشعوب والأمم، يتحقق بنجاح عندما تتغير الاسباب والعلل التي أوجدت تلكم الازمات والكوارث، وإلا يكون التغيير ظاهرياً وسطحياً، كما جربت شعوبنا طيلة القرن الماضي، باستمراء الانقلابات العسكرية والتصفيق للانقلابيين من احزاب سلطة وضباط في الجيش، رفعوا شعار التغيير تحت عبارات مثيرة، من قبيل الانتصار للطبقة الكادحة وإعطاء المرأة حقوقها والمساواة والحرية وغيرها، وهذا ما كرّس ثقافة الكسب السريع بأقل الجهود، فالزعيم الجيد والمحبوب هو ذاك الذي يوفر المواد الغذائية بأسعار مقبولة، الى جانب السكن وفرص العمل والرفاهية، بغض النظر عن الثمن، وعلى حساب من وماذا، يتحقق كل ذلك؟
وثمة قضية مهمة اخرى يشير اليها سماحة الامام الشيرازي في تأكيده على الرؤية الواقعية، بان استعجال تجاوز الازمات وحل المشاكل المختلفة، يؤدي الى خلق هوة عميقة بين النخبة او القيادة من جهة، وبين الجماهير من جهة اخرى، وتكون النتيجة ان تتشكل هنالك طبقة من النخبة الواعية والمثقفة التي تتولى دائماً القيادة والزعامة، فيما تبقى شرائح اخرى في المجتمع مهمتها التصفيق والتهليل والتأييد او حتى الوقوف في طوابير طويلة على صناديق الاقتراع للأدلاء برأيهم في الانتخابات، وهذا ما يجعل النبي الأكرم والأئمة، عليهم السلام، يجارون الناس في مشاعرهم واحاسيسهم كأنهم منهم، فعندما يموت أحدٌ منهم يبكون بكاءً مراً، كما بكى النبي على ولده ابراهيم، والامام الحسين، على ولده علي الاكبر، عليهم السلام، فعلمهم بالحقائق – يقول الامام الراحل- "لا يحول دون فرحهم وحزنهم الذي هو شأن كل انسان، وإلا ما الذي يستوجب بكاء النبي على ولده إبراهيم ، او الامام الحسين، على ولده الاكبر، مع أنهما كانا يعلمان علماً خارقاً، بل يبصران بالبصر النفاذ أن الولدين دخلا في روح وريحان وجنة ورضوان....".
من هنا نفهم سر نجاح بعض الثورات في الوصول الى هدفها دون غيرها، ونجاح بعض القادة في تحقيق اهدافهم دون غيرهم، مثال ذلك؛ غاندي في الهند، الذي انطلق من رحم الواقع الذي كان يعيشه الشعب الهندي وانقذ شعبه وبلاده من قبضة الاستعمار البريطاني، وفي العراق، لنا مثالٌ قريب في الامام الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- الذي قاد الثورة الجماهيرية المسلحة ضد الاستعمار البريطاني من خلال الروح الثورية التي كانت تغلي في نفوس العشائر العراقية، وليس بالاعتماد على مكانته العلمية والاجتماعية، وجاء في تاريخ هذه الثورة، انه وجه السؤال المحدد للعشائر آنذاك، بوجود القدرة على خوض هكذا تجربة، فكان الجواب بالايجاب، فكان منه الدعم المعنوي والمشروعية الدينية. وإذن؛ فالتغيير الحقيقي والجذري إنما يتم من خلال أصغر فرد في المجتمع وينتهي الى أكبر فرد فيه، من حيث القدرات والامكانيات. فالجميع هم مسؤولون ومشاركون في هذا التغيير ثم خوض تجربة التنمية والتطور لمستقبل أفضل.
اضف تعليق