عندما يرتفع منسوب العواطف والمشاعر في ساحة المواجهة، بفعل التعبئة الجماهيرية – المعنوية، تلوح في الأفق هواجس "الاسترسال" وما يعقبه احياناً من "استنزاف" للقوى والقدرات، وكلما كان العدو شرساً والخطر داهم، والحاجة ملحّة للقتال للدفاع او الهجوم وتسجيل الانتصارات السريعة، كانت قوة هذه الهواجس اكبر، لان كل شيء يكون لصالح اللحظة الراهنة، ولنا تجارب عديدة في حروب مضت، دفع الطرفان، او احدهما ثمن الاسترسال والاستنزاف غالياً، عندما وضعوا كل شيء في ساحة الحرب، على امل تحقيق النصر الذي وجدنا انه كان أشبه بالحلم. ولعل المثال البارز، الحروب التي خاضتها بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني.
وبما ان الحرب تمثل دائماً حالة طارئة، تُعد عند بعض الشعوب والأمم بمنزلة المحطة في مسيرة تطورها وتقدمها، فتستفيد من تجاربها على اكثر من صعيد، فان البحث عن النصر الحقيقي لن يكون في ساحة القتال وعلى السواتر الترابية، ومن خلال تسجيل إلحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو، في العدّة والعدد، ولا حتى في تعاظم القوة العسكرية والحشود المعبئة والمقدامة لخوض القتال، إنما في الرؤية البعيدة لما بعد هذه الحرب ولآفاق المرحلة القادمة.
وهذا تحديداً يستدعي التحلّي اكثر من أي وقت آخر، بالذكاء خلال خوض الحرب والقتال، ولاسيما ونحن في معركة اساسها فكري وثقافي، وليست هنالك أطماع توسعية او عدوان لأهداف اقتصادية، إنما الارهاب الطائفي وعقيدة التكفير والدموية والعنف المفرط، هو الذي يضفي على القتال عند عناصر "داعش" صفة مقدسة. فاذا كان هؤلاء يقاتلون بغباء مفرط، لان ليس عندهم ما يخسرونه، انما هم مشروع موت بامتياز، فان قواتنا المتشكلة من فئات عديدة من المجتمع، من العامل والطالب والكاسب ورجل الدين وغيرهم، يفترض ان يمثلوا مشروع حياة، عندما لا يفرغوا ما في جعبتهم من سهام، ويكشفوا اوراقهم كاملة في ساحة المواجهة.
الحذر من مغبة الاستدراج الى حرب الاستنزاف، يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين". في فصل خاص عن "الوضع الصحيح للمواجهة"، حيث يدرج سماحته عدة بنود في هذا السياق، أحدها "الاستدراج"، التي وصفها بـ "المصيدة". وما دمنا في حالة تغيير للواقع المرير في العراق على اكثر من صعيد، فان الحاجة ماسّة الى حرب ذكية ومواجهة من نوع خاص مع العدو الجديد الذي يريد تدمير كل شيء في العراق. لذا يمكن الاشارة الى أبرز الموارد ذات الاولوية في الكتمان على العدو وعدم الاعلان عنها:
1- تكتيكات الحرب، كونها تمثل القاعدة الاساس في أي تحرك مباغت ضد العدو، فاذا تنبه الى وجود هذه التكتيكات وتفاصيلها، فانه سيأخذ حذره واستعداداته لمواجهة الهجمات المحتملة، ومحاولة إحباطها، سواءً كانت الخطة في حرب عصابات بين الشوارع، او قتال بالدروع او غير ذلك.
2- القدرات والامكانات، العسكرية منها والبشرية، وهذا من أكثر ما يخشى عليه في عمليات الاستدراج لحرب الاستنزاف، لوجود رغبة جامحة في الظهور مع اكبر عدد من عوامل القوة والاقتدار، مثل استعراض الصواريخ والمعدات المتطورة بهدف بث الرعب في قلوب الاعداء، بيد ان احياناً تكون النتيجة غير مرجوة ولا مرضية، بحيث تتحدد حجم القوة فيكون من السهل احتوائها واحباطها.
3- الاهداف الاستراتيجية، وهي ما تروم قواتنا المهاجمة الوصول اليه، سواءً الى مواقع معينة او فتح جبهات متعددة لإشغال العدو، وغيرها. بمعنى أن الذكاء ليس في التخطيط بصوت عالٍ، إنما خلف الكواليس والمفاجأة بعمليات خاطفة نحو اهداف كبيرة.
لمن يتابع مجريات الاحداث الساخنة في العراق، يجد أن الاعلام، في الوقت الذي يقوم بدور تعبوي وحماسي مع بعض المهام الاعلامية لنقل الصورة سريعاً الى الجماهير، فانه ربما يكون احياناً بمنزلة الثغرة التي يستغلها العدو لإحصاء الثغرات والقدرات والامكانات في وقت واحد. وهذا ما نلاحظه جلياً خلال الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، التي يفترض ان تكون وسيلة للتوعية والتثقيف ونقل المنجزات على الارض، بينما نلاحظها تكون من قبل البعض – مع حسن النوايا- وسيلة للتسابق على نشر الإثارة من اجل الإثارة، مهما كانت، فربما تكون صور لاستهداف القصور الرئاسية للطاغية صدام – مثلاً- وتهديم مقبرته ومقابر اخرى، مما يعطي صورة عن الهدف والغاية القصوى من الحرب على الارهاب وعلى "داعش" لدى المقاتلين من ابناء الشعب العراقي.
ان المخاطب على الجانب الآخر من المعركة، ليس فقط "داعش" إنما المجتمع السنّي في المناطق التي كان وما يزال يحتلها هذا التنظيم الارهابي، بان كل ما في جعبة الحشد الشعبي والقوات المتقدمة والمحررة، ليس بالضرورة ان تكون ذات صبغة عسكرية، وهي ليست فقط رصاص وقذائف ونار، إنما هنالك خطط مستقبلية وتطلع الى آفاق المرحلة القادمة لما بعد "داعش" في العراق. وهذا ايضاً يجب ان يكون في طي الكتمان لمزيد من النضوج والتكاملية، لمعرفتنا ان "داعش" ليست وحيدة في الميدان، وليست لها اهداف عسكرية وسياسية أمام قواتنا، بقدر ما تخفي الجبهة المعادية أطراف عديدة اقليمية ودولية تسعى لاستنزاف آخر قطرة دم في الجسم العراقي، وتحويله الى كائن خائر القوى غير قادر على النهوض ثانية.
اضف تعليق