في سلسلة الحديث عن الأسرة الشيرازية ومسيرتهم في طريق الجهاد والتصدّي للانحراف والظلم والطغيان، نسلط الضوء في هذا المقال على شخصية علمية واجتماعية اكتسبت شهرتها وقوتها من تحملها مسؤولية أمة بأسرها، وليس فقط شعب في بلد بحدود ضيقة مصطنعة. فقد لمع اسم المرجع الديني السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- في كربلاء المقدسة، عندما حلّ فيها قادماً من النجف الاشرف، بطلب وإلحاح من المرجع الكبير في زمانه السيد حسين القمّي – قدس سره-.
في تلك الايام كان العراق، خارج للتوّ من وطأة الاستعمار البريطاني وحصل على استقلاله الظاهري والرسمي، بعد كفاح مرير بذل في سبيله الدماء السخية، وسجل المواقف البطولية والملاحم التاريخية خلال ثورة العشرين. بيد أن معطيات الاحداث آنذاك أشّرت على تحرك استعماري من نوع جديد في العراق استهدف العقول لصياغة فكر وثقافة مغايرة لما عليه العراقيين من هوية دينية اضحة، بما يصدق عليه القول: بان الاستعمار الذي يخرج من الباب يدخل من الباب الأخرى، وليس من الشباك...! وعليه يمكن القول أن الدور الذي نهض به الميرزا الشيرازي، شكل انعطافة تاريخية وحضارية في المسيرة النهضوية للأسرة الشيرازية، فمن التصدّي المباشر للاستعمار، الى التصدّي لأذنابه ومشاريعه الفكرية والثقافية في البلاد الاسلامية. ومن اسلوب التصعيد الثوري والجماهيري، الى التصعيد بالكلمة القوية والشجاعة التي قامت بدور تاريخي مزدوج في حقبة الخمسينيات تحديداً؛ فهي جابهت موجات الافكار الوافدة، في الوقت ذاته أسهمت في تكريس الثقافة الدينية في المجتمع.
التعاون المرجعي
مستفيداً من تجارب العلماء الماضين في مواجهة التحديات الخارجية والمشاكل الداخلية، اعتمد الميرزا مهدي الشيرازي مبدأ التعاون والتعاضد، فكما في اجواء الحرب والاحتقان السياسي والتصعيد الامني، نلاحظ التفاف العلماء لصياغة موقف فكري وعقائدي موحد في اجواء الحرب الفكرية، وهو ما جسده المرجع الراحل خلال المد الالحادي في العراق. فقد سجل مواقف مضيئة وتاريخية لنصرة الدين والانسانية. فحسب المصادر التاريخية، تعرض المرجع الاعلى في زمانه، السيد محسن الحكيم – قدس سره- في النجف الاشرف لاستفزازات كبيرة بسبب تصاعد المد الالحادي في هذه المدينة وسائر مدن العراق، فبات انصار هذا المدّ يتجرأون على المقدسات والرموز الدينية، ويجاهرون بالعداء للدين، ويعدون وجود المظاهر الدينية مثل الحجاب والمساجد والحسينيات والحوزات لا مبرر لها، ولابد من ازالتها تماماً...!
وفي كتابه "ذكريات وخواطر" يسجل سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- تلك الوقائع، ويشير الى دعوة والده الراحل للمرجع الحكيم بالمجيء الى كربلاء المقدسة بعد تعرضه لتهديدات متكررة، فكانت الاستجابة ثم الاستقبال التاريخي والحافل من اهالي كربلاء المقدسة، إلا ان استفزازات الشيوعيين في تلك الفترة لم تتوقف بفضل الدعم الحكومة الجديدة التي ادّعت "الثورية" ونصرة العامل والفلاح ومجابهة الاقطاعية والطبقية. فكانت التظاهرات المعادية للدين تظهر بين فترة واخرى في كربلاء المقدسة، تشارك فيها عدد من النسوة حاسرات الرأس نكاية بالحجاب، وهم يهتفون بالشعار المعروف: "بعد شهر ما كو مهر...." وغيرها من العبارات الاستفزازية. وكانت المفاجأة من مدير شرطة كربلاء "عبد الملك" – يقول الامام الشيرازي في كتابه- عندما ابلغ كل من السيد الحكيم والميرزا مهدي الشيرازي بان الحكومة تساند الشيوعيين في كل الاحوال، حتى وإن كانوا على باطل وارتكبوا جريمة منكرة. عندها ادرك المرجعان الكبيران آنذاك بالخطر الداهم واقتراب الاوضاع من الانفجار، فاتفقا – يقول الامام الراحل- على اصدار فتوى التكفير الشهيرة ضد الشيوعية بان "الشيوعية كفر وإلحاد".
كان الامام الشيرازي الراحل مع مجموعة من العلماء والخطباء والمثقفين، يشكلون الجبهة الامامية للتصدي لتيار الالحاد والماركسية، من خلال توزيع المنشورات والبيانات واصدار المجلات المتعددة وتوزيعها على الشريحة الواعية في المجتمع. وفي مقابل سلاح الكلمة، كان الطرف الآخر يستخدم العنف بأبشع اشكاله، وكانت البداية بالإعلان عن قائمة تضم (114) شخصاً مرشحين للقتل في المقدمة الميرزا مهدي الشيرازي ونجله الأكبر، ولما لم يفلحوا في تحقيق كامل المخطط، فانهم سفكوا دماء عدد من المواطنين الابرياء.
ولابد من الاشارة هنا الى أن مساعي وجهود الميرزا مهدي الشيرازي، انحصرت بين تاريخ 14- تموز عام 1958، وحتى وفاته عام 1960، بمعنى انه – قدس سره- لم يوفق لادارة المواجهة المحتدمة اكثر من عام ونصف فقط، وخلال هذه الفترة الوجيزة، حصلت حوادث جمّة في العراق، واثبت علماء الدين والحوزة العلمية أنهم الأقدر والأكفأ على طرح الافكار الاقرب الى الصواب والمنطقية والمفيدة للانسانية. بخلاف الافكار القائمة على الشعارات البراقة والاثارات العابرة التي تتلاعب بالمشاعر وحسب.
المهرجان الخطابي و"أنصار السلام"
أبرز وأروع مبادرة قام الميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره- في تلك الايام العصيبة، دعوته لإقامة مهرجان خطابي – شعري في كربلاء المقدسة بالتزامن مع ذكرى مولد أمير المؤمنين، عليه السلام، فجاءت الفكرة ناضجة وبديعة، واختيار التوقيت أروع وأنفذ الى العقول والنفوس. وحسب اليوميات التي يسجلها الامام الشيرازي الراحل عن تلك الفترة، فان الشيوعيون حاولوا مستميتين لإفشال هذا المهرجان، فكان كان هو – قدس سره- مع ثلّة من الشباب الواعي والمناضل آنذاك، بالمرصاد ولم يدعوا أحداً من دخول قاعة الاحتفال. فحقق المهرجان نجاحاً باهراً في اول تجربة له، فألقيت الكلمات والقصائد والمدائح، وكلها تعبر عن وقائع التاريخ وتكشف عن الحقائق المغيبة عن المسلمين والعالم، فجاء ذكر الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، هو الشعلة الوهاجة التي تبين للعالم حقيقة الدين وما جاء به الاسلام من نظام متكامل للحياة والانسان.
في الجهة المقابلة شهد العراقيون التفافاً من الشيوعيين على الرأي العام الذي اظهر انزعاجه من التظاهرات الاستفزازية، فبعد ان زادت الضغوط على الحكومة وكثرت المطالبات بإلغاء هذه التظاهرات، أعلن عن تجمع جديد يحمل اسم "انصار السلام"، على أن هؤلاء هم الذين ينظمون التظاهرات وليست جهة اخرى...! وقد جاء في "ذكريات وخواطر": "خرج الشيوعيون يهتفون: عيني كريم للأمام ديمقراطية وسلام....!! في حين كان العراق ابعد ما يكون عن الديمقراطية والسلام".
نعم؛ لقد بذلت الوعود الكبيرة للفلاحين والعمال والشريحة الفقيرة في المجتمع العراقي بان يتحولوا الى النعيم والرفاهية بعد الاطاحة بالنظام الملكي والنهج الارستقراطي، بيد ان تزييف الحقائق والتضليل هو الذي جعل الناس يصدقون أن النظام الملكي كان السبب الوحيد لمآسيهم، وأن النظام الجديد هو الذي سينقذهم من مستنقع الفقر والحرمان، بيد أن الذي حصل، إغراق العراق في مستنقع العنف والدموية ومحاربة الدين، على أن "الدين أفيون الشعوب"، وأن على الشعب العراقي التخلّي عن تاريخه وهويته الدينية والحضارية حتى يتسنّى له الاستفادة من النظرية الجديدة التي تنقله الى النعيم الخالد...!
خلال تلك الفترة الوجيزة أسس الميرزا مهدي الشيرازي مدرسة فكرية وحضارية ما تزال تضخ عطاءً متدفقاً، فانطلق مذ ذاك، الخطباء الحسينيون، ليبدعوا في المنبر الحسيني ويجعلوه اكثر تفاعلية وحيوية، فبزغ آنذاك الشهيد الشيخ عبد الزهراء الكعبي، والسيد محمد كاظم القزويني وآخرين، كما انطلق الشهيد السيد حسن الشيرازي، في مجال الادب والكتابة والخطابة... كل هؤلاء وغيرهم كانوا بالحقيقة جنوداً في المعركة الفكرية والحضارية مع التيار الالحادي المدعوم داخلياً وخارجياً، وقد أبوا ان يلقوا أقلامهم ويتخلوا عن منابرهم، رغم المصاب الجلل الذي لحق بهم بفقدان ذلك الأب القائد والمرجع المناضل، ففي غمرة الاحداث الساخنة آنذاك، صعق العراقيون وشيعة العالم بوفاة الميرزا مهدي الشيرازي والرحيل الى جوار ربه راضياً مرضيا.
اضف تعليق