q

"... فلا يبقى في الأرض خرابٌ إلا عُمّر"، هذا قبسٌ من عصر الظهور ورد في كتاب "كمال الدين وتمام النعمة" للشيخ الصدوق، يصف فيه الاعمار والبناء في مجال عدّة، يعيشها الانسان في عصر ظهور الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، من جملة ما تشهده البشرية من تحولات كبرى في الحياة، ونهاية لجملة من القوانين الظالمة والانظمة الفاشلة.

قبل أي شيء، يجدر بنا التذكر أن عصر الظهور هو الامتداد الطبيعي للمنهج الذي اختطه الرسول الأكرم، ومن بعده الامام علي ابن أبي طالب، والأئمة المعصومين من بعده، عليهم السلام، فهؤلاء جميعاً عرفوا الأمة والعالم بقانون حرية البناء والاعمار وفق القاعدة الفقهية؛ "الأرض لله ولمن عمّرها".

ولعل أول من رفع هذه الراية؛ امير المؤمنين، عليه السلام، في أولى خطوات نظامه السياسي عندما أطلق حرية البناء في الكوفة، فلم يبق انسان دون مأوى في المدينة التي كانت تضم – حسب بعض الاحصائيات- حوالي مليوني انسان، وأحياء سكنية مترامية، ومن قبل؛ فقد طبق هذا المبدأ بنفسه ليكون دليلاً ناصعاً على عظمة النظام الاقتصادي في الاسلام، فبعد عملية إقصائه من الحكم والخلافة (السياسية)، انطلق تجاه الاراضي المشاعة خارج المدينة، وراح يزرعها نخيلاً ليلاً ونهاراً، حتى حول مساحة صحراوية شاسعة الى واحة خضراء وغابة للنخيل المعطاءة، مما يفهم أنها نوع من الدعوة لسائر المسلمين لاغتنام الفرص والقيام بالعمل ذاته، فيما يتعلق بالزراعة، وايضاً ما يتعلق بالسكن وحتى البناء للاستثمار التجاري، مستفيدين من القاعدة الفقهية التي أرسى دعائمها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.

الفارق في التطبيق العملي لحرية البناء والتملّك بين عهد الأئمة الاطهار، وبين عصر الظهور ودولة الامام المنتظر، عجل الله فرجه، أن الظروف الموضوعية المحيطة بالتطبيقات العملية للنظام الاسلامي، لم تكن مؤاتية، فالحرية كمفهوم نظري وممارسة عملية، ليس فقط تواجه تحديات السلطة الحاكمة، وإنما الاكثر في تحديات الثقافة الاجتماعية والسلوك الفردي، فاذا كان الحاكم يخشى حصول المواطن العادي على بعض حرياته في التملك والبناء تحديداً، لعدم تطور هذه الحرية الى ما يهدد مصالحه ووجوده على كرسي الحكم، فان هذه الحرية ربما تواجه تحديات من قبل افراد المجتمع نفسه، عندما تكون مصالح افراد كثيرين مهددة بسبب إطلاق هذه الحرية حتى وإن كانت ضمن الضوابط الشرعية والعقلية.

ومثالنا البارز في ذلك؛ في تلك الحادثة المعروفة في عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، جرت بين "سمرة بن جندب" والرجل الانصاري الذي كان له بيت وسط بستان، فيما كان سمرة يمتلك نخلة في هذا البستان، وكان يدخل الى البستان بدون استئذان لرؤية نخلته، فشكاه الانصاري الى رسول الله، فبدأ، صلى الله عليه وآله، باللطف ورغّبه بأثمان كبيرة، فأبى البيع، حتى إنه، صلى الله عليه وآله، رغبه بـ "عذق نمد لك في الجنة"، فبقي مصراً على رفضه، فما كان من النبي إلا أن قال للأنصاري: اذهب واقلع النخلة وارمها اليه، فانه "لا ضرر ولا ضرار".

وهذه ايضاً تحولت الى احدى القواعد الفقهية يدرسها طلبة العلوم الدينية، وتبين مديات حرية التملّك، وأن لا تكون على حساب حقوق ومصالح الآخرين. بيد أن الوضع يختلف تماماً في عصر الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، إذ يكون لدينا نظام دولة عادل بكل ما تعنيه الكلمة؛ فاذا نقرأ في الاحاديث بهذا الخصوص أن الشاة، وهي حيوان، تكون آمنة أمام الذئب، ولن يجرؤ هذا من افتراسها ظلماً، فهل بوسع انسان عاقل ورشيد في ظل هكذا دولة انتهاك حقوق الآخرين بحجة حرية التملك او البناء؟.

ولو ألقينا نظرة على خارطة البلاد الاسلامية نجد أن مسيرة البناء والإعمار تشوبها شوائب كبيرة جداً، فهي إما تقوم على أساس من الغبن والإكراه عندما تكون هنالك مشاريع حكومية او من مؤسسات ضخمة مدعومة حكومياً، او انها تتم بين افراد المجتمع على غير الموازين الشرعية، وهذا ما يجعلنا نشهد حالات التجاوز على أملاك وحقوق الآخرين بطرق ووسائل متعددة.

واذا كانت ثمة مشاريع عمرانية بارزة نشهدها في بعض الدول الاسلامية، فانها لا تصب في الصالح العام، بقدر ما تصبّ في جيوب أفراد معدودين وهم مستثمرون في مشاريع السكن أو الابنية التجارية، بينما نلاحظ في مكان غير بعيد من الابراج الشاهقة والشقق والفارهة، مناطق شاسعة محظورة على عامة الناس بناؤها وتملكها.

وهذا هو عين الدمار والخراب غير المحسوس الذي تفرضه المشاريع الاقتصادية الحديثة على انسان اليوم لتجبره على السكن في اماكن وضيعة بأوضاع مزرية؛ يكفي ان نلقي نظرة على على أزمة السكن في البلاد الاسلامية لنجد الارقام المهولة في العوائل الفاقدة للسكن اللائق، والتي تجبر على دفع مبالغ طائلة لقاء استئجار السكن. فيما يلجأ آخرون الى خيار "العشوائيات" في ضواحي المدن الكبيرة، او ما يسمى في العراق بـ "التجاوز"، وهو مصطلح اجترحته وسائل اعلام الدولة للإشارة الى أراض معينة، بأن الساكنين فيها "متجاوزون على أملاك الدولة..."!!.

هذا في دول هذا العصر، أما في دولة الامام المنتظر، عجل الله فرجه، فان الجميع مدعوون للبناء والإعمار في أرض الله الواسعة، بحيث لن يبق مكان خرب او غير مبني فيما يحتاج فيه الناس الى السكن والابنية لاغراض مختلفة، وذلك دون الحاجة الى "إجازة بناء" او ترخيص من دوائر متعددة، او دفع رسوم وضرائب وغيرها من الامور التي ما أنزل الله بها من سلطان.

اضف تعليق