تتحدث المرأة في العراق وفي بلاد اخرى، عما تصفه بـ "حقّها بالعمل خارج المنزل"، منطلقة من غايات واهداف مختلفة، مثل ضرورة وجود المرأة في بعض المجالات كالطب والتعليم، او غايات لها مدخلية بمسائل التنمية الاقتصادية، وايضاً بإعانة دخل الأسرة وحتى الإعالة في بعض الاحيان.
وفي العراق، حيث كان تفكير المرأة في الحصول على فرص العمل يتراوح في العقود الماضية عند مستويات دنيا، قفز اليوم ليحتل الأولوية ليس فقط تفكير المرأة المتعلمة، بل حتى الطالبة في مرحلة الاعدادية التي اضحت تتطلع الى مقعدها في الجامعة والكلية التي ستنطلق منها نحو العمل في المستشفى او المحكمة او التعليم او مشاريع البناء وغير ذلك. وقد عضدها الدستور في مرحلة ما بعد "ديكتاتورية صدام"، في المادتين 22 و 25 من الدستور العراقي لعام 2005 الذي منح الحق في العمل وتوفير فرص عمل متساوية بغض النظر عن الجنس، علماً أن الباحثين يؤشرون الى وجود خلل في هذا التشريع بعدم تحديد أطر قانونية لمشاركة المرأة في ميادين العمل، كما حصل في ميدان السياسة وتقاسم السلطة، عندما نصّ الدستور أن تكون حصة المرأة في مجلس النواب بنسبة 25بالمئة من أعضاء المجلس.
الفساد الاداري يطارد المرأة
واذا ارادت بنات حواء تحقيق هذا الطموح، ما عليهنّ إلا التفكير بالقاعدة الرصينة التي ينطلقن منها، فالقضية ليست مجرد مطلب بسيط، إنما هي مصيرية تتعلق بالوضع المعيشي وايضاً بالنهج التربوي وآثاره المستقبلية، فنحن أمام مطالب بفرص عمل لنسوة وحتى فتيات معيلات لأسرهن، يكافحن العوز وينشدن الكرامة، فهل بالامكان تحقق ذلك وسط مستنقع الفساد الاداري بكل اشكاله؟!
إن الحقائق على الارض تؤكد التلازم بين المساوئ في ميدان عمل المرأة وبين عمق التدهور في القيم والمبادئ التي يرتكز عليها النظام الاقتصادي والسياسي. وكلما ارتفعت نسبة الفوضى الاقتصادية والاضطراب السياسي، وتفشت مظاهر الفساد الاداري والمالي، كلما ازداد تشوه صورة المرأة العاملة ولحق بها الضرر البالغ، لانها ستكون مندفعة – من حيث لا تريد احياناً- الى الحصول على الوظيفة لدفع مبالغ باهظة، أسوة بالرجل، أو ان تقدم قيمة المادة على قيمة الانسان والاخلاق، في مجالات التدريس الخصوصي او الطبابة، على سبيل المثال لا الحصر.
وإذا استثنينا محاولات تظهر فيها المرأة حرصها على الظهور ملتزمة اكثر من الرجل، بالمعايير القانونية والقيم الاخلاقية في محيط العمل، فان اختلاط المال المشبوه بالدخل الخاص لها، ثم اسقاطاته السيئة على افراد الاسرة، يدخل المرأة في متاهة جديدة يبعدها هذه المرة، ليس فقط عن الاطار القانوني والاخلاقي، وإنما عن تكوينها كإنسانة تتميز بالرقّة والمشاعر المرهفة، لتتحول الى موجود لسان حاله: "إن لم تكن ذئباً أكلت الذئاب". وهو ما يتبادله الرجال في ميادين عملهم.
ولعل البعض يتساءلن عن سبيل الخروج من هذه الدوامة التي لم يكنّ مسؤولات عن وجوده، إنما هو النظام السياسي والاقتصادي الخاطئ؟، نعم؛ ان المرأة في العراق – مثلاً- ليست مسؤولة عن وجود الفساد الاداري المستشري وايضاً المحاصصة السياسية وغيرها من الظواهر السلبية. لكن هذا لا يخلق المشروعية للمال الذي تكسبه المرأة وسط هذا المستنقع، بقدر ما يدفعها للتفكير في الاسهام بتغيير الوضع الاجتماعي والاقتصادي ثم السياسي، كما فكرت من قبل في تطوير دخل الأسرة بمزيد من المردود المالي.
الثقافة الفاطمية.. المنطلق للحل
اذا كانت الغاية التي تنطلق منها المرأة في خوض ميادين العمل، هي البحث عن لقمة العيش الحلال، فان المنطلق لمواجهة خطر تسمم هذه اللقمة بالفساد ، هو الثقافة الفاطمية الداعية الى التصدّي بشجاعة لكل اشكال الانحراف مهما كان حجمه والاطراف التي تقف ورائه.
وفي زحمة المجالس التي تحيي ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء، عليها السلام، تبدو مظاهر الحزن والأسى مخيمة على الاجواء، وهو أمر طبيعي من صميم المناسبة، بيد أن السؤال الذي يقفز أمامنا جميعاً: وهل كانت آلام وأحزان الزهراء، دلالة على الضعف؟
نعم؛ تكوين المرأة وكذا الطفل، تجعلهما في حالة انتكاسة أمام الظلم والعدوان، سواءً باللسان او اليد او قرار جائر، فتهيج المُقلات بالدموع وحسب. ولكن؛ هذا لم يكن كل شيء في مسلسل الاحداث المدوية التي سجّلها التاريخ بعد أيام قلائل من رحيل الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. فما حصل آنذاك تحديداً؛ كان انحرافاً واضحاً عن خط الرسالة والاهداف السماوية التي جاء بها الاسلام. وضحى من أجلها النبي الأكرم. فتحركت الصديقة الزهراء سريعاً باتخاذ الاجراءات اللازمة، وكانت حينها امرأة شابة بنت الثامنة عشر سنة، وهي مرحلة عمرية اذا قارناها بالوقت الحاضر، فانها تكون لفتاة جامعية. كما كانت أم لأربعة اطفال وزوج، جمع بين البطولة القاهرة والسيف البتّار، وبين التزام الصبر والتجلّد حفاظاً على مصير الامة.
ولو تأملنا في آليات المواجهة التي استخدمتها الزهراء، عليها السلام، وجدنا الذكاء المتناهي والدقّة في الاختيار، فهي استخدمت سلاحين طالما أثبتا نجاحهما في التاريخ: الاول: العقل، والسلاح الآخر: العاطفة.
إن الخطبة الفدكية، يمكن عدّها وثيقة تاريخية تدين أول انحراف في الاسلام، لما تضمنته من حقائق ودلائل وبراهين على شدة الانحراف الذي تسبب به طلاب السلطة، فكانت السلاح الذي مزق حجب الجهل وحارب التضليل، وخلال أيام كانت الصديقة الطاهرة قد ألقت الحجة كاملة، على كبار القوم من الصحابة الكبار بمن فيهم قادة الانحراف – الانقلاب، وايضاً على عامة الناس في المدينة، حيث كانت تدور على منازل المهاجرين والانصار، وتبلغهم بحقيقة ما جرى.
أما السلاح الآخر، فكان عبارة عن البكاء. هذا السلاح النافذ والمجرب في حالات عديدة، استخدمته الزهراء لإثارة ما بقي من مشاعر في كوامن الناس، وكانت، سلام الله عليها، في قمة الذكاء حينها، فلم يكن البكاء داخل البيت وبين الجدران الاربعة، إنما كان على مرأى ومسمع من المسلمين، فكانت البداية عند مرقد أبيها رسول الله ، صلى الله عليه وآله، عندما كانت تصطحب الحسن والحسين، عليهما السلام، وتجلس عنده وتنثر من الدمع السخي وتنحب وتشكو ما حلّ بها. وحسب المصادر التاريخية فان البعض من الناس شكى صوت البكاء المستمر ليل نهار من الصديقة الطاهرة، الى أمير المؤمنين، فما كان منه إلا ان يبني لها مكاناً خاصاً تذهب اليه تلقي فيه شجونها وآلامها، ليتحول فيما بعد الى "بيت الاحزان". هذا البيت تحول من بناء صغير من طين، الى رمز ثقافي خالد ينبض في النفوس، وإن غيبت الدواهي أثره المادي.
هذا السلاح البسيط هو الذي أثار المخاوف في نفس كل من أبي بكر وعمر بن الخطاب، على انقلاب الرأي العام ضدهم، فجاءت محاولة التهدئة وامتصاص النقمة بزيارة الصديقة الطاهرة واسترضائها، بما يشبه الاعتذار عما حصل، بيد أنهما خرجا من بيت أمير المؤمنين خائبين.
نعم؛ كانت الزهراء، عليها السلام، صاحبة العزاء وفي الخط الاول من المواجهة، فكانت تجربة البكاء الناجحة للدلالة على قوة موقفها وأنها على حق والطرف الآخر على باطل، والصحيح ايضاً؛ أن هذه التجربة تكشف لنا جميعاً بوجود قدرات كبيرة لدى المرأة في العراق وفي كل مكان، بأن توجه الصفعة القوية لكل أنواع الفساد والانحراف في الدولة والمجتمع، وتوقفه عند حدّه قبل استفحاله وتهديده مصيرها ومصير الآخرين، بالاستفادة من النهج الفاطمي.
فاذا كانت الصديقة الطاهرة وحدها في الساحة آنذاك، فان المرأة في الوقت الحاضر، موجودة في كل مكان وهي تأن كما الرجل تحت وطأة الفساد الاداري، بمعنى أن امكانية مواجهة الفساد اكبر اذا ما تحملت المرأة مسؤوليتها وادركت قدراتها الحقيقية.
اضف تعليق