عندما يأتي الحديث عن "الانسانية" كمطلب جماهيري أمام أهل السياسة والحكم، نجد البعض يأخذ على المتحدث، او المتحدثين، حتى وإن كانوا جماهير متظاهرة بالآلاف في الشوارع، بأنه خطاب "عاطفي" لا صلة له بالواقع الذي يعيشونه، فهنالك حسابات معينة انتجت معايير خاصة للحكم هي التي تحدد الأولويات وما يجب وما لا يجب. أو تفضّل هذا على ذاك، حتى وإن كان في الوسط معاناة وآهات عالية من بطالة وسكن في العشوائيات وحتى تهديد بالموت وما يستتبع ذلك من ترمّل ويتم وتشرّد وغيره، على أن الحديث في أمر الوزارات والرئاسات والموازنات والمحاصصات و.... هي القضايا الأكبر والاكثر اهمية، لانها وحدها التي تقرر مصير الناس وقادرة على حل تلك المشاكل.
وهذا تحديداً ما أشار اليه بوضوح أحد الساسة في الدولة العراقية، لدى سؤالي عن الآلية المفترض اتباعها للتجاوب مع مطالب المتظاهرين في المدن العراقية والمطالبين بالاصلاح، بل ودور هذه الجماهير في عملية الإصلاح وإيجاد مصاديق لمفهوم المشاركة السياسية، فأجاب بهدوء بأن "هذا كلام عاطفي ولا مكان له وسط الحديث عن السياسة والحكم" مشيراً الى البرامج والخطط التي وضعها هذا وذاك، مع إقراره خلال الحديث عن سلسلة النكسات والاخطاء القاتلة.
هذه الرؤية للحكم والفهم للسياسة والادارة، سواءً في العراق أو في أي بلد آخر يدّعي الحكام فيه انتمائهم الى "الاسلام" وإقرارهم بتكاملية وجدوائية النظام الاسلامي في الحياة، اذا قربناه الى تجربة الحكم التي قدمها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، نجد البون الشاسع والفاصلة الحضارية البعيدة بما يفوق أضعافاً الفاصلة الزمنية بيننا وبين حكومة النبي الأكرم في المدينة المنورة وما قدمت للبشرية من دروس عظيمة، مع أنها (تلك الحكومة) لم تدم أكثر من عشر سنوات. فعندما نقرأ عن سيرته مع الناس و إدارته للحكم، وما اتخذه من مواقف وقام به من اعمال، هل يجوز لنا – بعدئذ- أن نوسم كل ذلك بـ "العاطفية"؟!.
علماء الغرب والمستشرقين والمهتمين بالحضارة الاسلامية، فهموا مبكراً دوافع ومقاصد النبي الأكرم من المنهج الانساني والاخلاقي الذي اتبعه في تلك الفترة، واستدلّوا بذلك من قوة التأثير الحضاري المتدفق باتجاه بلاد العالم والانتشار السريع للاسلام في فترة قياسية. فمن خلال تحفيز الجانب الانساني، تمكن النبي الأكرم من بناء الدولة والمجتمع الاسلامي الاول بسواعد المسلمين انفسهم، بعد أن أضاء لهم انسانيتهم فاكتشفوا انفسهم وقدراتهم الكامنة والجبارة، وهو ما كان غائباً او ضائعاً في ظلام الجاهلية، حيث كانت قيم المادة والعنف والعصبية وغيرها من القيم الجاهلية هي المتحكمة بمصير الانسان.
في حياة النبي الأكرم، قيم انسانية وأخرى أخلاقية كثيرة، وفي هذا الحيز المحدود، ومحاولة لاقتباس شيء من تلك السيرة الوضاءة في ذكرى رحيله المؤلم، صلى الله عليه وآله، نذكر بعضها، علّها تضيئ لمن يدعون الانتماء اليه والى الاسلام والقرآن:
أولاً: التسامح
في رواية أن أحد المشركين من بني سليم، جاء رسول الله، فلما وقف بإزائه ناداه: يا محمد....! ثم بدأ بالسباب والتهجم على شخص النبي وهو جالس بين اصحابه، وفي نهاية حديثه هدد النبي بالقتل، فوثب أحد الاصحاب ليبطش به، فقال له النبي، اجلس فقد كاد الحليم أن يكون نبيا، ثم التفت الى ذلك الرجل وقال له: يا أخا بني سليم، هكذا تفعل العرب؟ يتهجمون علينا في مجالسنا، يجابهوننا بالكلام الغليظ؟ وبعد كلام هادئ للنبي مع ذلك الرجل الموتور، انتهى الامر الى إسلام الرجل وتحول داعية الى الاسلام في قبيلته فكثر فيهم المسلمون – كما جاء في الرواية-.
من هذه الراوية نتعلم كيف أن النبي الاكرم، حوّل عدواً لدوداً الى صديقاً حميماً، وما أكثر الذين تعرضوا للنبي بالأذى النفسي والجسدي في بداية دعوته في مكة! والتاريخ حافل بمواقف الصبر على أذى المشركين، حتى هتف قائلاً: "ما أوذي نبي بمثلما أوذيت". وقد استمر الحال حتى بعد انتصاره الكامل على المشركين وفتح مكة واستتباب الامر له في عموم الجزيرة العربية، فان المنغّصات لم تتوقف عليه، فحتى أن البعض شكك في عدالته في توزيع الغنائم، او ذاك الذي كان يريد ان يلتفت اليه النبي ليحدثه، فجذبه من ردائه، وغيرها من المواقف غير الاخلاقية، والتي أطفئت بمواقف انسانية، فلم يصدر من النبي سوى التبسّم واللين والهدوء. وبذلك تمكن من أن يحوّل الناس آنذاك، وهم بين مشرك ومنافق وأعرابي من سكان البادية البعيدة، وبين جاهل بالاحكام وغيرهم، في خانة ما يُعرف حالياً بـ "المواطنين"، تنطبق عليهم قاعدة "الحقوق والواجبات".
بينما لنلاحظ حال حكوماتنا مع الشعوب التي تمدّ يدها وتنتخب وتشارك في العملية الديمقراطية وتصعد هذا وذاك الى قمم السلطة، فان السياسي، وبدلاً من أن يمد يد الصداقة بالمقابل، ناره ما أن يصل الى مكتبه الفخم، حتى يدب في نفسه شعور عارم بأن جميع الذين حوله، أعداء ومنافسين يتربصون به الدوائر، ولعل هذا يفسّر تشبث أبسط مسؤول في الدولة بالسيارات المظللة والحمايات، رغم أن يعلم في قرارة نفسه، إن ذهب الى مكان عمله راجلاً مع عامة الناس، لن يلتفت اليه أحد.
ثانياً: حكومة الخدمات
يذكر لنا التاريخ كيف أن النبي الاكرم كان دائم الحركة في نواحي المدينة، يزور القبائل القاطنة ويجتمع بالناس ويرشدهم ويصلي في مساجدهم ويعود مرضاهم ويسير وراء جنائزهم، ويندب من اصحابه من يريد من مهام الدولة، كما أرسل أحد اصحابه ليكون في مسجد "قبا" اثناء خروج المسلمين على "بدر".
وقد بنا النبي في المدينة خمسين مسجداً، وقد اهتم بعمران المدينة، ثم حثّ الناس على البناء والعمران، بل ودعا البدو المحيطين بالمدينة الى الهجرة نحو المدينة والاستقرار وترك البداوة، وعلى اثر هذه الدعوة قدم الكثير من الاعراب وسكنوا المدينة، و غرفوا من الحضارة والمدنية واصبح لهم شأن في الوسط الاجتماعي.
وحسب المصادر التاريخية فان المدينة اتسعت بسرعة في عهد رسول الله وتزايد عدد سكانها الى قدر الثلث قبل معركة الخندق، وبعدها تضاعف العدد اكثر، والسبب في ذلك يعود الى إفساح النبي المجال امام المسلمين للبناء والزراعة والعمل دون حدود وضرائب، بل كان النبي يوزع عليهم كل ما ورد الى بيت المال، من حقوق شرعية وغنائم. كما كان النبي يكافح الفقر والحرمان، ويشجع على العمل والانتاج ويقرض الفقير ليعمل بدلاً من استعطاء الناس.
ومن أبرز الامثلة على ذلك، جماعة "الصفّة"، وهم جماعة من المسلمين، من لا مأوى لهم فكانوا ينزلون في المسجد، وقد وصل عددهم حسب بعض المؤرخين الى (400) شخص، فكان النبي يوفر لهم سبل العيش الكريم، وحتى كان يسعى لتزويجهم ويوفر لهم المسكن اللائق وفرصة عمل.
ثالثاً: الأخوة
أسقط النبي الأكرم، أهم حاجز نفسي في طريق العلاقات الانسانية، من خلال شعار "الأخوة" فأذاب الفوارق القومية والعرقية والاجتماعية في بوتقة الاسلام، في حين كان السائد أن العربي لا يعترف بالفارسي ولا الحر يحترم العبد، بل كان الاحتراب والإذلال والتمزق هو السائد في مجتمع الجاهلية، فالمؤاخاة التي أقدم عليه النبي الاكرم في بداية دخوله المدينة، كانت بمنزلة الخطوة الاولى للبناء الحضاري لاول مجتمع اسلامي. فالشعور الذي غمر المسلمين بأنهم "متساوون مثل أسنان المشط" هو الذي جعلهم يتفانون من اجل الاسلام، سواء في علاقاتهم الاجتماعية، او خلال مشاركتهم في الحروب الدفاعية، فكانوا مصداق الحديث الشريف: "يسعى بذمتهم أدناهم"، وهذا ما استوقف الاعداء من دول عظمى كانت تتربص الدوائر حول الدولة الاسلامية الفتية، مثل الفرس والروم، فكانوا يجدون في الرسول المبتعث من قبل النبي الاكرم، كأنه قطعة وجزء لا يتجزأ من الجيش الاسلامي، فهو لا يجلس الى الفراش الوثير لانه ترك اخوانه على التراب...
وطالما أكد النبي على مفهوم التماسك الاجتماعي، وأن لا ينزلق المسلمون نحو التشرذم والتمزق، ابتداءً بالأسرة ومروراً بالمجتمع وحتى الامة الواحدة والكبيرة. فجاء حديثه الشهير عندما مثّل المؤمنين بأنهم "كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
بهذه الروح الانسانية شيّد النبي الاكرم صرح الحضارة وبنى دولة الخدمات وأنشأ مجتمعاً حيوياً ومتماسكاً على القدرة على صنع المستحيلات، واذا نلاحظ النجاح والتفوق في بعض البلاد، ونوعاً من الرفاهية والسعادة على بعض الشعوب والمجتمعات ، فيجب ان نلتفت فوراً الى بعض الجوانب الانسانية التي تمت رعايتها – ونقول بعض وليس كل- وإلا فان رعاية الجوانب الانسانية كانت كاملة والى أبعد الحدود في حكومة النبي الاكرم، وهذا ليس مما يعتقد البعض أنه من المثاليات، فالتاريخ يشهد على النتائج الباهرة التي اكتسبها انسان الجزيرة العربية، وما اطلقته الحضارة الاسلامية من اشعاعات انسانية عمّت البشرية من اقصى الشرق الى اقصى الغرب.
نعم؛ يكون التوجه الانساني ضرباً من المثالية، عندما ينصبّ الاهتمام على القيم المادية، مثل الربح والخسارة والنفوذ والهيمنة بكل الوسائل. وعلى تفاصيل الحكم والسياسة التي يفترض انها تتمخض من القيم الانسانية والاخلاقية، لا أن تكون ضحية المصالح والمطامع والرؤية الضيقة لاشخاص يدعون أنهم الأجدر للحكم في البلاد الاسلامية.
اضف تعليق