حين نقرأ سيرة الإمام محمد الجواد (ع)، نحن لا نقرأ تاريخًا مضى، بل نفتح صفحة من صفحات الإنسان الكامل. هو ليس شخصيةً نحتفل بها كل عام، بل مرآة نسأل أنفسنا فيها هل جُدنا بشيء من علمنا؟ من حلمنا؟ من وقتنا؟ أم بقينا نختصر الجود في صدقةٍ تُرمى على عجل؟...

لو أن للجود ملامح، لكان وجهًا باسمًا من آل محمد. ولو أن للكرم صوتًا، لكان صوته نبرةً هادئةً تُشعرك بالأمان. ولو أن للعطاء طريقًا يسير على الأرض، لكان هو خطى الإمام محمد الجواد (عليه السلام) تمشي بثبات بين الناس.

ففي التاريخ، كثيرٌ من الأسماء. لكن قلّ من كان اسمه مرآةً لحقيقته. الإمام محمد الجواد (عليه السلام) لم يُلقب بـ"الجواد" مجازًا، ولا كان ذلك من باب التفخيم، بل لأنه كان ترجمة حيّة لمعنى الجود، بوجهه الكامل الذي يعلو على عطاء المال ليبلغ جود العلم، والعقل، والخلق، والروح.

الجود حين يُولد صغيرًا

ما إن استُشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، حتى وُضعت الأمة أمام تجربة جديدة: إمامٌ صغير السن، عظيم المقام. تساءل الناس: كيف لطفلٍ لم يتجاوز الثامنة أن يحمل إرث النبوة والإمامة؟

لكن الجواب لم يتأخر كثيرًا. فحين جلس الإمام محمد الجواد (عليه السلام) في مجلس المأمون، وأدار مناظراته مع كبار الفقهاء، لم يكن يجيب فقط، بل كان يفتح أبواب الجود الفكري الذي بقي مغلقًا منذ حين.

علمه لم يكن سردًا محفوظًا، بل كان نورًا يهدى به السائل، ويُربك به الماكر، ويُنقذ به من ضلّ الطريق. وهنا يكمن أول مظهر من مظاهر جوده: أن يمنح من عقله قبل ماله، ويهب من نوره قبل دنياه.

الجود في لحظة لا يُنتظر فيها المقابل

يُحكى أن رجلًا طرق باب الإمام طالبًا العطاء. فقال له الإمام: “أعطيك على قدرك أم على قدري؟”

تحيّر الرجل من السؤال، فقال: “بل على قدرك يا ابن رسول الله.”

فأعطاه الإمام عطاءً أغناه، لا ليُقال كريم، بل لأن قلبه ما اعتاد أن يرد محتاجًا.

الإمام لم يكن غنيًا بمقاييس الخلفاء، لكنه كان غنيًّا بكيفية نظرته إلى النعمة. فالجود، عنده، لا يقاس بكمٍّ بل بروح. والكرم لا يُختبر حين يفيض المال، بل حين يندر، ويكون العطاء من قوت النفس لا من فُضولها.

عندما يتجسد الجود في الموقف

في بلاط العباسيين، كانت الإمامة تحت الرقابة، والإمام تحت الظن. ومع هذا، لم يُهادن الإمام على حساب الحق، ولم يُساوم على كرامته. بل ظلّ الجواد الذي يجود بثباته، حتى في أحلك لحظات الضغط السياسي والديني.

لم يكن يُشهر سيفًا، لكنه كان يذيب سيوف الباطل بمنطقٍ لا يُرد، ووقارٍ لا يُخترق. وهنا نكتشف وجهًا آخر من الجود: أن تجود بثباتك حين يضعف الجميع، وبحكمتك حين يضج الناس صخبًا.

الجود كرسالة زمنية لا تاريخية

لو عاش الإمام الجواد (عليه السلام) في زماننا، لكان جوده موقفًا ضد الجوع، وقلمًا يفضح الظلم، ويدًا تمسح على رؤوس اليتامى في الأزقة المنسية. الجود في عرفه ليس لحظة إعجاب، بل طريقة حياة. لا يحدّه زمن، ولا يُؤطره سياق.

هو الجواد الذي علّمنا أن تكون كبيرًا دون صخب، عالِمًا دون غرور، كريمًا دون منّة، وثابتًا دون استعراض.

خاتمة لا تُغلق الباب

حين نقرأ سيرة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، نحن لا نقرأ تاريخًا مضى، بل نفتح صفحة من صفحات الإنسان الكامل. هو ليس شخصيةً نحتفل بها كل عام، بل مرآة نسأل أنفسنا فيها:

هل جُدنا بشيء من علمنا؟ من حلمنا؟ من وقتنا؟ أم بقينا نختصر الجود في صدقةٍ تُرمى على عجل؟

الإمام الجواد (عليه السلام) لم يكن "جوادًا" لأنه أعطى، بل لأنه أعاد تعريف العطاء في زمنٍ تشوّهت فيه القيم.

فطوبى لمن سار في درب الجواد، لا بالاسم، بل بالفعل.

اضف تعليق