نحن نبتهج بهذه المناسبة السعيدة، نتعرف على مدى تكريم وتعظيم الإسلام للأسرة ككيان اجتماعي ومنظومة علاقات انسانية راقية، ولعل رسول الله ينفرد بهذه الخاصية بين سائر الانبياء والمرسلين في انطلاق دعوته من أسرته وعشيرته لتكون مسيرة الدعوة ذات قاعدة اجتماعية متينة قادرة على تحمل المسؤوليات الجسام...
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
سورة الشعراء، الآية214
هذه الآية المباركة نزلت على قلب النبي الأكرم بعد نزول سورة المدثّر: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ}، أي أن تكون بدايتك بالانذار من عصيان جبار السموات والارض، من الدائرة الصغيرة في مجتمعك الصغير في مكة، وهم بنو هاشم، وقبل أن نستجلي اسباب هذا الاختيار دون عشيرة النبي، وهي قريش كلها؟ نلفت القارئ الكريم الى نبذة تاريخية مختصرة لتاريخ العلاقة بين هاشم وأمية ليتضح لنا جانباً من الاجابة عن هذا السؤال، ثم التعرف على المواصفات المطلوبة لتحمّل مسؤولية رسالة سماوية تنطوي على منظومات أخلاقية وقيمية وأحكامية لم تشهد لها البشرية نظيراً لها من قبل.
ينحدر هاشم وأمية من أسرة قرشية واحدة جدّهم الأكبر قصي بن كلاب القادم من اليمن بعد انهيار سد مأرب وغمر مياهه مساحات واسعة من الاراضي الزراعية والمناطق السكنية مما اضطر أهلها للنزوح الى مكة في القرن الخامس الميلادي، وفي هذه المدينة تجلّت العلاقة الايمانية بين هذه الأسرة تحديداً وبين الكعبة المشرفة لمعرفتهم بأنها تمثل الإرث والمَعلَم الوحيد لنبي الله ابراهيم، فكان التنافس على سدانتها على أشدّه آنذاك، حيث كان "القرشيون يشددون في تعظيم البيت وتقديسه، وقالوا: نحن بنوا ابراهيم وأهل الحرم و ولاة البيت، وقطان مكّة، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا"، (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني)، فكانوا يلتزمون بمراسيم خاصة بالحج لبيت الله الحرام ابتدعوها لانفسهم، مثل لبس ثياب "الحمس" للطواف حول الكعبة، وهي كناية عن الصلابة والتشدد في الدين، فإن لم يجدوا هذا النوع من الثياب طافوا عراة؛ رجالاً ونساءً!
ولد لقصي ابنٌ سُمي المغيرة وعُرف بعبد مناف، وقبل موته أوصى له بالرئاسة والسقاية، فيما وزع المسؤوليات الاخرى لسائر أبنائه، وفي عهده قويت شوكة قريش بين سائر القبائل العربية في مكة نظراً لحسن ادارته لبيت الله الحرام، الى جانب اكتسابه القوة والمنعة أمام المنافسين والطامعين، "فوجدت العرب في عهده نوعاً من الهدوء والاطئمنان أفضل مما كان في عهد أبيه"، ثم ولد لعبد مناف عدة أولاد منهم؛ هاشم وبعد شمس، وربما هو التقدير الإلهي بأن يكون يكون هاشم توأماً في الولادة مع عبد شمس في حادثة غريبة استوقفت نساء العرب آنذاك، فقد ولدا ملتصقين، مما أجبر القابلة على فصلهما بسكين، فقيل يوم ذاك: إن هذين سيحصل بينهما من التقاطع ما لم يكن بين أحد من الناس!
شبّ الولدان، وشبّت معها نزعة الحسد وعقد النقص الكامنة في عبد شمس التي اورثها ابنه أمية، فأظهر النزاع مع عمّه على زعامة مكّة و سدانة الكعبة، واشتدّ النزاع ليصل الى "الكاهن الخزاعي" ليكون حكماً بينهما، وجعلا بينهما شرطاً خمسين ناقة لصاحب الحق، و أن يبقى المغلوب بعيداً عن مكة لمدة عشرين عاماً، وكانت نتيجة التحكيم لمصلحة هاشم، فاستلم من ابن اخيه الإبل ونحرها لتكون طعاماً للحجاج ، وتكون الزعامة لبيت هاشم، ومن بعده لابنه شيبة المعروف بعبد المطلب، وكان هاشم هذا ذو نفس طيبة تميّز بها بين العرب، فالى جانب هشمه الثريد، وهو مزيج اللحم بالخبز، كما يروي لنا التاريخ، كان يعين العرب على تجارتهم فيحمل ما عندهم وهو في طريق تجارته الى الشام دون أن يتخذ على ذلك أجراً.
ارتأيت تقديم هذه النبذة التاريخية لنعرف الخلفيات النفسية الصانعة للمواقف والقواعد المؤهلة لتحمل مسؤوليات عظيمة، وربما تكون هي الأمانة التي كشف عنها القرآن الكريم في الآية الكريمة: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}، (سورة الاحزب، الآية72)، فكان تأسيس قاعدة الانطلاق من بني هاشم دون بني أمية رغم إن البيتين يعودان الى جد واحد، فدعا رسول الله علياً لإعداد مأدبة طعام لكبار العائلة، وكانوا حوالي اربعين رجلاً، فيهم أعمامه؛ أبوطالب، والحمزة، والعباس، و ابولهب الذي كان أشدهم رفضاً وتكذيباً لدعوة النبي اليهم للإسلام، علماً أن النبي كرر المأدبة مرتين، وبعد الفراغ من الطعام والشراب، بادرهم النبي بكلام عذب رقيق: "ما أعلم انساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتكم به، لقد جئتكم بخير الدنيا والاخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصييّ وخليفتي فيكم من بعدي"؟
وحصل ما حصل من نهوض أمير المؤمنين، عليه السلام، مستجيباً لنداء رسول الله، وهو يومذاك حدثاً صغير السن، من بين أعمامه وكبار القوم، وأعلن النبي خلافته من بعده في تلك الجلسة التاريخية قبل أن ينتشر شعاع الإسلام من بيوت الهاشميين، ومن مدينة مكة.
تعظيم الإسلام للأسرة
ونحن نبتهج بهذه المناسبة السعيدة، نتعرف على مدى تكريم وتعظيم الإسلام للأسرة ككيان اجتماعي ومنظومة علاقات انسانية راقية، ولعل رسول الله ينفرد بهذه الخاصية بين سائر الانبياء والمرسلين في انطلاق دعوته من أسرته وعشيرته لتكون مسيرة الدعوة ذات قاعدة اجتماعية متينة قادرة على تحمل المسؤوليات الجسام، الى جانب حقيقة هامة أخرى نستلهمها من مناسبة المبعث النبوي الشريف؛ وهي الإرادة الإلهية في جعل مسيرة الرسالية مطابقة للواقع الانساني ولمعادلة السبب والمسبب، مع تقليل دور المعجزة لتحقيق الإيمان في النفوس، وليكون هذا الايمان نابعٌ من قناعات نفسية وعقلية ذاتية؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}.
أما العبرة من اختيار العشيرة الأقرب للبدء منها في تبليغ رسالة السماء، وهي الرسالة الخاتمة، فربما تحمل الكثير من الاسباب والعلل، نكتفي بسبب واحد وهو سرعة اختبار الأفضل فالأفضل من بين افراد هذه العشيرة، كون الأخلاق والولاء والأيمان درجات، تعلو وتتسافل مع مرور الزمن لاسباب وظروف عديدة، واذا نبحث سيرة بني هاشم في مسيرة الرسالة نجد إن أول اختبار سقط فيه بنو العباس كان في عهد الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، يفصله عن ذلك اليوم المشهود فترة قصيرة جداً قياساً بالبناء الحضاري الكبير الذي شيّده النبي الأكرم، وأمير المؤمنين في تضحياتهم وجهادهم، إذ لم يمض سوى حوالي 45سنة ففط، فقد بانت حقائق النفوس وظهرت الكوامن أمام الدينار والدرهم، وبقيت هذه الحسيكة ترافقهم حتى نهاية الحكم الأموي وتطلعهم نحو قمة السلطة مظهرين الولاء لأهل بيت رسول الله، (يالثارات الحسين)، ومستبطنين نواياهم بالتملّك وإن كان بثمن سفك دماء أهل بيت رسول الله انفسهم، وهو ما حصل.
ولم يتوقف الاختبار في البيت الهاشمي، إنما استمر في البيت العلوي ايضاً، عندما رأى أبناء الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، التحالف مع بني العباس للقضاء على الأمويين على أمل أن تعود الخلافة لآل أبي طالب، وهو ماحذر من هذه الخديعة، الامام الصادق، عليه السلام، العارف ببواطن الأمور، وحصل ما حصل من مجزرة مريعة بحق ابناء الامام الحسن، وقد كتبنا عن هذا الموضوع سابقاً، وتأسيس دولة باسم "الدولة العباسية"، عاثت في البلاد فساداً، وأغرقت السجون بالدماء والأشلاء بما يعجز عنه الوصف.
المشكلة ظهرت في قصور البعض عن فهم مغزى الرسالة السماوية وفلسفتها بالاساس، فهل هي لتلبية رغبات الانسان بالتملّك والسيادة والتصرف بالاموال كيف يشاء؟ أم هي طريق {ذات الشوكة}، يريد منه الله –تعالى- التضحيات لنشر قيم العدل والحرية والمساواة والفضيلة؟ وأن يكون الإيمان ليس بالقوة وإنما بالمروءة، ومن خلال الوعي والتفهّم والتعقّل كما بدأها أول مرة رسول الله مع أبناء قومه في المدينة ثم مكة، ثم جميع ارجاء الجزيرة العربية، ثم انتشر الإسلام الى آفاق الأرض، فكلما وجدنا الخلق الرفيع، والقيم الانسانية، والاحكام التي تحفظ للانسان حقوقه وكرامته وجدنا الإسلام هناك.
اضف تعليق