بعد أن وجدت أن وقوفها خلف الباب في فترة حياة أبيها رسول الله، لم يكن كافياً لجلي النفوس والقلوب مما تراكم عليها من الصدأ، وقد حالت القسوة والفضاضة دون الاستفادة من دروس العفّة والحجاب و وجوب الحفاظ على حرمة المرأة في بيتها، اضطرت الصديقة الزهراء، عليها السلام، لأن تكون خارج باب دارها تخوض حرباً مكشوفة غير متكافئة...
"أيها الناس اعلموا أنّي فاطمة و أبي محمد".
بعد أن وجدت أن وقوفها خلف الباب في فترة حياة أبيها رسول الله، لم يكن كافياً لجلي النفوس والقلوب مما تراكم عليها من الصدأ، وقد حالت القسوة والفضاضة دون الاستفادة من دروس العفّة والحجاب و وجوب الحفاظ على حرمة المرأة في بيتها، اضطرت الصديقة الزهراء، عليها السلام، لأن تكون خارج باب دارها تخوض حرباً مكشوفة غير متكافئة، وبكل بسالة تدافع عن الولاية والإمامة، متجسدة بأمير المؤمنين الذي تم اعتقاله لإجباره على بيعة أبي بكر.
شجاعة فائقة في الدفاع عن حق الزوج
يالها من شجاعة وبسالة لا توصف! وقوف الصديقة الطاهرة بوجه زمرة الانقلابيين الطغاة، وهي ليس فقط تفتقد لوسائل الهجوم، وعوامل القوة، مثل؛ العشيرة، او الجاه، أو المنصب، أو العلاقات الاجتماعية والسياسية، إنما كانت تحمل في بدنها آثار الجراح الغائرة بسبب الضرب المبرح من قبل أكثر من شخص ثبّت التاريخ اسماءهم، مع أذىً نفسي بالغ تسببه اجهاض جنينها بفعل ذلك الاعتداء الآثم.
كل هذه الآلام المبرحة لم تمنع زوجة مخلصة مثل الصديقة الزهراء أن تلحق بزوجها الى حيث مقر الحكم الجديد، بعد أن أفاقت من غيبوبتها من شدة الآلام، بعد اقتحام قوة مرسلة من الحاكم الجديد، بيتها لإجبار زوجها (أمير المؤمنين) على البيعة التي رفضها بشكل قاطع.
هنا تجدر بنا وقفة تأمّل؛ فالصديقة الزهراء لم تغير مكانها من خلف الباب الى أمام الباب إلا لمهمة رسالية تدافع فيها عن القيم والمبادئ وتعاليم السماء، ربما لو لم تكن أفعال عمر بن الخطاب، و اسلوبه العدواني المشين، وتهديده بحرق الدار –كما تؤكده عديد مصادر أهل السنة- لما خرجت، عليها السلام، من دارها؛ لا هذه المرة، ولا المرة الثانية للمطالبة بحقها المغصوب في أرض فدك.
فكان موقفها الشجاع والبطولي الذي سجله التاريخ أنها "أخذت بيد ولديها: الحسن والحسين، وما بقيت هاشمية إلا وخرجت معها، ونظرت السيدة فاطمة الى زوجها أبي الحسن وهو تحت التهديد بالقتل، فأقبلت تعدو وتصيح: خلّوا عن ابن عمّي! والله لأكشفنّ عن رأسي ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ الله عليكم".
وبذلك؛ ردّت الزهراء تهديدهم بالسلاح بتهديد السماء، وجاء في بعض المصادر: "فما ناقة صالح بأكرم على الله منّي، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولديّ"!، فأشار أمير المؤمنين الى سلمان بأن "أدرك ابنة محمد، فأقبل سلمان وقال: يابنت محمد، إن الله بعث أباك رحمة فارجعي، فقالت: يا سلمان يريدون قتل علي! ما عليّ صبر، فدعني حتى أتي قبر أبي"، فما رجعت الى بيتها إلا ومعها زوجها أمير المؤمنين، بعد أن أبعدت عنه ضغوط البيعة الباطلة.
فدك.. صوت الحق المغصوب
جرى الحديث مفصلاً عن أرض فدك، وكتب عنها الباحثون الكثير، إنما المهم في طريقة تعامل الصديقة الزهراء للمطالبة بحقها المسلّم والمشروع في خروجها الثاني من دارها، وكان بخطوتين:
الخطوة الأولى: منطق العقل والدليل والبرهان على ملكيتها بثلاثة وجوه؛ الاول: كونها مالكة للارض طيلة فترة حياة أبيها رسول الله، والثاني: تمليكها من رسول الله "نِحلة"، وهو نوع من العطاء جاء بعد غنيمة الأرض من غزوة خيبر التي لم يتجشم المسلمون عناء القتال، فكانت خالصة لرسول الله بنصّ الآية الكريمة: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير}، ثم نزل عليه الوحي بالآية الكريمة: {وآت ذا القربى حقه}، بمعنى؛ الأمر باعطاء الارض الى فاطمة، والوجه الثالث: الإرث.
جاء في المصادر أن الزهراء، عليها السلام، جاءت الى أبي بكر وهو بين جموع المسلمين في المسجد النبوي وخاطبته بالسؤال: لم تمنعني من ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها رسول الله لي بأمر من الله"؟ قال: هاتي على ذلك بشهود، فجاءت بأم أيمن فقالت: لا أشهد يا أبابكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال: أم أيمن من أهل الجنة؟ فقال: بلى، قالت: فاشهد أن الله –عزوجل- أوحى الى رسوله: {وآت ذا القربى حقه}، فجعل فدك لها طعمة بأمر الله –تعالى-، وجاء أمير المؤمنين، وشهد بنفس الشهادة، بينما الانقلابيون كانوا مصرين على تجاهل أحكام الدين بتزويره والكذب على رسول الله بأنه قال: "نحن معاشر الانبياء لا نورث"! حتى أن مطالبة أبي بكر الصديقة الزهراء بالشهود تُعد مخالفة للعقل والشرع، فالمفترض أن الشهود والبينة على من يدّعي الملكية وليس على من بيده الشيء.
الخطوة الثانية: الإعلام
اختارت الزهراء، عليها السلام، مسجد رسول الله وهو يعجّ بالمسلمين في الايام الأولى من تولّي الانقلابيين الحكم، ولم تأت لوحدها، وإنما جاءت بمعية نسوة من أهل بيتها و اقربائها فيما يشبه التظاهرة النسائية وسط المدينة، ثم اتخذت ناحية من المسجد، فأقاموا لها حاجزاً يفصل بينها وبين الرجال، ثم انطلقت في "خطبة ارتجالية، منظمة، منسّقة، بعيدة عن الاضطراب، في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة والتهريج والتشنيع، وتعد معجزة خالدة وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصديقة الزهراء". (فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد- السيد كاظم القزويني).
و أرى من الجدير بكل محب للحقيقة والعدل أن يطالع هذه الخطبة العصماء ليرَ ما فيها، غير البلاغة والفصاحة؛ اللغة المباشرة، والحجج الدامغة، في تقريع المسلمين بما جنوا به على أنفسهم، مع تذكيرهم بماضيهم المرير، وما كانوا عليه من الذل والهوان، ثم ما حصلوا عليه من العزّ والكرامة بفضل تضحيات أباها رسول الله، وأمير المؤمنين، وما تحملوه من معاناة ومحن.
ابتدأت خطبتها الطويلة بمقدمة عقائدية، حمدت الله وأثنت عليه: "الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر ما ألهم، والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها"، ثم التفت الى أهل المجلس تخاطبهم بلغة الاسلام، مذكرة إياهم بالمسؤولية الشرعية والأخلاقية: "أنتم -عباد الله- نصب أمره ونهيه، وحملة دينه و وحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه الى الأمم". وفي فقرة أخرى تحدثت عن النبوة ومكانتها في حياتهم: "أيها الناس اعلموا أني فاطمة و أبي محمد، أقول عوداً وبدءاً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا افعل ما أفعل شطاطا، {لقد جاءكم رسول من عند انفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، فان تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعمّ المعزِيّ إليه".
وبعد أن تطرقت الى دور ومنزلة أمير المؤمنين في الاسلام، ومكانته من رسول الله، اطلقت سهام اللوم والتقريع مباشرة للجموع الحاضرة والصامتة: "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان، او فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهيبها بسيفه... ثم أردفت بالقول: فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً لكم فألفاكم لدعوته مستجيبين".
ثم توجهت الى أبي بكر مباشرة: "ياابن ابي قحافة! أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي؟ {لقد جئت شئياً فريّا}، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: {و ورث سليمان داوود}.
الخطبة طويلة وصاعقة، مفعمة بالحجج والبراهين، واللوم والتقريع، وقد أدت دورها التاريخي في إماطة للثام عن وجوه الانقلابيين وكشف حقيقة انحرافهم، بل وتوثبهم على ميراث النبي في الولاية والتشريع والحكم آخذين بزمام الأمور الى حيث رغباتهم ومصالحهم كما كانوا عليها أيام الجاهلية.
وهذا أحد أبرز دوافعهم لنكث العهد، فبينما كانت الصديقة الزهراء تحدثهم بلغة القرآن الكريم والقيم السماوية، كانوا يجيبونها بلغة الجاهلية، وهي الهيمنة والسلطة والقوة في المال والسلاح، لذا كان من الصعب عليهم الاقرار بحق الزهراء في فدك، وهم يعلمون علم اليقين بحقها فيه، وذلك لسببين؛ الاول: اقتصادي، حيث تكون الزهراء وأهل بيت النبوة، والأئمة من بعدهم، ذوي قوة مالية هائلة، فقد قدرت المصادر التاريخية الوارد المالي لمزارع فدك، بين 20 الى 70الف دينار ذهب سنوياً، و هو مبلغ طائل جداً، أما السبب الثاني؛ فهو سياسي، وقد كشف عنه ابن أبي الحديد المعتزلي في تفسيره لنهج البلاغة، أنه "سألت علي بن الفارقي، مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: بلى، قلت: فلم لم يدفع اليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت اليه غداً و ادّعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار"!
ليس المهم أن تحصل الزهراء على تلك القطعة من الارض، ولا عند أمير المؤمنين، والأئمة المعصومين من بعده، وهم يعرفون منزلتهم عند الله، وأن المذخور لهم في الآخرة أعظم وأكبر بما لا يقاس بشيء من هذه الدنيا مطلقاً، إنما العبرة في تكريس ثقافة المطالبة بالحقوق المشروعة، ومواجهة الانحراف والتضليل وما من شأنه الزجّ بالناس الى المهالك والمتاهات وسفك الدماء وانتهاك الحرمات، وهذا ما بينته الصديقة الطاهرة من خلال وقوفها خلف الباب، في مرحلة من المواجهة المحتدمة، ثم في وقوفها أمام الباب في مرحلة لاحقة وحاسمة.
اضف تعليق