ومن أعظمِها، برأيي، العِلمُ والعملُ، طبعاً بشرطِهما وشروطِهما، فهما صنوان مقرونٌ أحدُهما بالآخر، كما يصف ذلك امير المؤمنين عليه السلام بقوله {الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ}.
فبالعلمِ يحيا الانسانُ ويُحسن طريقة تفكيرهِ، وقبل ذلك، فهمهُ للأمور والاشياء، وبه يُحسن عملهُ وإنجازهُ، وقبل ذلك إختيارهُ.
كلّ شَيْءٍ يفهمه الانسانُ بالعلم، الدين والدنيا والاخرة والمصالح والمفاسد، وبالعلم يتحقق العمل الصالح، أكان للدنيا أم للآخرة.
ولذلك فلقد وصف امير المؤمنين عليه السلام (المتقين) بقوله {وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ} وكانهم لا يسمعون لهواً ولا يضيعون وقتاً لعلم لا ينفع، وما أكثره اليوم.
ومن كلام للامام (ع) لكميل بن زياد النخعي، يقول فيه {يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الاْنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ، يَا كُمَيْل بْن زِيَاد، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الاْنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الاْحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، يَا كُمَيْل بْن زِياد، هَلَكَ خُزَّانُ الاْمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ}.
أمّا ما ينبغي ان يميّز العمل:
اولاً؛ ان يتطابق مع القول فلا يتناقض الفعل مع القول، والا فسيكون نفاقاً، ولذلك حذّر القرآن الكريم من التناقض بين القول والفعل بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
الثّاني؛ ان تسبق الذّات الاخرين، فاذا كان فِعلُ خيرٍ فينبغي ان يُبادر اليه المرء قبل ان يدعو الاخرين اليه، واذا كان شراً فيمتنع عنه قبل ان يمنع الاخرينَ عنه.
ولقد تحدّث امير المؤمنين (ع) عن هذه الخصلة الاستراتيجية المهمة التي تُعٓدُّ حجر الزاوية في بناء شخصيّة الانسان بقوله في إحدى خطاباته {أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَة إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَا كُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا}.
وتلك هي العظمَة في شخصيّة الامام.
وبالعلم والعمل يتحقّق التغيير المرجو والإصلاح المطلوب، وانّ ما نراه اليوم من سوء حال بلادِنا ومجتمعِنا فانّما سببهُ الجهل والتخلّف والتّقاعس عن العمل والبطالة المقنّعة التي توقّف بسببها الانتاج الحقيقي وعلى مختلف الاصعدة، او تناقض الفعل مع القول، او اننا مشغولون بعملٍ ليس في محلّه او ليس في مكانه، أو انّ اكثر شغلنا الكلام، وهي من علامات غضب الله تعالى كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قولهُ {إن الله إذا غضِبَ على قومٍ ابتلاهم بالجدل ومنعهم العمل}.
امّا امير المؤمنين (ع) فيصف ذلك بقوله {وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالاْسْهَابِ} وهو [ذهاب العقل أو كثرة الكلام، أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة].
لقد ابتُلي مجتمعنا اليوم، وخاصّة الجيل الجديد من الشّباب، بحالةٍ مرعبةٍ من التّسطيح الفكري والثقافي تُنذر بمخاطر جمّة، على رأسها سهولة التّضليل الى درجة الاستحمار، والى عمليّات غسل الادمغة، وذلك للاسباب التالية؛
الف؛ التّوقف عن القراءة الجديّة، والاكتفاء بما تنشرهُ وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف اشكالِها، والتي تحمل إلينا يوميّاً كمّاً هائلاً من الاكاذيب والدعايات والإشاعات والأخيار الموجّهة لتحقيق غايات معينة وأجندات خاصة، منها التسقيط السياسي وبثّ الفُرقة وعبادة الطّاغوت وصناعة الديكتاتوريّات.
لمْ يعُد للكتابِ موقِعٌ لا في البيت ولا في محل العمل ولا في السوق، فكلّ ما يوجد على الرّف لا يعدو كتب الاحلام وتعلّم اللغات وعن فَنِّ الطّبخ والصّحة وتفسير الاحلام وفكّ الأحرار والطّلاسم وأعمال السّحر والشّعوذة، وجلّها كتب تجاريّة ليس فيها أيّة مادّة حقيقيّة.
باء؛ امّا نوعيّة الثّقافة التي يسمعها المتلقّي عندنا فلا تعدو كونها احد نوعين؛
امّا ثقافة الاحلام والخُزعبلات وثقافة الدّجل والاكاذيب.
او ثقافة الاستغراق بالماضي السّحيق وكأنّنا لسنا جيل القرن الواحد والعشرين، وليس بخافٍ عن أحدٍ ان كلّ تفاصيل الحرب الطّائفية المشتعلة على الارض في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج، وكذلك المشتعل أُوارها في الفضائيّات، سببها ثقافة الماضي والانشغال بتفاصيل التّاريخ وكأنّنا نعيش خارج المنظومة الشّمسية او خارج التّاريخ، لا نتفاعل مع حاضرِنا ولا نُفكّر ونخطّط لمستقبلِنا، مشغولون بالماضي من دون السعي لاستحضاره في واقعِنا تجارب ودروس وعبر وخبرات متراكمة، ولذلك لا ترانا نستفيد منه قيد أنملة، ولهذا السّبب يتكرّر عندنا التاريخ بأسوء فصولهِ وتفاصيلهِ.
من جانبٍ آخر فانّ جلّ المتحدّثين والخطباء والوعّاظ عندنا والكُتاّب واصحاب الرّاي فقدوا مصداقيّتهم في المجتمع لانهم يقولون ما لا يفعلون، الامر الذي فقد فيه كلامهم وتوجيههم ورأيهم تأثيره في المجتمع، لانّ الناّس، عادةً، لا تبحث عمّن يقول وانّما تجد ضالّتها وتتأثّر فيمن يفعل ويعمل وينجز، فالمجتمع يبحث عن نماذج فعل وليس قول، فانّ بائعي الكلام كثيرون جداً امّا العاملون فقليلون جداً، ولذلك فقدت الكثير من العمائم قيمتها وتأثيرها حتى غابت بصمتها عن الحياة العامّة، فعندما يسمع الناس أصحابها يحرّضون على العنف والارهاب ويبّررون لجرائم الأنظمة المستبدّة والشّمولية، كما هو حال اصحاب العمائم القابعين في دولة (موزة العظمى قطر) والاخرين المحميّين في بلاط نظام القبيلة الفاسد الحاكم في بلاد الحرمين الشّريفين، من الّذين برّروا المأساة التي شهدها موسم الحج هذا العام ورفضوا ان يتحمّل النظام أيّة مسؤولية على مقتل وجرح الالاف من ضيوف الرحمن وحجاج بيته العتيق، وكذلك تبريرهم لجرائمه البشعة في البحرين واليمن، والتي ستبقى وصمة عارٍ في جبين الانسانيّة وتحديداً في تاريخ المسلمين عندما سيكتبُ التّاريخ ان قُرابة ملياري مسلم في العالم لاذوا بالصّمت إزاء ما يتعرّض له اخوانهم في اليمن، بسبب تمكّن اموال البترودولار من قطع الألسنة وتكسير الاقلام، عندما يرى الناس اصحاب مثل هذه العمائم الفاسدة تقول ما لا تفعل وتفعل عكس ما تقول، فكيف تريدهم ان يثقوا بهم ويتأثروا بكلامِهم؟!.
لقد صدق القولُ صديقي الذي نصحني ان أنظر الى فِعلِ اصحاب العمائم وليس الى قولهم! فبين القول والفعلِ مسافة طويلة جداً للاسف الشديد.
امّا السّياسيّون والحزبيّون والزّعامات والقادة، فهؤلاء وصل حدّ التّناقض بين ما يقولونه وما يفعلونه باتَ فيه الرّأي العام يتعامل معهم على قاعدة [السّياسي يكذب حتّى يثبُت العكس] فالكذب هو الأصل في قوله وخطابه وشعارهِ ووعودهِ وبرامجه الانتخابيّة، واذا صادف ان صدقَ في القول وتطابق فعلهُ مع قولهِ فذلك هو الشّاذّ من القاعدة! ولذلك فقدوا مصداقيّتهم!.
انّ الغدير [١٨ ذو الحجّة] فرصة للعودة الى قيمتين حقيقيّتين وحيويّتين لا يمكن ان نتصوّر اي تغييرٍ حقيقي في وضعنا وعلى مختلف الاصعدة لولاهما؛
القيمة الاولى هي العلم، فلنعُد الى الكتاب نقرأ لنستوعب فنفكّر بطريقة سليمة، لانّ التغيير والتطوير والإصلاح يعتمد على طريقتنا في التّفكير، والتي لا تتحسّن الّا بالعلم النّافع الذي يؤثر بشكل مباشر في حياتنا وسلوكيّاتنا اليوميّة.
القيمة الثّانية هي العمل، والذي يجب ان يتطابق مع القول لنُعيد الثّقة بأنفسِنا وببعضِنا البعض الاخر، قبل ان تضيع الثقة في المجتمع، وعندها لا يمكن ان نُنجِز شيئاً ابداً.
اضف تعليق