ما الذي يمنع الأمة من العودة الى "الغدير" كقضية إسلامية عامة، وتجاوز العقبات النفسية، والمسبقات الفكرية التي تجعلنا نخسر إرث حضاري بهذا الحجم، ونجعله مقتصراً على فئة من المسلمين؟ في الغدير كل ما يشغل بال المسلمين اليوم، بل وأكثر، فيما يتعلق بالمستقبل، و آفاق التطور في المجالات كافة...
"والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جَلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهوَن من ورقة في فم جرادة تقضُمها".
لكل شيء ميزان أو معيار خاص نزن به قَدْره وقيمته، فعندما نذهب الى باعة الفاكهة والخضار لنشتري شيئاً منهم، لن نأخذ الفاكهة او الدجاجة الى بائع الذهب طالبين منه أن يزن لنا العنب او الرقي أو الطماطم –هذه الأيام-، حتى لا نتحول الى نكتة اليوم بالنسبة له، فيضحك علينا، لأن الميزان لديه يزن بالمثاقيل والغرامات المحدودة، ربما الى حد المئات، بينما ما لدينا يزن بآلاف الغرامات، وربما بـ "الحُكة"، وفق المصطلح العراقي، وهي مفردة من الأوزان تمثل اربعة كيلوغرام.
هكذا القضايا الكبرى في الحياة مثل؛ العقيدة، والاخلاق، بل وحتى السياسة، والاقتصاد، والأمن، لكل منها معيار خاص بها توزن بها الافكار والرؤى والمواقف ليتبين لاصحابها الغثّ من السمين، والخطأ من الصحيح.
في إحدى محاضراته عن سيرة حياة أمير المؤمنين، عليه السلام، قال الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- إن مائة وستون كتاباً مؤلفاً عن الغدير على أمل أن يكون الغدير منهجاً في حياتنا، وميزاناً لاعمالنا، لا أن تبقى القضية حدثاً تاريخياً، او محل نزاع وخصام في دوامة مفرغة على أن "علي بين أبي طالب هو الخليفة لرسول الله لا غيره"، بيد أن الواقع الاسلامي يُنبئ عن ظواهر ومشاهد أُخر.
الغدير قضية إسلامية
عندما استوقف الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، قافلة الحجيج في منطقة "غدير خُم"، و اعتلى المنبر مخاطباً الجموع المؤلفة التي قدرتها المصادر بحوالي مائة ألف شخص، إنما خاطب الأمة الاسلامية في حجمها المصغّر على تلك البقعة من الأرض، بمن فيهم؛ المؤمن والمنافق، والغني والفقير، والرجل والمرأة، و العربي وغير العربي، وقال ما قال، وحصل ما حصل، ثم استأنفت القافلة طريقها نحو المدينة، ومضى المسلمون جميعاً في أول ليلة لهم وقد بايعوا لأول مرة خليفةً لنبيهم قبل أن يغادرهم الى الأبد بحوالي عامين، بما يفترض أن الامة اطمأنت على مستقبلها من الضلال والانحراف الذي طالما تعرضت له الديانات الاخرى مع اتباعها، ومن ثمّ؛ فان التشريعات والأحكام والنُظم ستكون من بعد النبي الأكرم مبنية على بيعة الغدير لأمير المؤمنين الذي هو للأمة نفس رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلّم، يقتفي أثره، ويتبع سيرته وسنته، وهذه الحقيقة لم يختلف عليها اثنان في تلك اللحظات التاريخية الحاسمة، رغم العناد، والنفاق، والحسد، وسائر مسببات الرين على القلوب، لأن المعرفة تبقى ثابتة في وجودها، فلا أحد ينكر جهاد أمير المؤمنين، وإيمانه الخالص والعميق، وشجاعته الفائقة، وسائر فضائله وصفاته، فضلاً عن قربه ومكانته من رسول الله، نعم؛ ربما يخفون، او يهمّشون، او يحرفون، أو حتى يحاربون، ولكن الحقيقة ساطعة مثل نور الشمس.
فاذا كان الأمر كذلك؛ ما الذي يمنع الأمة من العودة الى "الغدير" كقضية إسلامية عامة، وتجاوز العقبات النفسية، والمسبقات الفكرية التي تجعلنا نخسر إرث حضاري بهذا الحجم، ونجعله مقتصراً على فئة من المسلمين؟
في الغدير كل ما يشغل بال المسلمين اليوم، بل وأكثر، فيما يتعلق بالمستقبل، و آفاق التطور في المجالات كافة.
مما يقضّ مضاجع المسلمين اليوم؛ الانظمة السياسية الفاشلة والفاسدة، ومشاكل اقتصادية عويصة مثل؛ البطالة، والتضخم، وارتفاع الاسعار، وقضايا مجتمعية لا تقل خطورة عما سبق مثل؛ المرأة، وما يحيط بها من مسائل مثل؛ الحرية والعمل والزواج، وقد بلغ أزمة الحلول في الامة لهذا القضايا حداً ان نشهد وابل من الحلول الغريبة القادمة من الأمم الاخرى، مع حيرة قاتلة في كيفية التعامل معها.
بينما منهج الغدير يقدم للأمة –وقد قدمه أمير المؤمنين كنموذج خلال فترة حكمه- حلولاً ليست بهذه الجزئيات البسيطة، وإنما بمتسوى عال من الشمولية والرؤية الاستراتيجية المفيدة للحاضر والمستقبل، فقد دعا أمير المؤمنين، الى المساواة في فرص العمل والحياة الكريمة، والتوزيع العادل للثروة، والاحتكام الى التسامح، والتكافل، والتعاون، والايثار وأمثالها من القيم الاخلاقية السامية لتكون الطريق الى تحقيق الحياة السعيدة في الحياة، وهذا كان طموح الإمام، عليه السلام، للمسلمين في زمانه، وللأمة على مر الاجيال، فهو لم يدع الناس للضيق في المعيشة، ولبس الخشن، والعيش بين الوديان والكهوف، على العكس تماماً؛ وهو القائل: "إن في العدل سِعة"، أي ان العدل لا يؤدي –بأي حال من الاحوال- الى حرمان الناس اموالهم ومعيشتهم الكريمة، إنما المشكلة تبدأ في رفض العدل والاستجابة للرغبات والحالات النفسية، وقد بين، عليه السلام، معادلة حضارية رائعة في تكملة تلك الجملة: "إن في العدل سِعة، فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"، فاذا كان المسلمون اليوم يضيقون بالمشاكل والازمات من كل الاتجاهات، فالسبب رفضهم للعدل، وفي هذه الحالة من الطبيعي ان يكون الجَور سيد الموقف في مجالات حياتنا، حتى وإن كان مبغوضاً لدينا، إلا انه الامر الواقع الذي رضينا به على حين غفلة.
لندع الاحزاب والحكام جانباً
في اعتقادي، فان أول تجربة حزبية وسياسية شهدتها الأمة؛ ما جرى في سقيفة بني ساعدة بعد ساعات من رحيل النبي الأكرم عن دار الدنيا، فقد كانت الأرضية والمنطلق، ايديولوجي، ومصلحي –ذاتي، وخالٍ من القيم الدينية والأخلاقية، وما جاء به نبيهم، وهو بعد لم يوارى الثرى، وفجأة، وبشكل غريب جداً، عادت القيم الجاهلية الى الواجهة السياسية، على "أن الخليفة والقائد لابد ان يوافق عليه كبار قريش"، وإن الخلافة، التي هي في رؤيتهم؛ مصدر قوة وهيمنة على الآخرين، لا يجب ان تجتمع في بيت واحد، كما صرحوا بهذا على مرأى ومسمع من المسلمين.
ومن ذلك الحين والى اليوم، يلتزم "كبار" المسلمين بمبدأ القوة في المال والسلطة، في تشيكل تنظيماتهم للعمل السياسي، وايضاً؛ في ممارسة الحكم على قاعدة الترغيب والترهيب في العلاقة مع أفراد الأمة، وممارسة مختلف اساليب الإقناع والتضليل لتحقيق الاهداف السياسية والاقتصادية، وليس مبدأ الغدير الذي بينه أمير المؤمنين خلال فترة حكمه، والقائم على المفاضلة بين الحق والباطل، وقد أعلنها غير مرة، وكان أشهرها في التاريخ بحضور عبد الله بن عباس عندما قرن نعاله الرخيص ب"إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".
وهذا يدعونا لليأس التام من الساسة والطامحين الى الحكم بما لديهم من مبررات وتشريعات ينتحلوها لانفسهم، والتوجه التام الى الأمة بكل أطيافها وانتماءاتها العرقية والقومية والاجتماعية لأن تجتمع حول الغدير وتنظر ما يقدم لها أمير المؤمنين، ولا اعتقد القضية تكلف أكثر من تصفح أوراق، والقراءة بتأنّي وعمق، بعيداً عن أي مسبقات فكرية او قناعات معينة، فقد تأثر بشخصية علي بن أبي طالب، المسيحيون والماركسيون وأخذوا منه ما يريدون، فهلّا نكون جديرين بالتأثر بهذه الشخصية العظيمة، قبل الإيمان به و بولايته ومنهجه السماوي، لنأخذ منه الحلول الناجعة لكل أزماتنا ومعاناتنا؟
اضف تعليق