q
بعد أن ساد الجدل والسفسطة، وتزاحمت الفرق الكلامية والنظريات الفلسفية، واستفحل الدهريون والملحدون، كان أول هدف مشترك لهم؛ النصوص الدينية المقدسة، متمثلة بالقرآن الكريم والروايات الواردة عن رسول الله، فضلاً عن سُننه وآدابه، فكان التعريض بها جميعاً، والتنكّر لها والاستخفاف بها، على أنها من الغيبيات...

"حجة الله على العباد النّبي، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل".

الإمام الصادق، عليه السلام

الظلم وسفك الدماء، مع فساد واسع في أروقة الحكم المتستّر بالإسلام، دفع بشريحة من المسلمين للتشكيك بما هم عليه من عقيدة وأحكام، فهم مسلمون ملتزمون بالفرائض والسُنن، ثم يدفعون الحقوق الشرعية الى الحاكم المفترض انه خليفة رسول الله، لتذهب هذه الحقوق، وهي نتاج عرق جبينهم وجهود مضنية في الزراعة والتجارة، الى مجالس اللهو والطرب، ونثر الآلاف من الدراهم والدنانير على شعراء التزلّف و الغانيات، وعلى حفلات السكر والفجور، فهل من يوالونهم يمثلون الإسلام؟! و أين الدين من كل ما يجري؟! وما تأثير القرآن الكريم، و دوره إزاء ما يحتوشهم من أزمات ومحن في الحياة؟!

في ظل هذه الظروف في القرن الثاني الهجري، وتحديداً في عهد الإمام الصادق (83-148للهجرة) برزت دعوات التشكيك والإلحاد والتنكّر للقرآن الكريم ولأحكام الدين، وحتى للنبوة والإمامة، فكان أول ظهور رسمي لشريحة الزنادقة في ظل صمت مريب من السلطة العباسية آنذاك، و العلّة في هذا؛ التنفيس عن المكبوت في نفوس الناس، بما لا يُخاف منه عند البلاط، والأمر الآخر؛ التعريض أئمة أهل البيت –وليس الامام الصادق فقط- لما توهموه بالمضايقات والإحراجات أمام الناس، بوجود أشخاص امتهنوا الجدل في النقاش مستفيدين من دروس الفلسفة اليونانية، وما تعلموه من الكتب القادمة من هناك والمترجمة بدعم وترخيص من البلاط العباسي، لإحراجهم ومحاولة تسقيطهم في الأمة.

العقل = الحكمة

بعد أن ساد الجدل والسفسطة، وتزاحمت الفرق الكلامية والنظريات الفلسفية، واستفحل الدهريون والملحدون، كان أول هدف مشترك لهم؛ النصوص الدينية المقدسة، متمثلة بالقرآن الكريم والروايات الواردة عن رسول الله، فضلاً عن سُننه وآدابه، فكان التعريض بها جميعاً، والتنكّر لها والاستخفاف بها، على أنها من الغيبيات، حتى بلغ التجرؤ لأحد رموز الدهريين بالقول: "قد اجتمعتم للمناظرة؛ فلا يحتج أحد منكم بكتابه، ونبيه، فإننا لا نأخذ بذلك، ولا نعتدّ به، وإنما نتناظر بالعقل والقياس"، ولما أغلق الامام الصادق باب القياس بوجه مدعيه، وبكل قوة، فتح بالمقابل باب العقل ليدخل فيه الناس أفواجاً كونه الهبة العظمى من الله –تعالى- وهو النور الكاشف للحقائق، وأول ما خلقه الله ليكون وسيلة الوصول الى الخير والحق، إنما السؤال المطروح آنذاك؛ –و ربما ما يزال- اذا كانت المعرفة الإلهية والعبادة مرتبطة بالعقل، فهل إن الملحدين، ومن لا يعبد الله –تعالى- ليس لهم عقل؟!

هذا السؤال المحوري أجاب عليه الامام الصادق بإقرانه العقل بالحكمة، لأن من العقل؛ الفطنة والذكاء والحفظ والفهم وهذا متاح لكل البشر، ومنهم؛ القادة السفاحون، ومبتكرو أسلحة الدمار الشامل، و وسائل الربح السريع، لذا "ميّز الامام، عليه السلام، بين العاقل الممتلك للعقل الذي يدعو الى عبادة الله، وبين الفطنة؛ إحدى قوى العقل، ويمتلكها الناس ومنهم الملحدون والكافرون، وقال مجيباً عن سؤال يشرح هذا التمايز: "العقل ما عُبد به الرحمن، أما ما في المشركين فهي النكراء، أو الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست العقل"، وتفعيلاً لدور العقل دعا الامام الصادق الى تنميته بالنظر في العلم والحكمة، وقال: "كثرة النظر في الحكمة تلْقِح العقل"". (سيرة أهل البيت، تجليات الانسانية- الدكتور حسن عباس نصرالله).

كان الملاحدة والزنادقة من شريحة العلماء في المجتمع، ولم يكونوا أشخاص عاديين، فقد كانوا يدّعون أنهم من ذوي العقول الراجحة والتفكّر في كل شيء، إنما كانوا في الطريق المؤدي الى الضلال وليس الهدى، بينما الامام الصادق، عليه السلام، كان يتوسل بالحكمة التي تجانب الخطأ والباطل والانحراف ابداً، ولعل هذا يفسّر لنا دعوة السماء بأن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فالحكمة سبقت الموعظة المتضمنة لأحكام الدين و الأخلاق والآداب، ثم الوسيلة الحسنة، فالحكمة هي المنهج وقاعدة الانطلاق للوصول الى الحقائق، كما نعرف الحكمة من وجود الخير والشر في الحياة، والحكمة من العبادة مع {إنّ الله لغَنّيٌ عَن العَالَمِين}.

كانت أجوبة الامام الصادق، عليه السلام، في مناظراته مع هؤلاء تنتهي بإلقامهم الحجر بالدليل العقلي فينسحبوا خائبين، وذات مرة سأل أبوشاكر الديصاني، أحد أقطاب الزنادقة، الإمام الصادق: ما الدليل على حدوث العالم؟

فأخذ، عليه السلام: بيضة و وضعها في راحته، ثم قال له: هذا حصنٌ ملموم، باطنه غرقي، رقيق يطيف به، كالفضة السائلة، والذهبة المايعة، أتشكّ في ذلك؟ قال الديصاني: لا أشك فيه. فقال الامام: ثم إنه ينفلق من صورة كالطاووس، هل دخله شيء غير ما عرفت"؟ قال لا، فقال الإمام الصادق، فهذا الدليل على حدوث العالم، فقال الديصاني: دللت يا أباعبدالله فأوضحت دوران الفلك، وتعاقب الأزمنة، واختلاف الوقت، وموت الأشياء.

وبذلك يؤكد، عليه السلام، أن العالم حادث وليس أزلي كما حاول الزنادقة إيهام الناس بذلك لإنكار وجود الخالق، إنما الأزلي هو الله –تعالى- وحده.

وهكذا يتوسّل الإمام الصادق بالمنهج العقلي المُحبب لنفوس الناس بشكل عام، وهو المنهج المتبع من الانبياء والمرسلين على مر الدهور والعصور، ولعل في مقدمتهم؛ النبي ابراهيم الخليل، في حادثة تحطيمه للأصنام ومخاطبة قومه بأن يسألوا كبير الاصنام الموجود في المعبد –بعد أن تركه وعلق الفأس في رقبته- بمن فعل هذا بآلهتهم، فبهت الذي كفر.

وهذا السلاح الموجه ضد المشككين والملحدين، أفاد الإمام الصادق في جبهة أخرى لا تقل خطورة عن جبهة العقيدة، وهي البلاط العباسي المتحيّن لأي فرصة لتصفية الامام جسدياً وإنهاء وجوده في الساحة، ورغم أن الجهاز الاعلامي للسلطة كان يسعى لترويج تهمة الزندقة لاتباع الامام الصادق، بيد إن من الصعب عليهم إلصاق هذه التهمة به، عليه السلام، في وقت كان الناس في كل مكان يرون في الامام الصادق الدرع الحصين للأمة أمام حملات المشككين والملحدين، الامر الذي دعاهم لاغتياله بالسمّ، كما هو دأب الحكام السابقين في خيبتهم وجبنهم أمام الأئمة الاطهار، فكانت محاولة الاغتيال الآثمة للتخلص من نور ساطع يضيء الدرب للأمة نحو الهداية والرشاد، وليستمروا هم في تكريس الانحراف والضلال في مسيرة الأمة، وهو ما نلاحظ آثاره الى اليوم.

اضف تعليق