كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم الملايين في إعادة بناء مراقد أئمة البقيع بإقناعه رجال الدين والسياسة في السعودية، بيد أن الاقدار شاءت دون ذلك عندما دبّر السعوديون مكراً للتخلّص من الموقف المحرج بأن طلبوا من الشهيد المفكر آية الله السيد حسن الشيرازي...
كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم الملايين في إعادة بناء مراقد أئمة البقيع بإقناعه رجال الدين والسياسة في السعودية، بيد أن الاقدار شاءت دون ذلك عندما دبّر السعوديون مكراً للتخلّص من الموقف المحرج بأن طلبوا من الشهيد المفكر آية الله السيد حسن الشيرازي استحصال طلب رسمي من حكومة شاه ايران، كونها الدولة الشيعية الوحيدة في العالم آنذاك، ليعملوا وفق هذا الطلب، فتوقف كل شيء على أبواب السياسة في تلك السنة من عقد السبعينات.
حوالي خمسون عاماً مضى على تلك المحاولة الشجاعة، واليوم نعيش ظروفاً متطورة في الساحة الشيعية على الأصعدة كافة، فالصوت الشيعي؛ فكراً وثقافة، بات مسموعاً في العالم كله، وأصبح لدينا العلماء والخطباء والأدباء، الى جانب المؤسسات الثقافية والدينية، يتحدث الجميع عن مفاهيم انسانية وايجابية، ربما لم يعهدها الناس من قبل، في العالم الاسلامي، وفي سائر بلدان العالم، مثل؛ التسامح والتعايش، واللاعنف، والحرية، والحضارة، والمساواة.
عناصر القوة هذه "من المفترض" أن تعطي زخماً للمطالبة بإعادة بناء مراقد البقيع، وتخرجها من المطالبات الشعاراتية والشفهية طيلة عقود من الزمن، فقد بات السياسيون الشيعة ضيوفاً أعزاء على حكام السعودية، بغض النظر عن خلفية هذه العلاقات، فلسنا بوارد الخوض فيه، بقدر ما تهمنا المسؤولية الأخلاقية والحضارية إزاء الأئمة المعصومين الأربعة في البقيع الغرقد، وكيفية التعامل مع هذا الملف، كما يهم الساسة ملفاتهم في الأمن والاقتصاد والسياسة.
فهل يعتقد البعض أن ملف مراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، أصغر من أن تكون على طاولة المباحثات او اللقاءات الثنائية، او في جلسات الشاي والاحاديث الجانبية، وما أكثرها؟ أو أن هذا الملف ذو طابع طائفي "قوقعي"! إن جاز لنا التعبير، وليس كسائر الملفات ذات الاهتمام الواسع لدى الشعوب مثل ملف التكفير، والأمن الاقليمي، والعلاقات مع القوى الكبرى في العالم، وتوحيد الرؤية الاقتصادية لتحقيق المصالح المشتركة، وما الى ذلك من ملفات تعكس أزمات مصطنعة غير حقيقية بين شعوب المنطقة؟
الغريب في أمر هؤلاء الساسة أن تغيب عنهم سمات الأئمة المعصومين، الراقدين على جوار جدهم المصطفى في المدينة بشكل يحزّ في نفس كل انسان منصف وغيور على الدين، فكل واحد منهم يمتلك المفتاح السحري لكل الأزمات المبحوثة على الطاولات طيلة السنوات الماضية، بطريقة "حوار الطرشان"! بينما الإمام الحسن المجتبى، يحمل أعظم وأروع نموذج للسلم والأمن في العالم، أما الإمام زين العابدين فيحمل أتمّ برنامج تربوي وثقافي لبناء الانسان، يجعل منه الفرد المفيد والمعطاء في مجتمعه، أما الإمامين الباقر والصادق، وما أدرانا ما هذين الإمامين، وفضلهما على البشرية في العلم والمعرفة، وإن لم نكن قد توصلنا الى شيء منه؛ نحن المسلمين، بالإمكان مراجعة ما كتبه علماء الغرب، وما أقروه من فضل لهما فيما توصل اليه علماء الغرب من المكتشفات العلمية الحديثة.
يحتاج الأمر الى سعة أفق وبعد نظر، في نفس الوقت؛ سعيٍ جادٍّ لتكريس هذا في الأوساط السياسية، والدبلوماسية على وجه التحديد، فالجهود الدبلوماسية غير منحصرة في الموضوعات السياسية او الاقتصادية فقط، وإنما ثمة ملفات تتعلق بقضايا التاريخ والثقافة وحقوق الشعوب، تتابعها الدبلوماسية، وتعدها من مسؤولياتها، كما حصل في واقعة اغتصاب مائتي ألف امرأة كورية من قبل الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أدرجها الكوريون في مناهجهم الدراسية، كواقعة تاريخية، وقد سعت اليابان لسنوات طول لاقناع الدولة الكورية بحذف هذه الفقرة من المناهج الدراسية، وبعد سلسلة من المفاوضات تم لهم ذلك بعد تقديم الاعتذار الرسمي لذوي الضحايا، مع تعويضات مالية.
اذا كان يُراد لملف الأئمة المعصومين في البقيع أن يفتح بجدية، لابد أن يخرج أولاً؛ من الإطار الطائفي، ثم من المساومات، فالقضية لا علاقة لها بالخلاف بين السنة والشيعة مطلقاً، بقدر ما تتعلق بحقوق المسلمين جميعاً في تخليد ذكرى هؤلاء الأئمة، والاستضاءة بنورهم، فضلاً عن الانعكاسات على العالم بأسره.
اضف تعليق