آمن أمير المؤمنين بالإسلام لا ليحول سابقيته الى الإيمان وساماً يعلقه على صدره، او صفة يتجول بها بين افراد المجتمع يتاجر بها كما فعل الآخرون من المتقمصين الإسلام والإيمان وكان عاقبتهم الخسران المبين، وإنما كان إسلام وإيمان التضحية بحياته لنصرة هذا الدين واستمرار الرسالة...
"عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنوات".
أمير المؤمنين، عليه السلام
ولد علي بن أبي طالب في جوف الكعبة المشرفة بإذن خاص واستثنائي من الله –سبحانه وتعالى- وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد من المؤرخين، فقد التجأت أمه؛ السيد فاطمة بنت أسد بن عبد مناف، الى الكعبة راجيةً الله تسهيل أمر ولادتها، فجاءت الاستجابة سريعة، وانشق جدار الكعبة لتدخل فيه حيث كانت واقفة، أي لم تكن بحاجة لتحرك قدمها الى باب الكعبة، لنعرف –بدايةً- مكانة هذه المرأة المؤمنة عند الله –تعالى، قبل أن نعرف مكانة ومنزلة وليدها، أمير المؤمنين الذي نحتفي هذه الايام بذكرى ولادته السعيدة.
ثم علينا أن نتذكر دائماً أن آل عبد المطلب كان معظمهم موحدين، مؤمنين في قرارة أنفسهم بأن الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له، سوى بعضٌ منهم مثل؛ أبو لهب، بينما كان عبد المطلب نفسه موحداً ومؤمناً بالله، كما كان كذلك إبناه؛ والد النبي الأكرم؛ عبد الله، وايضاً عمه؛ أبو طالب، عليهم السلام، وهم بذلك حافظوا على العلاقة الإيمانية الممتدة الى آبائهم وأجدادهم متصلين نسبياً بنبي الله اسماعيل وابراهيم، عليهما السلام.
ولد عليّ، فاستبشرت به الملائكة وعمّت السماوات قبل الأرض ضياءً وبهجة، وحملته أمه الى أبي طالب ليقرّ عينه، ثم تلقاه النبي وهو يوم ذاك ابن الثلاثين من العمر، وينقل المؤرخون رواية أنه، عليه السلام، منذ ساعة ولادته لم يرضع من ثدي أمه ثلاثة أيام، لأنه كان في حجر النبي محمد يلقمه لسانه الشريف فيغذيه من ريقه فيرتوي ويشبع، فكان غذائه الأول في حياته من ريق النبوة والرسالة السماوية.
درجَ عليٌّ في أحضان ابن عمّه؛ محمد، لتتشكل علاقة إيمانية لا مثيل لها، ذات دلالات عميقة للأجيال، وإلا فان أبوا علي كانا على قيد الحياة، ولم يكن يتيماً، كما كان النبي في صغر سنه، إنما كان ثمة درسٌ بليغ لنا من رسول الله بأن التربية الصحيحة والمثمرة ممكنة لجميع الآباء والأمهات على طول التاريخ بوجود قاعدة إيمانية خالصة، فالمواصفات العلمية والمادية في الأسرة لا علاقة لها بنشوء الابن الصالح، نعم؛ ربما يكون عالماً، ومبدعاً، وماهراً في أعماله، بل ومثقفاً، ومفكراً، لكنه يفتقد للإنسانية والأخلاق، فتلك الصفات تفيد صاحبها، بينما الحالة القيمية والإيمانية تفيد صاحبها وتفيد المحيطين به والمجتمع والأمة، بل البشرية جمعاء، والدليل أن فقدانها يكلف البشرية ما قد خبرته من كوارث الحروب والازمات والفتن التي أزهقت ملايين الأرواح وتسبب في التخلف والبؤس لسنوات مديدة.
إن سلامة الفطرة وطيب النفس والروح العالية لدى أب أمّي، أو أم لا تحسن القراءة والكتابة من شأنها ان تخرّج الأبطال الثائرين والمحررين، والعلماء العباقرة، والابناء الذين ينفعون المجتمع، ويكونوا مثالاً ونموذج يحتذى به للأخلاق والفضيلة والتقوى.
هنا كان النبي الأكرم في الثلاثين من عمره وفي حجره ابن عمّه؛ علي بن أبي طالب، يغذيه مادياً ومعنوياً، منذ نعومة أظفاره وحتى لحظة نزول الوحي، حيث أصبح عليّ في السن السابعة –حسب الروايات- فمن أين للنبي كل تلك العلوم والفضائل والمعارف ليزقها لعليّ وهو بعد لم يُبعث نبياً، ولم ينزل عليه الوحي من السماء، "حتى أدرك من الحقائق ما لم يدركه بعد الرسول إنسان سواه، ولم تكن فيه صفة إلا وهي مشدودة الى صفة من صفات النبي الأعظم، وما من شيء أنكره قلب النبي، من أحوال الجاهلية وسيئاتها إلا وأنكره قلب علي، وأدرك ما يحيط بهذا الكون من حقائق وجوده ونواميس بقائه". (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني).
بعد ولادة أمير المؤمنين أصاب مكة أزمة اقتصادية حادّة ألقت بظلالها على ذوي الدخل المحدود ومن له أولاد كثُر، فحانت التفاتة من النبي الأكرم لتخفيف الضغط على عمّه أبي طالب، فذهب الى عميّه؛ حمزة والعباس، واقترح عليهما تكفل ابناء أخيهم لحين زوال المحنة، فاستحسنا الفكرة، فأخذ حمزة طالب –الابن الأكبر- وأخذ العباس جعفراً، وأخذ النبي علياً لتكون الظروف كلها مهيئة لتربية رسالية خالصة واستثنائية، فأمضى علي سنوات طفولته بين يدي رسول الله، وقبل المبعث، كان مثل الظل للنبي في حركاته وسكناته، فحاز على تكريم ربما يكون الوحيد واليتيم من الأمة بحق هذا الإمام العظيم، بأن يقولوا عقب ذكر اسمه؛ "كرّم الله وجهه"، كناية عن امتناعه المطلق للسجود أمام صنم في الجاهلية.
ثم تنمو هذه العلاقة الربانية مع نمو أمير المؤمنين وتقدمه في العمر حتى لحظة انبلاج نور الإسلام ليكون أول المؤمنين بالدين الخاتم، ليس هذا وحسب، وإنما يكون جندياً فدائياً لهذا الدين، فقد آمن أمير المؤمنين بالإسلام لا ليحول سابقيته الى الإيمان وساماً يعلقه على صدره، او صفة يتجول بها بين افراد المجتمع يتاجر بها كما فعل الآخرون من المتقمصين الإسلام والإيمان وكان عاقبتهم الخسران المبين، وإنما كان إسلام وإيمان التضحية بحياته لنصرة هذا الدين واستمرار الرسالة في المضي قدماً على مر التاريخ.
عندما اشتدت التهديدات من المشركين على حياة النبي في الايام الاخيرة قبل الهجرة، وبعد مغادرة معظم الاصحاب والمسلمين مكة باتجاه يثرب (المدينة) لم يبق سوى النبي وعلي وبعض الاصحاب، وكان القلق والاضطراب يقضّ مضاجع المشركين من احتمال خروج النبي من مكة وتحوله الى قائد لمجتمع جديد وأمة تقضي على وجودهم الى الأبد، فسارعوا لتدبر الأمر واغتيال النبي في فراشه، حسب اقتراح قدمه أبو جهل لقادة الشرك المؤتمرين، بأن يهجم عليه عدّة افراد من قبائل شتّى فيضربونه ضربة رجل واحد ليتفرق دمه بين القبائل ويتخلصوا من مطالبة بني هاشم بالثأر.
أبرقت السماء فوراً الخبر الى النبي بأن القوم يكيدون لك كيداً، فتوجه الى ربيبه وحبيبه علي، وأخبره بالخبر فبكى لهول الخبر خوفاً على حياة النبي، و عندما أمره بالمبيت مكانه في الفراش ليخرج هو من مكة دون ان يشعر به أحد، أجاب بالقول: "أو تسلم يا رسول الله إن فديتك بنفسي"؟ فقال له الرسول: "نعم، بذلك وعدني ربي" فانشرحت أسارير وجه علي وانقلب حزنه فرحاً وانطلق الى فراش النبي لتبدأ قصة من أروع ما عرفه تاريخ الفداء والتضحية، كما يصفه السيد الحسني في سيرته.
وقد سبق لأمير المؤمنين أن خاض جولات التضحية هذه في مرات سابقة، أبرزها في الإقامة الجبرية التي فرضها المشركون على رسول الله والمسلمين معه في منطقة تُسمى بـ "شعب أبي طالب"، فقد سعى المشركون تنفيذ عدة محاولات لاغتيال النبي مستفيدين من الضغوط القاسية المفروضة عليه وعلى المسلمين من جوع وإرهاق نفسي وبدني طيلة حوالي عامين، فجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، أن أبو طالب كان يدعو النبي لأن يضجع في فراشه في وقت مبكر من الليل لكي يراه الجميع، وعندما ينام الناس أيقظه ونقله الى فراش آخر، ثم يأمر ابنه علياً بأن يضطجع مكانه تفادياً لاحتمال تعرض النبي للاغتيال.
هذه التربية النبوية بلغت القمة في نتيجتها بظهور شخصية بطولية وعظيمة في كل الميادين مثل؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، وذلك بفضل نقاوة نفس النبي الأكرم، وخصاله الحميدة، وهو شاب لم يكن يحمل بين الناس سوى الأخلاق والانسانية، وهذا يعني أن جميع الآباء والأمهات قادرين؛ بما لديهم من أخلاق وخصال وتقاليد حسنة من صنع جيل يطبع سلوكه وفكره الخير للناس، وإن زاد عليهم من العلم والمعرفة فيكون خيرٌ على خير، أن يكون الأب يحمل القيم الاخلاقية والدينية مع مستوى تعليمي جيد، كأن يكون حاملاً لشهادة الاعدادية او المعهد أو الجامعة.
اضف تعليق