تصوّر المأمون العباسي أنه أحكم قواعد حكمه من خلال طوق فكري وثقافي ضربه على عقول الناس، من خلال الافكار والنظريات المستوردة التي تقعدهم عن أي نوع من المعارضة والنهوض ضد الحاكم الظالم. ولم يبق له سوى قمع الثورات التي كانت تندلع بين فترة واخرى طيلة فترة الحكم العباسي، وهي ترفع شعار "الرضا من آل محمد". فما عليه إلا ان يدعو الإمام الرضا، عليه السلام، من مدينة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، الى خراسان وعرض ولاية العهد عليه، علماً أنه ذهب الى أبعد من هذا بدايةً لإضفاء مزيد من المصداقية، عندما عرض عليه تولي الخلافة بأسرها، فرفض الامام كلا العَرضين، بيد إن ضغوط وعوامل عديدة اقتضت موافقة الإمام، عليه السلام، على اقتراح تولّي ولاية العهد مُكرهاً، في محاولة مكشوفة لكسب المشروعية لحكمه (المأمون) الذي تمّ له على أنهر من الدماء وآلاف القتلى في حربه مع أخيه الأمين في بغداد.
الإمام المنقذ من الاضطراب الفكري
عندما وصل الإمام الرضا، عليه السلام، الى خراسان، كانت الامة مشوشة الفكر، مضطربة الحال في الاصعدة كافة بسبب انحراف الحكام وجورهم وظلمهم، وإنعكاسات ذلك على حياة الناس وعلى عقيدتهم، فقد بلغ الظلم والجور والتهافت على السلطة في عهد المأمون، التي من أبرز تجلياتها الحرب الطاحنة مع أخيه المأمون على "كرسي الخلافة"، حتى أضحى الناس يشككون بدينهم وعقيدتهم، وما اذا كانت هي القادرة حقاً على تحقيق الامن والاستقرار والسعادة في الحياة أم لا؟! فقد كان الموت والذل والاضطهاد، العنوان الاول في حياة المسلمين في تلك الفترة، فراجت الافكار الالحادية ومذاهب التشكيك والزندقة وغيرها.
في أرضية نفسية واجتماعية كهذه، أبتدع المأمون العباسي، ولأول مرة في التارخ، فكرة الترجمة لكتب فكرية وعقائدية وعلمية، من اللغة اليونانية والفارسية وحتى الهندية، وهي الفكرة او "الحركة" التي طالما يعدها البعض، على أنها انطلاقة للنهضة الفكرية والعلمية في الحضارة الاسلامية، وقد أكثر المؤرخون والباحثون العرب على ذكر العلوم التي تضمنتها تلكم الكتب والتي كانت بمنزلة الإضاءات لاكتشافات علمية باهرة في الرياضيات والفلك والجغرافيا والطب وغيرها. مع الأخذ بهذه الآراء والقول بصحتها، فان الى جانب هذه العناوين، فقد دخلت الافكار الفلسفية التي تعود الى الحضارة اليونانية القديمة التي أراد المأمون أن تكون له عوناً على تهدئة الاضطراب الفكري في الامة، بيد أنها تركت آثاراً عكسية على عقائد المسلمين وما تزال.
وفي كتابه "التاريخ الاسلامي" يقول المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، في تحليله لحركة الترجمة، بان "السلطات العباسية هي التي دفعت الناس الى التمرد ضد الاسلام وذلك لانها جيّرت الفكر الاسلامي لصالحها، فالمأمون العباسي كالخلفاء الآخرين، حينما رأى تلك الحركات، اراد الاستعانة بالفكر الغربي او الشرقي في سبيل إعادة التوازن داخل الفكر الاسلامي عن طريق تطعيم الافكار والعقائد الاسلامية وعلم الكلام الاسلامي، بافكار ارسطو وافلاطون وغيرهم، فهو اشبه بالانظمة التي ترتدي ثوب الاسلام والتي تأتي بسائر انواع النبيذ ثم تعاقب من يشربه. وبالنتيجة؛ حينما ننقل افكار الغربيين والشرقيين الى الفكر الاسلامي وهو يعيش حالة اضطراب، فان ذلك يعني اننا ساعدنا الامة الاسلامية على الانحراف".
في هذا الجو المشحون سياسياً وفكرياً، وبين التحدي الفكري الذي واجهته الأمة مكرهة مما وفد اليها من الغرب والشرق، وبين السياسات الظالمة على يد السلطات العباسية، جاء الامام الرضا، عليه السلام، ليضع حدّاً لكل هذه الاضطرابات ويضيء للأمة طريق الخلاص من خلال التأكيد على جانب أساس في العقيدة، وهو التوحيد، فقد تخللت الفترة التي استغرقت عدة أشهر بين المدينة الى خراسان، مروراً بالبصرة والاهواز وفارس طوس وحتى مرو، إطلاق الامام للاحاديث التي تعزز في النفوس جانب التوحيد ونبذ كل اشكال الشرك والافكار الالحادية التي تنفي وجود الله والخالق، ومن ابرز هذه الاحاديث الشهيرة، ما عرف بـ "حديث سلسلة الذهب"، والتي قال فيها الامام في حديث طويل: "...من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بالاخلاص دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي".
ولاية العهد تكشف سوء المأمون
ان وجود الامام الرضا، عليه السلام، في خراسان كشف للأمة حقيقة زيف إدعاءات المأمون بانه من طبقة العلماء والحكماء وانه الأذكى والاكثر حنكة بين أقرانه من الاسرة العباسية، مع تأكيد المؤرخين على انه كان ذكياً وحسن التدبير والتفكير في أمر السلطة والحكم، وقد دلّت الشواهد على ذلك، كما بانت هذه الخصلة منذ نعومة أظفاره وبحضور والده؛ هارون الرشيد، بينما نجد الامام الرضا، عليه السلام، يشير اليه الامام الصادق، عليه السلام، بأنه بشر ابنه الكاظم، عليه السلام، بأن في صلبك "عالم آل محمد" – مضمون الحديث – ، بمعنى أنه كان منبع العلوم والمعارف، بيد أن المشكلة دائماً، في الظروف الاجتماعية والسياسية التي تقهر العالم وتدفن العلوم التي من شأنها نهضة الانسان وتقدم الامة في المجالات كافة.
جاء في التاريخ أنه المأمون عندما دعا الناس لأخذ البيعة له و ولاية العهد للإمام الرضا، عليه السلام، وللفضل بن سهل بالوزراة، تدفق الناس زرافات نحوه ونحو الإمام، و"كانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام الى الخنصر، حتى بايع في آخر الناس فتى من الانصار، فصفق بيمينه من الخنصر الى أعلى الإبهام، فتبسم ابو الحسن الرضا، عليه السلام، ثم قال: "كل من بايعنا يفسخ البيعة غير هذا الفتى فانه بايعنا بعقدها". فاستغرب المأمون واستفهم المسألة واكتشف أن طريقة البيعة كانت خاطئة، الامر الذي أثار لغطاً بين الناس، عن كيفية تولّي انسان الخلافة وهو يجهل عقد البيعة.
بينما نلاحظ احد الكتاب من مصر، وهو الاستاذ الجامعي عبد الفتاح مصطفى غنيمة، يستند في مقال له حول حركة الترجمة التي قادها المأمون، مع غير قليل الإطراء والثناء عليه، على مقولة أحد المستشرقين بأن "عصر المأمون كان أزهى عصور بني العباس في تاريخ النهضة العلمية في العصر العربي، إذ كان المأمون نفسه من أساطين العلم..."! نعم؛ كان يسعى جهده في ذلك، من خلال إعادة الحياة الى "بيت الحكمة" الذي أنشأه والده "هارون" وملأه بالكتب المترجمة من الهند وايران واليونان وغيرها، ويحشر نفسه بين العلماء والادباء، ويغدق عليهم، حتى قيل إن كان ينفق على الكتاب المترجم ذهباً!.
بيد ان كل ذلك لم يشفع له بشيء في تكريس اركان حكمه، وايضاً في تهدئة الاضطراب الفكري لدى الناس بما يساعد على استتباب الاوضاع الامنية والسياسية والاجتماعية. فقد اكتشف الناس مبكراً منبع العلم والفكر والمعرفة من خلال وجود الامام في خراسان، علماً ان فترة وجوده لم تدم أكثر من عامين، إلا ان الورطة التي وضع المأمون نفسه فيها، جعلت الأمة تصحو شيئاً فشيئاً وتكشف الحقائق. ومن ابرز الحوادث في هذا المجال المناظرة الشهيرة التي سعى لها المأمون للإيقاع بالامام الرضا، عليه السلام، أمام كبار الاديان وأرباب الجدل وعلم الكلام، حتى أن احد اصحاب الإمام، عليه السلام، تخوّف على الإمام من أحد ابرز الجدليين في البلاد الاسلامية، ويدعى عمران الصابئي الذي كان يعد من أشهر وأقدر زمانه في الجدل، وكان معروفاً بالتشكيك بوجود الله، بيد أن الامام هدأ من روع ذلك الرجل، وفي ذلك المجلس وتلك الحادثة التاريخية الشهيرة، "احتجّ الامام على أهل التوراة بتوراتهم،وأهل الانجيل بانجيلهم، وأهل الهرابذة بفارسيتهم، واهل الروم بروميتهم..." كما أتى الى ذلك الجدلي الشهير وأثبت له وجود الله الواحد الأحد، وأفحمه أمام جموع المسلمين، ومعهم المأمون، وهم في حيرة من أمرهم. وإذن؛ فان الامام الرضا، لم يكن فقط عالماً بعلوم الاسلام، وإنما بعلوم الآخر – إن صحّ التعبير- فهو لم يحاججهم بالقرآن الكريم او احاديث النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وإنما بما جاء في كتبهم وما يحملون من قناعات ومتبنيات أثبت فشلها وعقمها، وكشف لهم الطريق الصحيح لكشف الحقائق. وللعلم؛ فان عمران الصابئي ذاك، تحوّل بعد تلك المناظرة الملحمية، الى أقرب المقربين من الامام الرضا، عليه السلام، وجاء في التاريخ؛ إن عمران "كان بعد ذلك يجتمع اليه المتكلمون من اصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتى اجتنبوه"!.
وهكذا اطمأنت نفوس المسلمين على عقيدتهم الحقّة وارتاحوا الى الحقيقة، فيما راح المأمون يلعق جراحه من هذا المأزق الذي سقط فيه، بدلاً من ان يعزز اركان حكمه، بانت عيوبه وثغراته في عجزه عن حماية الامة والعقيدة من الانحرافات الفكرية والاضطرابات السياسية والاجتماعية.
اضف تعليق