فكم هو مؤلم، وكبير، وعظيم على مثل الإمام الحسن العسكري (ع) أن يعيش في دولة الظلم والجور العباسي، في مدينة عسكرهم سامراء حياته ويقضي فيها عصره وإمامته إلى أن يستشهد فيها مسموماً ومظلوماً وهو في ريعان الشباب لم يصل سنه إلى الثلاثين؟ فلماذا يستشهد الإمام مسموماً غريباً...
شهادة الإمام الحسن العسكري (ع) في 8 ربيع الأول في سامراء 260ه
مقدمة وجدانية
كم هو قاسي ومؤذي للقلب أن يكون شاباً غريباً في مدينة هي معسكر للجيش والكل ينظر إليه بعين الحذر، أو بعين الشماتة، أو بعين العطف والأسى عليه، وهو أمنع من عقاب الجو، وأشجع من اسد العرين، ولكن ما عساه يصنع في دولة الجائرين والظالمين؟
كم عظيم على الإنسان الحر الأبي أن يعيش في دولة القسر والجبر والغبي؟
كم هو كبير على العملاق العظيم، أن يتحكم به وبحياته القزم اللئيم؟
فكم هو مؤلم، وكبير، وعظيم على مثل الإمام الحسن العسكري (ع) أن يعيش في دولة الظلم والجور العباسي، في مدينة عسكرهم سامراء حياته ويقضي فيها عصره وإمامته إلى أن يستشهد فيها مسموماً ومظلوماً وهو في ريعان الشباب لم يصل سنه إلى الثلاثين؟
فلماذا يستشهد الإمام مسموماً غريباً بين الغرباء وهو حجة الله وترجمان رسالة السماء؟
فهل كتب على أهل البيت الأطهار والعترة الأبرار الشهادة والقتل بلا هدف سامي ولا مقام عالي لهم من ذلك كله، بل أن هناك هدف ورسالة عظيمة لمَنْ يستلمها من هذه الأمة؟
عظمة الإمام العسكري (ع)
الإمام ليس من اختيار البشر، ولا من انتخابهم، بل هو من اختيار الرب سبحانه وتعالى واختياره وتعيينه وتنصيبه فهو كالنبي تماماً إلا مسألة الوحي المباشر والنبوة، ولذا عندما نتحدث عن الإمامة فإننا نتحدث عن تلك القيمة الكبرى من حياتنا الإنسانية لأن المقام هو مقام اتصال وتواصل السماء بالأرض، لأن الإمامة كما وصفها حقاً أعلم الناس بها ألا وهو عالم آل محمد الإمام الثامن علي الرضا (ع) بقوله: (إِنَّ اَلْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ اَلْأَوْصِيَاءِ إِنَّ اَلْإِمَامَةَ خِلاَفَةُ اَللَّ،هِ وَخِلاَفَةُ اَلرَّسُولِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَمَقَامُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، وَمِيرَاثُ اَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)؛ إِنَّ اَلْإِمَامَةَ زِمَامُ اَلدِّينِ، وَنِظَامُ اَلْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ اَلدُّنْيَا، وَعِزُّ اَلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اَلْإِمَامَةَ أُسُّ اَلْإِسْلاَمِ اَلنَّامِي، وَفَرْعُهُ اَلسَّامِي)، فالإمامة من شأن الله تعالى وهي نابعة من لطفه بعباده كما النبوة والرسالة لينقذ العباد من الظلمات ويدخلهم في بحبوحة الأنوار القدسية.
والإمام الحسن العسكري هذا الشاب العظيم الذي نقله العباسيون ظلماً وعدواناً مع أبيه الإمام علي الهادي (ع) من المدينة المنورة حيث مسقط رأسه في مدينة وجوار جده رسول الله (ص) إلى مقر العسكر وثكنتهم فيما يسمى سر مَنْ رأى، أو سامراء، حيث نقل العباسيون عسكرهم إليها بعيداً عن العاصمة بغداد حين ضجَّ أهلها منهم وهددوا المنصور بسهام الليل فقال لهم: لا طاقة لي بها فأخرج العسكر لأنهم كانوا من الحمران والأغراب ولم يكن فيهم من الأعراب إلا القليل، فكانت إقامة الإمام العسكري (ع) مع والده في تلك الثكنة منذ أن انتقلا إليها وحتى شهادتهما فيها ودفنهما في تلك البقعة التي تشرفت بهما.
فالإمام العسكري (ع) كان حجة الله على خلقه إلا أن طغاة بني العباس اتخذوه عدواً لهم وعاملوه معاملة الأعداء فكان مفروضاً عليه الإقامة الجبرية وهو في الثكنة وعليه أن يمر في كل يوم إلى ديوان العسكر مرة أو مرتين لتسجيل حضوره، وكان مراقباً في كل حركاته وسكناته بل كانوا يعدون عليه أنفاسه الشريفة خوفاً منه، وهو الأمن والأمان، والسلم والسلام لهم ولأهل الأرض جميعاً، فلولاه لساخت بأهلها كما في الروايات المؤكدة.
فالإمام العسكري كان عظيماً من عظماء الإنسانة وعَلماً من أعلام آل البيت الأطهار (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وكان مهوى القلوب والأفئدة، ومحبوب ومرغوب أولاد الحلال منهم، ولم يكن عالة على بني العباس وطغاتهم، ولا على عسكرهم وجنودهم، بل كان النور كله، والهداية كلها فيه وفي قربه وجواره سلام الله عليه.
علم الإمام العسكري (ع)
وإذا أردنا أن نتحدث عن العلم والفهم والفطنة وكل ما يتصل بموضوع العلم فإننا نجد أن الإمام العسكري (ع) هو ذلك الشاب الغريب فيما يشبه السجن العجيب يعيش مراقباً ومستهدفاً في شخصه المبارك وشخصيته الاعتبارية كإمام إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يبدع ذلك الإبداع العجيب الذي لم يتحدث التاريخ الإسلامي إلى اليوم عن مثله ألا وهو كتابة مائة وعشرين جلداً في تفسير القرآن الحكيم وما بين أيدينا منه ما هو إلا جلد واحد فقط من ذلك التفسير أو الموسوعة التفسيرية للقرآن الحكيم.
أليس هذا عجيباً من شاب لا يتجاوز عمره ربع قرن أن يقوم بهذا العمل العملاق وليس ذلك فقط بل هناك ما هو أعجب وأغرب وهو قيادته لهذه الأمة من سجنه وتعيينه لوكلائه وتواصله معهم وإيصال أوامره إليهم، وأخذ الحقوق منهم دون أن يشعر طغاة بني العباس وجنودهم وجلاوزتهم في ذلك كله.
فعظمة الإمام العسكري (ع) أنه شاب في ربيع العمر يقوم بمقام والده الإمام الهادي (ع) ويسد مكانه في الأمة ويُبدع في كل ما يتصل بموضوع القيادة والإمامة، فحفظ نفسه الشريفة حتى ولد له ابنه العظيم الذي كان يبحث عنه طغاة بني العباس ليمنعوا ولادته كما فعل فرعون بنبي الله موسى بن عمران (ع) إلا أن الله سبحانه غالب على أمره أخفى حمله وولادته وجعل بيت فرعون مكاناً لتربيته ليكون عبرة لمَنْ يعتبر إلا أن البشر يغطون في جهلهم وغبائهم ويتحدون إرادة الله تعالى في كل مرة وكأنه لا عِبرة أتتهم، ولا موعظة وصلتهم، ولا آية تُليت عليهم، ولا رسولاً أو نبياً جاءهم.
وهكذا تزوج الإمام الحسن العسكري (ع) بحفيدة شمعون الصفا، وأميرة الروم بشكل إعجازي، ووصلت إلى سامراء بطريقة عجيبة وأسطورية، وحملت بالإمام الحجة بن الحسن مهدي هذه الأمة (عج) وهادي الأمم إلى النور والحق والسائر بهم على الصراط المستقيم، فكان كل ذلك بعين الله ورعايته ولكن جرى تنفيذه على اليدين المباركتين للإمام الشاب الغريب الحسن العسكري (ع)، الذي حفظ الأمة، والأئمة خلال ستة سنوات من ولايته وإمامته المباركة فهيَّأ كل أسباب الاستمرار لوجودها وحضورها وبركتها في هذه الحياة.
الإمام العسكري (ع) وحفظ الأمة
الأمة تحفظ بالمؤمنين والصالحين وليس بالطغاة والجبارين من الحكام والسلاطين كما يظن أكثر الجهال من الهمج الرعاع، فلو كان الأمر كذلك لبقي النمرود بطَوله وسطوته ولذهب إبراهيم الخليل طعمة للنار منذ يومه ذاك، وكذلك لما ولد موسى الكليم أصلاً في دولة فرعون الذي كان يقتل الرجال ويستحيي النساء، ولكن الحقيقة أن أكثرهم لا يعقلون، ولا يعلمون، فيتبعون السلطان الجائر كالهمج وينعقون وراء كل ناعق، ويسيرون وراء كل فاسق ومنافق، فالأمة إذا صارت هكذا وانتفى أهل الصلاح والإصلاح فيها لعجَّل الله لها العذاب ولسارع لها الفناء لأنها لا خير فيها، ولا أمل من إصلاحها وهي سنة من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري حيث يقول: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)
والإمام الحسن العسكري (ع) في عهد إمامته وولايته الفعلية الناطقة في الأمة علَّمها كيف تصون نفسها ولا تنساق خلف طغاتها وحكامها وسلاطين الجور فيها ليكون فيها بقية باقية من أهل التقى والصلاح والإيمان لأنها إن خلت من الصالحين لخربت – كما في المثل المعروف – فحصَّنها من الانزلاق إلى الهاوية وأعطاها موازين وضوابط لتسير عليها إلى أن يأذن الله لولده الحجة بن الحسن بالظهور عندما يملؤون الأرض ظلماً وجوراً، ويظهر الفساد في كل شيء في البر والبحر والجو.
ومن تلك الموازين التي تحدث عنها بعض النماذج سماحة الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) في كتابه الذي كان يؤرخ فيه للإمام العسكري (من حياة الإمام العسكري (ع)، نأخذ بعضها في هذا السياق لتكوين فكرة واضحة عن هذه المسألة الضرورية والهامة جداً، وهي حفظ الأمة والجماعة الصالحة في الأمة.
يروي الإمام عند جده مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) قوله: (فَقِيهٌ وَاحِدٌ يُنْقِذُ يَتِيماً مِنْ أَيْتَامِنَا اَلْمُنْقَطِعِينَ عَنَّا وَعَنْ مُشَاهَدَتِنَا بِتَعْلِيمِ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، أَشَدُّ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ.. لِأَنَّ اَلْعَابِدَ هَمُّهُ ذَاتُ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَهَذَا هَمُّهُ مَعَ ذَاتِ نَفْسِهِ ذَاتُ عِبَادِ اَللَّهِ وَإِمَائِهِ لِيُنْقِذَهُمْ مِنْ يَدِ إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ.. وَلِذَلِكَ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اَللَّهِ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ عَابِدٍ).
ثم ينقل عن جده علي بن موسى الرضا (ع) قوله: (يُقَالُ لِلْعَابِدِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: نِعْمَ اَلرَّجُلُ كُنْتَ هِمَّتُكَ ذَاتُ نَفْسِكَ، وَكَفَيْتَ اَلنَّاسَ مَئُونَتَكَ، فَادْخُلِ اَلْجَنَّةَ.. إِلاَّ أَنَّ اَلْفَقِيهَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى اَلنَّاسِ خَيْرَهُ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ نِعَمَ جِنَانِ اَللَّهِ، وَحَصَلَ لَهُمْ رِضْوَانُ اَللَّهِ تَعَالَى..
وَيُقَالُ لِلْفَقِيهِ: يَا أَيُّهَا اَلْكَافِلُ لِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدِ، اَلْهَادِي لِضُعَفَاءِ مُحِبِّيهِ وَمَوَالِيهِ قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ أَخَذَ عَنْكَ أَوْ تَعَلَّمَ مِنْكَ.. فَيَقِفُ، فَيَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ وَمَعَهُ فِئَاماً وَفِئَاماً حَتَّى قَالَ عَشْراً وَهُمُ اَلَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ عُلُومَهُ، وَأَخَذُوا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، فَانْظُرُوا كَمْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ اَلْمَنْزِلَتَيْنِ).
ففي هذين الحديثين يعلمنا الإمام العسكري (ع) بروايته عن أجداده الطاهرين بأن نتفقه في الدِّين ولا ننزوي بأنفسنا للعبادة في كسر خيمة أو في كهف جبل فذاك ينقذ نفسه فقط، ولكن العبادة الحقيقية تكون في المجتمع والتفقه في الدِّين وتفقيه الناس بأحكامهم والدفاع عن المستضعفين منهم لدفع الأبالسة والمردة ووسوساتهم، وشياطين الإنس وتشكيكاتهم في دين الناس فيدفعون عن أيتام آل محمد ذلك كله وهؤلاء عند الله في مقام عظيم يصفه (ع) بقوله: (يَأْتِي عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا اَلْقَوَّامُونَ لِضُعَفَاءِ مُحِبِّينَا وَأَهْلِ وَلاَيَتِنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَاَلْأَنْوَارُ تَسْطَعُ مِنْ تِيجَانِهِمْ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَاجُ بَهَاءٍ، قَدِ اِنْبَثَّتْ تِلْكَ اَلْأَنْوَارُ فِي عَرَصَاتِ اَلْقِيَامَةِ وَدُورِهَا مَسِيرَةَ ثَلاَثِمِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ.. فَشُعَاعُ تِيجَانِهِمْ يَنْبَثُّ فِيهَا كُلِّهَا، فَلاَ يَبْقَى هُنَاكَ يَتِيمٌ قَدْ كَفَلُوهُ، وَمِنْ ظُلْمَةِ اَلْجَهْلِ أَنْقَذُوهُ وَمِنْ حَيْرَةِ اَلتِّيهِ أَخْرَجُوهُ، إِلاَّ تَعَلَّقَ بِشُعْبَةٍ مِنْ أَنْوَارِهِمْ، فَرَفَعَتْهُمْ إِلَى اَلْعُلُوِّ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمْ فَوْقَ اَلْجِنَانِ.. ثُمَّ تُنْزِلُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمُ اَلْمُعَدَّةِ فِي جِوَارِ أُسْتَادِيهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ، وَبِحَضْرَةِ أَئِمَّتِهِمُ اَلَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَيْهِمْ.
وَلاَ يَبْقَى نَاصِبٌ مِنَ اَلنَّوَاصِبِ يُصِيبُهُ مِنْ شُعَاعِ تِلْكَ اَلتِّيجَانِ إِلاَّ عَمِيَتْ عَيْنَاهُ وَصَمَّتْ أُذُنَاهُ وَأَخْرَسَ لِسَانُهُ، وَيُحَوَّلُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ لَهَبِ اَلنِّيرَانِ، فيَحْمِلُهُمْ حَتَّى يَدْفَعَهُمْ إِلَى اَلزَّبَانِيَةِ، فَيَدُعُّوهُمْ (إِلىٰ سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ)، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاَلْمَسٰاكِينِ)؛ فَهُوَ مَنْ سَكَّنَ اَلضُّرُّ وَاَلْفَقْرُ حَرَكَتَهُ.. أَلاَ فَمَنْ وَاسَاهُمْ بِحَوَاشِي مَالِهِ، وَسَّعَ اَللَّهُ عَلَيْهِ جِنَانَهُ، وَأَنَالَهُ غُفْرَانَهُ وَرِضْوَانَهُ).
وفي هذا الباب يروي الإمام العسكري (ع) عن جده أمير المؤمنين (ع) قوله: (مَنْ قَوَّى مِسْكِيناً فِي دِينِهِ، ضَعِيفاً فِي مَعْرِفَتِهِ عَلَى نَاصِبٍ مُخَالِفٍ فَأَفْحَمَهُ لَقَّنَهُ اَللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ يُدْلَى فِي قَبْرِهِ أَنْ يَقُولَ: اَللَّهُ رَبِّي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، وَعَلِيٌّ وَلِيِّي، وَاَلْكَعْبَةُ قِبْلَتِي، وَاَلْقُرْآنُ بَهْجَتِي وَعُدَّتِي وَاَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَانِي.. فَيَقُولُ اَللَّهُ: أَدْلَيْتَ بِالْحُجَّةِ، فَوَجَبَتْ لَكَ أَعَالِي دَرَجَاتِ اَلْجَنَّةِ.. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَوَّلُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ أَنْزَهَ رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ).
ويقَولَ اَلْإِمَامُ العَسْكَرِي (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): (إِنَّ مِنْ مُحِبِّي مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ مَسَاكِينَ، مُوَاسَاتُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوَاسَاةِ مَسَاكِينِ اَلْفُقَرَاءِ، وَهُمُ اَلَّذِينَ سَكَنَتْ جَوَارِحُهُمْ، وَضَعُفَتْ قُوَاهُمْ عَنْ مُقَاتَلَةِ أَعْدَاءِ اَللَّهِ اَلَّذِينَ يُعَيِّرُونَهُمْ بِدِينِهِمْ وَيُسَفِّهُونَ أَحْلاَمَهُمْ، أَلاَ فَمَنْ قَوَّاهُمْ بِفِقْهِهِ وَعِلْمِهِ حَتَّى أَزَالَ مَسْكَنَتَهُمْ، ثُمَّ سَلَّطَهُمْ عَلَى اَلْأَعْدَاءِ اَلظَّاهِرِينَ: اَلنَّوَاصِبِ وَعَلَى اَلْأَعْدَاءِ اَلْبَاطِنِينَ: إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ، حَتَّى يَهْزِمُوهُمْ عَنْ دِينِ اَللَّهِ، وَيَذُودُوهُمْ عَنْ أَوْلِيَاءِ آلِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، حَوَّلَ اَللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ اَلْمَسْكَنَةَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، فَأَعْجَزَهُمْ عَنْ إِضْلاَلِهِمْ، قَضَى اَللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ قَضَاءً حَقّاً عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ).
وبعد هذا البيان لضرورة التمسك بالولاية كمنهج في هذه الحياة لأنها كما يقول الإمام العسكري (ع): قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): إِنَّ وَلاَيَةَ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لاَ يَضُرُّ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ اَلسَّيِّئَاتِ وَإِنْ جَلَّتْ إِلاَّ مَا يُصِيبُ أَهْلَهَا مِنَ اَلتَّطْهِيرِ مِنْهَا بِمِحَنِ اَلدُّنْيَا، وَبِبَعْضِ اَلْعَذَابِ فِي اَلْآخِرَةِ إِلَى أَنْ يَنْجُوَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ مَوَالِيهِ اَلطَّيِّبِينَ اَلطَّاهِرِينَ.
وَإِنَّ وَلاَيَةَ أَضْدَادِ عَلِيٍّ وَمُخَالَفَةَ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سَيِّئَةٌ لاَ يَنْفَعُ مَعَهَا شَيْءٌ إِلاَّ مَا يَنْفَعُهُمْ بِطَاعَاتِهِمْ فِي اَلدُّنْيَا بِالنِّعَمِ وَاَلصِّحَّةِ وَاَلسَّعَةِ، فَيَرِدُونَ اَلْآخِرَةَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ إِلاَّ دَائِمُ اَلْعَذَابِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَنْ جَحَدَ وَلاَيَةَ عَلِيٍّ لاَ يَرَى اَلْجَنَّةَ بِعَيْنِهِ أَبَداً إِلاَّ مَا يَرَاهُ بِمَا يَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُوَالِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ مَحَلَّهُ وَمَأْوَاهُ وَمَنْزِلَهُ، فَيَزْدَادُ حَسَرَاتٍ وَنَدَامَاتٍ.. وَإِنَّ مَنْ تَوَالَى عَلِيّاً، وَبَرِئَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَسَلَّمَ لِأَوْلِيَائِهِ لاَ يَرَى اَلنَّارَ بِعَيْنِهِ أَبَداً إِلاَّ مَا يَرَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ مَأْوَاكَ، إِلاَّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا إِنْ كَانَ مُسْرِفاً عَلَى نَفْسِهِ - بِمَا دُونَ اَلْكُفْرِ - إِلَى أَنْ يُنَظَّفَ بِجَهَنَّمَ كَمَا يُنَظَّفُ اَلْقَذَرُ مِنْ بَدَنِهِ بِالْحَمَّامِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ مَوَالِيهِ.. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): اِتَّقُوا اَللَّهَ مَعَاشِرَ اَلشِّيعَةِ، فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ لَنْ تَفُوتَكُمْ وَإِنْ أَبْطَأَتْ بِكُمْ عَنْهَا قَبَائِحُ أَعْمَالِكُمْ، فَتَنَافَسُوا فِي دَرَجَاتِهَا).
أليست هي البشارة الكبرى للشيعة الكرام الذين ثبتوا على هذا المنهج والطريق رغم كل ما أصابهم من بلايا ورزايا منذ كربلاء وعاشوراء المأساة الخالدة وما بعدها من المصائب والمحن، وقدَّموا كل ما استطاعوا من دماء طاهرة وأموال مزكاة وأعراض مصانات، في هذا السبيل اللاحب، يقودهم في مسيرتهم مَنْ عيَّنهم وأعطى أوصافهم الإمام العسكري (ع) كقاعدة كلية يسير عليها الشيعة الكرام إلى اليوم وإلى اليوم الموعود حيث يحضر الشاهد والمشهود، ويخرج ناموس الدهر وإمام العصر الحجة بن الحسن المهدي (عج).
يقول الإمام العسكري (ع) عن المراجع في الأمة: (فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلاَهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ.. وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ [فِي] بَعْضِ فُقَهَاءِ اَلشِّيعَةِ لاَ جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ رَكِبَ مِنَ اَلْقَبَائِحِ وَاَلْفَوَاحِشِ مَرَاكِبَ فَسَقَةِ فُقَهَاءِ اَلْعَامَّةِ فَلاَ تَقْبَلُوا مِنْهُمْ عَنَّا شَيْئاً، وَلاَ كَرَامَةَ لَهُمْ).
فهذه القاعدة الذهبية هي التي حفظت الدِّين الإسلامي من التحريف كما حفظته عاشوراء وتلك الدماء الزاكيات فيها من الدفن والإندثار ولذا فالعلماء الفساق أشد ضرراً على الأمة من جيش يزيد وعبيد الله بن زياد كما يبين الإمام العسكري (ع): (هُمْ أَضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَى اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ يَسْلُبُونَهُمُ اَلْأَرْوَاحَ وَاَلْأَمْوَالَ، وَلِلْمَسْلُوبِينَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلْأَحْوَالِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ.. وَهَؤُلاَءِ عُلَمَاءُ اَلسَّوْءِ اَلنَّاصِبُونَ اَلْمُشَبِّهُونَ بِأَنَّهُمْ لَنَا مُوَالُونَ، وَلِأَعْدَائِنَا مُعَادُونَ يُدْخِلُونَ اَلشَّكَّ وَاَلشُّبْهَةَ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، فَيُضِلُّونَهُمْ وَيَمْنَعُونَهُمْ عَنْ قَصْدِ اَلْحَقِّ اَلْمُصِيبِ).
هكذا حفظ الإمام العسكري (ع) الأمة من بعده وهو الشاب الغريب والسجين العجيب الذي قضى نحبه مظلوماً غريباً في كل شيء وهو لم يتجاوز 28 سنة من عمره الشريف لأنه عصي على العباسيين وجوده المبارك وتدجينه لمصلحتهم فدسوا له السم فمضى شهيداً سعيداً وشاهداً عليهم وعلى ظلمهم وإجرامهم، ولكنه قام بعمل عظيم رسَّخ الأمة في هذه الحياة وأثبتها في هذا الوجود رغم كل التحديات وظلم الطغاة.
فالسلام عليه يوم ولد ويوم قام بإمامته ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
اضف تعليق