احتار كبار الشيعة في أمر الإمام من بعد الرضا، عليه السلام، فقد خلطوا حزنهم ودموعهم على الامام الرضا، بحيرتهم عمن يكون بعده، والامام الجواد كان حينها ابن ثمان سنين، ومما جاء في الروايات، أن أحد المتبصرين من علماء الشيعة قطع على اصحابه هذه الحيرة بأن عليهم العودة الى القرآن الكريم...
نظرة ملؤها الحزن والدموع تلتقي بين عيني الإمام الرضا وابنه الامام الجواد، عليهما السلام، في مراسيم الوادع على أطراف المدينة، فالاثنين على علم بأنه اللقاء الاخير في هذه الحياة الدنيا، فالامام الرضا لم يكن متجهاً صوب خراسان فقط، وإنما الى مصيره المقدّر له بأن يستشهد ويدفن في أرض طوس.
كان الامام الجواد، ابن ثمان سنين، او أقل حسب الروايات التاريخية، ليكون أول إمام في سلسلة الأئمة الأطهار، يتولى الإمامة والولاية في هذا العمر لتدخل الأمة في محنة تضاف الى محنها السابقة في عهد الامام الرضا الذي عاش في فترة التشكيك من بعض المحسوبين على الشيعة بأنه ليس بإمام، وأن الامام موسى الكاظم لم يمت، وسيظهر بعد غيبته، ثم أردف المشككون من القول الزور بأن الإمام الرضا لم يعقّب، إذ الى فترة طويلة من حياته لم يرزق بولد، الى أن قدّر الله –تعالى- تلك المرأة الطاهرة والعفيفة والمؤمنة والتي حملت اسماء عدّة منها "سبيكة"، و"الخيزران"، وهي جارية من بلاد النوبة، تسكنها إحدى الشعوب الأصيلة في افريقيا، وهي منطقة واقعة على ظفتي نهر النيل في شمال السودان، وكان التقدير الإلهي ان تكون هذه الفتاة النوبية أُمّاً لتاسع أئمة الهدى من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فغمره أباه الرضا بحبّه الجمّ، وتكريمه العظيم، وهو ابن ثلاث سنين كان يخاطبه بـ "أبو جعفر الثاني"، تمييزاً عن الامام أبو جعفر الباقر، وفي المجالس مع كبار العلماء والفقهاء يؤكد منزلته العظيمة، وأنه الإمام من بعده.
مِحنة العُمر
احتار كبار الشيعة في أمر الإمام من بعد الرضا، عليه السلام، فقد خلطوا حزنهم ودموعهم على الامام الرضا، بحيرتهم عمن يكون بعده، والامام الجواد كان حينها ابن ثمان سنين، ومما جاء في الروايات، أن أحد المتبصرين من علماء الشيعة قطع على اصحابه هذه الحيرة بأن عليهم العودة الى القرآن الكريم وكيف يبين لهم أن الولاية الإلهية لا تتعلق بالعمر مطلقاً، فقد {آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}، بالنسبة لنبي الله يحيى، بل وأقل من هذا العمر بالنسبة لنبي الله عيسى، عندما كلّم بني اسرائيل وقطع عليهم تشكيكهم وافتراءاتهم على أمه الصديقة مريم، فعندما قالوا {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}، فاستقرت نفوس الشيعة واطمأنت قلوبهم.
هذا من جانب الشيعة والموالين لأهل بيت رسول الله، أما الإمام الجواد، عليه السلام، فقد كان له دوره المحوري والاساس في إعطاء إمامته مصداقية عملية، مع إثبات أحقيته على غيره من المدّعين لقيادة الأمة في الحكم والقضاء والشريعة، فكان ردّه على المشككين والمستصغرين، غاية في الذكاء والحنكة، استخدم فيها لغة الالغاز في المناظرة العلمية التي جرت بحضور المأمون العباسي بعد تعرضه لضغوط شديد من رموز العباسيين المتخوفين على سلطانهم مما توهموه من استغلال الامام الجواد مصاهرته للمأمون بانتزاع الحكم منهم، فدعاهم لحضور المناظرة العلمية، كما فعل الشيء نفسه مع الامام الرضا في المناظرة المعروفة مع قادة الأديان والمذاهب.
المدعو يحيى بن أكثم الذي كان يتبوأ منصب قاضي القضاء، (رئيس السلطة القضائية) في دولة المأمون، وجه سؤالاً للإمام الجواد عن محرم قتل صيداً، فما حكمه؟
أجابه الامام الجواد بأحد عشر سؤال بـ "هل قتله في حل او حرم؟ عالماً كان أم جاهلاً؟ عمداً او خطأ؟ حُراً كان أم عبد؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أم مُعيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد ام من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كبارها؟ مصراً على ما فعله أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً؟ مُحرماً كان بالعمرة اذ قتله أم بالحج كان محرماً؟
بهذه الطريقة بين الإمام الجواد لهذا المدعي العلم وللمأمون ولسائر الحاضرين، بل ولأجيال الأمة من المُلم بأحكام الشريعة وتفصيلاتها الدقيقة؟
لم يكتف الامام الجواد بهذا ويترك المدعي العلم زوراً (يحيى بن أكثم) وحاله، بل وجه اليه سؤالاً ملغّزاً بأن "أخبرني عن رجل نظر الى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً، فلما ارتفع النهار حلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حَلّت له، فلمّا غربت الشمس حَرُمت عليه، فلمّا دخل عليه وقت العِشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان منتصف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له. ما حال هذ المرأة وبماذا حَلّت له وحرمت عليه"؟
المصادر التاريخية لا تبين حالة يحيى بن أكثم وتقاسيم وجهه وهو يسمع هذه الاسئلة الصاعقة تنزل على رأسه، فلاذ بالصمت بحضور المأمون العباسي الذي حاول تخفيف الوطأة على صاحبه بطلبه من الإمام بأن يبين هو حال هذه المرأة في مسألة افتراضية ابتكرها الإمام ليختبر المدّعين، فأجابه الامام بأن رجلاً نظر بشهوة الى أمة، ثم اشتراها فحلت له، ثم اعتقها فحرمت عليه، ثم تزوجها فحلّت له، ثم طلقها فحرمت عليه، ثم عاد اليها فحلّت له، ثم ظاهرها فحرمت عليه، ثم كفّر عن ذنبه وعاد اليها فجراً".
ثم إن الامام الجواد اتخذ خطوة استباقية اخرى بعد زواجه من بنت المأمون بأن طلب من الاخير بإصرار مغادرة بغداد عائداً الى مدينة جدّه المصطفى ليحافظ عل محورية هذه المدينة في قلوب ونفوس المسلمين من الناحية العلمية والدينية، فقد ازدهرت بوجود الامام بالعلماء والفقهاء الامر الذي أثار مخاوف بني العباس وتحديداً المعتصم العباسي الذي خلف أخاه المأمون فاستدعاه الى بغداد للمرة الثانية والاخيرة.
كيف تعامل الامام مع فتنة "خلق القرآن"
أشرنا في مقالات سابقة عن سيرة حياة المأمون العباسي وكيف أنه مارس النفاق مع الامام الرضا ومن بعده ابنه الامام الجواد بإظهار الحب والمودة لهما ليخفي مذهبه الحقيقي الداعم لوجوده السياسي، ففي الوقت الذي كان يعد الإمام الرضا ولياً لعهده، أي الرجل الثاني في الدولة الاسلامية، يحلّ محله في حال موته، ومن المفترض ان يكون مؤمناً بمدرسة الوحي ومسألة الغيب، كان يضمر الاعتقاد والايمان بمدرسة العقل المطلق لفهم مسائل الدين، لذا أطلق دعوته الى الآفاق بنشر مذهب الاعتزال بعد تنفيذ عملية اغتيال الامام الرضا، وأمر بأن يُعرض الناس في كل أنحاء البلاد الاسلامية على السيف، إن قبل الاعتزال وإلا قُتل. ومن أبرز معتقدات هذا المذهب "خلق القرآن"، ونفي أن يكون كلام الله –تعالى-، فالجماعة ثقُل عليهم أن يتحدث الله –تعالى- الى نبيه موسى، عليه السلام، مثلاً، او أن يهبط جبرائيل ويأتي بكلام من الله –تعالى- الى نبيه المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، لتكون آيات مباركات في كتاب مجيد.
وقد سار على نفس النهج، شقيق المأمون؛ المعتصم الذي عاصر الامام الجواد، عليه السلام، بيد أن هذه الفتنة لم تكن لتضر الامام ولا الشيعة بفضل حكمته وحنكته وتفنيده لمؤامرة كان المأمون يدبرها للإيقاع بالإمام ودفعه لمواجهة فكرية مكشوفة محورها العقيدة والدين، وربما يلقى الامام حتفه بسببها، والأخطر من هذا؛ تعرض ايمان ابناء الامة للاهتزاز، ومن ثم التوجه أكثر مما حصل في عهد المأمون صاحب "بيت الحكمة" وتراجم كتب الفلسفة اليونانية والافكار الغريبة على الاسلام، عندما يجدون الاسلام عاجزاً عن جمع الشمل على كلمة التوحيد وتوفير الامن والاستقرار للناس، فكان موقفه، عليه السلام، من هذه الفتنة، رسالة بعثها الى بعض شيعته في بغداد أوصى بها بأن "عصمنا الله و إياك من الفتنة، فان يفعل فأعظم نعمة وأن لا يفعل فهي الحكمة، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب فيتعاطى السائل ما ليس به، ويتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله –عزوجل- وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين".
تجاهل الامام الجواد هذه الدعوة الباطلة تماماً ليترك للزمن دوره، ولتطور عقل الانسان ونمو الوعي والثقافة في الامة، ولتعيد للعقل منزلته الحقيقية كما أراده الله –تعالى-، وبأن يكون أحد عوامل رسوخ العقيدة والدين في النفوس، لا أن يكون الدين كله، وهذا ما حصل فقد أثبتت الايام والزمان أي عقيدة تزول وأي عقيدة تبقى متجذرة في النفس البشرية.
في نفس الوقت لم يدع هذه الفتنة لتنتشر دون رد، على الأقل لما يشفي صدور الشيعة والمؤمنين، فقد سُئل: إن الله له اسماء وصفات في كتابه، هل اسماؤه وصفاته هي هو؟ فأجاب، عليه السلام: "لا تكون الصفات هي هو، إن قصد التعدد والكثرة، فهي تتنافى مع الوحدانية، وإن كان المراد "لم تزل" عنه في علمه وهو يستحقها فنعم"، وكان الامام الجواد يرد على فكرة توحيد الصفات مما دعا اليه المعتزلة، ونفيهم أن يكون الله –تعالى- بصير، و رزاق، وكريم، وعليم.
ولعل هذا يفسر لنا إحجام العباسيين عن عقد مناظرة مكشوفة حول مذهب الاعتزال كالتي فعلها المأمون مع اصحاب الاديان في عهد الامام الرضا، ومع الفقهاء في عهد الامام الجواد، لخوفهم، بل لعلمهم اليقين بأن منهزمون لا محالة أمام حجج وبراهين الامام ببطلان الاعتزال وأحقية مذهب أهل البيت، عليهم السلام، لذا كانوا يتحاشون الامام والدائرة المقربة منه، ويكتفون بالضغط على الناس العاديين، فخرج الامام الجواد من هذه الفتنة سالماً دون أن يمنح العباسيين مبرراً لقتله او الضغط عليه.
وكما هو حال سائر الأئمة كان سلاح الحكام العباسيين؛ الوشاية الجبانة وحسد بعض المحسوبين على العلم والمعرفة من وعاظ السلاطين، فهؤلاء هم من كانوا يوفرون المبررات لتوجيه الأذى والتهديد بالقتل للأئمة الاطهار، ومنهم؛ الامام الجواد، وتنقل الروايات التاريخية أن مناظرة فقهية جرت في حضرة المعتصم العباسي عن سارق يريدون إقامة الحد عليه وفق حكم القرآن الكريم، فمن أين يكون قطع اليد؟
فتحدث من كان موجوداً في المجلس، وكان بينهم ابو داوود السجستاني الذي أفتى بقطع كف يد السارق، وكان برهانه الآية الكريمة: {فامسحوا بوجوهكم}، وقال آخرون تقطع من المرفق، وكان الامام الجواد يستمع فقط، فدعاه المعتصم للإدلاء بدلوه، وبعد إصرار منه قال، عليه السلام، إنما تقطع من الأصابع، والدليل اثنان وليس واحد، الاول: قول رسول الله: "السجود على سبعة أعضاء، ومنها اليدين"، ثم قوله تعالى: "إن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً}.
تقول الروايات التاريخية أن هذا الجواب القاطع والأصيل جعل السجستاني يغلي من الغيظ والحقد على الامام الجواد، فراح يكيد له عند المعتصم بنفس النغمة المكررة بأن الامام "يجمع الاموال والرجال والسلاح للانقلاب عليك..."! ويعزو بعض الرواة هذه الحادثة من أسباب اتخاذ المعتصم قراره النهائي بدسّ السمّ الى الامام الجواد بواسطة زوجته "أم الفضل"، ابنة المأمون التي وجدت الأمر بتنفيذ الاغتيال فرصة لتفريغ شحنات الحقد والبغضاء على الإمام طيلة فترة معاشرتها الامام بسبب عقمها وغيرتها من سائر النساء الولود.
فذهب الامام الجواد، عليه السلام، في مثل هذه الايام شهيداً محتسباً على ظلم وانحراف السلطة العباسية، وقد أدى دوره الرسالي وأمانته أمام الله –تعالى- وأمام جدّه المصطفى، بأفضل ما يكون في حفظ كيان الدين وعقيدة الأمة.
اضف تعليق