التأريخ خلد لنا نموذجا رائعا من الحكومات الدينية والشعبية التي كانت قد اعتمدت على المبادئ والقيم الإنسانية في حكم الناس، وطبقت تعاليم الإسلام وروحه، وحظيت برضا الناس، وهي حكومة الإمام علي تلك الحكومة التي لم تتكرر في التراث الإسلامي رغم أن الفترة الزمنية لها كانت قصيرة جدا...
عندما يكون هناك بشر تكون هناك سلطة. والعلاقة بين السلطة الحاكمة والشعب ينبغي أن تكون علاقة مستقرة مبنية على أساس أن تقوم السلطة بواجباتها في حفظ أمن المواطن وحفظ حقوقه وأمواله. لكن ليست العلاقة بين السلطة الحاكمة وبين الشعب المحكوم هي علاقة مستقرة دائما، ففي الغالب تقوم السلطة باضطهاد عموم الشعب أو جزء كبير منه، وتمارس بحقه مختلف أساليب الاستبداد والقمع في سبيل البقاء في السلطة والتحكم في مصير الناس وسلب أموالهم.
والسلطة التي تستند إلى قيم إنسانية ودينية، وتتعامل مع شعبها على هذا الأساس، وعلى أساس أنها مخولة ونائبة عنه ومكلفة بأداء مهمات محددة، دون تسخير الدين لمصالح الحكام والولاة تكون أقرب إلى الله وأقرب إلى الناس. ومع ذلك؛ ليس كل سلطة حكمت باسم الدين أو باسم الشعب هي سلطة مبادئ وقيم، وليس كل سلطة دينية أو شعبية كانت أقرب إلى الله وأقرب إلى الناس.
إنما يٌقاس القرب من الله ومن الناس على أساس سلوك تلك السلطة وأفعالها وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والصحية... ورضا الناس عنها. فكم من حكومة قامت على أساس الدين خرجت عنه بُعيد استلام السلطة، وكم من حكومة جاءت بانتخاب الشعب انقلبت عليه، وحكمته بالحديد والنار. حتى شاع أن الناس ما زالوا ينفرون من حكم الدين بسبب حكومات دينية فاسدة ومستبدة، وشاع أن الناس بدأوا ينفرون من الحكومات الشعبية التي تجري فيها الانتخابات بسبب تزويرها وفسادها، وضعف قدرتها على تحكيم القانون...
لكن التأريخ الإسلامي خلد لنا نموذجا رائعا من الحكومات الدينية والشعبية التي كانت قد اعتمدت على المبادئ والقيم الإنسانية في حكم الناس، وطبقت تعاليم الإسلام وروحه، وحظيت برضا الناس، وهي حكومة الإمام علي (ع) تلك الحكومة التي لم تتكرر في التراث الإسلامي رغم أن الفترة الزمنية لها كانت قصيرة جدا.
يقول الإمام الشيرازي (كان عندنا في التاريخ، رجل اسمه عليّ بن أبي طالب “صلوات الله عليه” وهذا الرجل حكم قبل ألف وأربعمائة سنة، حيث كانت الدنيا كلّها ديكتاتورية، وكان هذا الرجل رئيس حكومة في بلد إسلامي، وكانت حكومته أكبر حكومة على وجه الأرض، فقد امتدّت حكومته على الشرق الأوسط كلّه، وقسم من أوروبا وإلى عمق أفريقيا، وفي طول حكومته لم يكن عنده قتيل سياسي واحد، ولا سجين سياسي واحد، ولا منع حتى شخص واحد من الخروج على الدولة، وكان لا يستخدم السلاح إلاّ للدفاع، أيّ إذا تعرّض لهجوم مسلّح فقط، ولم يستخدم السلاح أبداً في الردّ على من هاجمه بسبّ أو بكلمة أو كلام اعتراض وما شابه ذلك).
لذلك؛ ربما يكون من المفيد أن نستعرض بعض ملامح حكومة الإمام علي (ع) في الكوفة، حين حكم دولة كانت تضم نحو (50) دولة من الدول الحاضرة، لكي نأخذ من قوانينه وتعليماته وسلوكه السياسي ما يمكن أن يفتح سبل التعامل مع المواطنين لكل من يحكم البلاد أو يريد أن يحكم البلاد. فليس كل من حكم أو طلب الحكم ثم حكم تمكن من حكم الناس بالعدل والإنصاف على الرغم أن الإطار العام للحكم في الدول (الإسلامية) هي الاستناد إلى الإسلام كنظام حكم وعلاقات اجتماعية.
حكم الإمام على أبن أبي طالب(ع) الدولة الإسلامية بعد مقتل الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) في (25) ذي الحجة عام (35هـ)، وقد ركز على مجموعة قضايا أساسية كجزء من برنامجه الإصلاحي، ولعل أهمها هي:
1. اختيار القيادة الصالحة:
لا يستطيع أي أحد مهما أوتيه من حكمة وتجربة ودراية ومعرفة بشؤون الناس أو الدين أو إدارة الحكم، أن يطبق منهجه الإصلاحي، ويحكم الناس بالعدل والمساواة فيما بين الرعية ما لم يكون معه أفراد مؤمنون بالقائد، ومؤمنون بنهجه وببرنامجه في إدارة الحكم. والقائد الناجح هو من يختار من يمثله في الولايات أو المحافظات من يمثله بشكل كامل وينوب عنه في تطبيق رؤيته الإصلاحية. والقائد الفاشل هو الذي يختار نوابه بطريقة عشوائية لمجرد إظهار الولاء والطاعة له.
وهكذا الأمر ينطبق على كل من هو أدنى رتبة من القائد أو الرئيس، فالمدير في المؤسسة الحكومية هو الآخر مقياس نجاحه أو فشله هو قدرته على اختيار موظفيه فان كان الاختيار يقوم على أسس مهنية كانت المؤسسة عاملة ونامية ومنتجة، وإن كان الاختيار يقوم على أسس الانتماء الأسري أو الحزبي أو الطائفي أو القومي كانت المؤسسة معطلة ونائمة وغير منتجة.
وهكذا فعل الإمام علي (ع) فأول ما قام به أنه نظر إلى حكام الولايات، وراجع سيرتهم في الحكم، وفي تعاملهم مع سكان الولاية، فأقصى من الحكم كل والي كان يدير الولاية لمصالحه أو مصالح أسرته وعشيرته، وأقصى من الحكم فورا كل من تلاعب بأموال الناس وجعلها بين أقرباءه نهبا،
وحدثنا التأريخ أن الأمام علي (ع) كان شديد المراقبة لكل الولاة، وذلك لمنع الظلم والحيف وتحقيق العدالة والمحافظة على أموال المسلمين، فكان يحاسب عمّاله على ما في أيديهم وعلى ما أنفقوه. فكان يراقب الولاة والعمّال، ويمعن في محاسبتهم، فإذا بدرت من أحدهم خيانة بادر إلى عزله، ومصادرة ما اختلسه من الأموال، وقد بلغه عن بعض عمّاله أنّه استأثر ببعض أموال المسلمين فكتب إليه) أمّا بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك، وعصيت إمامك...، بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب الناس) وقد أوصى مالك الأشتر (استعملهم اختباراً ثمّ تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم).
2. المحافظة على أموال الدولة:
لعل من أهم وظائف السلطة الصالحة هي المحافظة على أموال الدولة، وحماية أموال الناس من السطو والسرقة. وأول ما يكون للقائد الصالح أن يفكر بان يعطي هذه الأموال ويؤمنها عند من لا يسرقها أو يختلسها، لأن أموال الشعب تسرق أول ما تسرق من الموظفين المتولين عليها، إما اختلاسا وتزويرا، وإما عن طريق تبذيرها وصرفها في غير موردها.
وليس ثمة شك أن التحكم بالمال العام وصرفه على أصوله هي من أهم المسائل التي يحصل عليها الخلاف والاختلاف بين السلطة والشعب. فعندما تصرف السلطة أموال الشعب على غير الشعب ولا في مصالحه، فان ذلك مدعاة للخروج الشعب على سلطته، سواء كانت تحكم باسم الشعب أو باسم الدين، فلا يهم الناس الشعار الذي ترفعه السلطة وإنما يهمها ألا تقوم السلطة أو المقربون لها بنهب أموال الشعب وسرقتها.
لذلك؛ كان الإمام علي (ع) يحرص أشد الحرص على المحافظة على أموال الشعب، سواء من خلال اختيار ولاة ثقاة لديه، ومراقبتهم ومحاسبتهم بشكل مستمر. أو من خلال الحرص على توزيع الأموال توزيعا عادلا بين الرعية دون أن يستثر عليها جماعة دون جماعة، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز، وإنما الجميع على حدٍّ سواء.
فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأسرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره. وقد خفت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته فأجابهم الإمام (عليه السلام) قائلا (لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف، وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويُكرّمه في الناس، ويهينه عند الله).
ومن جهة أخرى حرص الإمام علي (ع) على إنفاق جزء من أموال بيت المال على المشروعات الزراعية والتنموية التي يحتاج إليها الناس، وكان يوصي عماله (وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً).
3. الإنصات إلى مظالم الناس:
يغفل الكثير من القادة والرؤساء متابعة المظالم التي تقع على الناس من مؤسسات الدولة أو من قادتها أو من أجهزتها الأمنية، والاعتداء على الناس أو أموالهم، دون وجه حق. فالناس عادة ما يكونون بحاجة إلى الوصول إلى الرئيس أو القائد أو من ينوب عنه لينظر فيما أخذته هذه المؤسسة الحكومية من إجراءات تعسفية بحق المواطنين، أو فيما تصرف هذا المسؤول أو ذلك الموظف من تصرف شخصي في الاعتداء على حقوق المواطنين مستغلا منصبه أو وظيفته في إحدى المؤسسات الحكومية المدنية أو العسكرية أو الأمنية.
فإذا لم يجد المواطنون من يذهبون إليه للشكوى من الظلمة زادت المظالم، واتسعت الهوة بين السلطة وبين الشعب، وقد يصل الأمر إلى أن يثور الناس ضد الحكومة وولاتها وموظفيها، ويحصل القتل والجرح والنهب والسلب، فتخسر الحكومة مكانتها بين الناس، ويفقد الناس الأمن والاستقرار.
لذا تنبه الإمام علي (ع) في حكومته إلى أهمية وجود مؤسسة حكومية ترعى مظالم الناس وتؤمن لهم جزء من العدالة والإنصاف، ويعد الإمام علي (ع) أول من أسّس ديوان متابعة المظالم لرفع الظلم المتسلّط على رقاب المستضعفين وإعطائهم حقوقهم. وهدف ديوان المظالم الذي أسّسه الإمام علي (عليه السلام) هو النظر في الشكاوى التي يرفعها المواطنون ضدّ الولاة والحكّام إذا انحرفوا عن طريق الحقّ وجاروا على الرعية، وسلبوا حقوقهم المادّية والمعنوية وتنفيذ الأحكام الصادرة من القضاة والمحتسبين، لأنّ والي المظالم أقوى يداً وأنفذ أمراً من غيرهم ومحاسبة العمّال وغيرهم من كبار الموظّفين إذا شذّوا في سلوكهم، ولم يؤدّوا واجباتهم.
فما أحوجنا إلى هذه الإجراءات الحكومية في دولة تدعي أنها تستلهم مبادئها من مبادئ الإمام علي (ع) وفي دولة تدعي أنها أقرب إلى القيم والمبادئ الإنسانية في علاقتها مع شعبها. فليس ثمة شك أنه لا يوجد قائد أو مسؤول في هذه الدولة يستطيع أن يفتخر أمام شعبه أنه إنما حكمهم بالعدل والإنصاف، ولم ينهب أموالهم، ولم يُبذرها، ولم يسمح لأتباعه أن يستأثروا بأموال الشعب وقوته. فمثل هذا القائد لم يولد بعد.
اضف تعليق