عرف العالم كله أنها انتخبت من بين سيدات العالم (لتلد الفارس) الناصر لأهل البيت (ع)، فهي أولى بتلك المعرفة، ومع ذلك قدّمت أربعة من الفرسان، قامت على رعايتهم وتنشئتهم بكامل وعيها، ليكونوا كباش فداء لسيدهم الإمام الحسين (ع)، وقد عاشت لترى ثمرة جهدها وتتأكد من إتمام...
إن معرفة عظمة الشخصيات المرتبطة بالإسلام المحمدي الأصيل من ضروريات الحياة، لأنهم المدد الذي نستلهم منه المواقف والعبر التاريخية التي تبني لنا الحاضر، وتكتمل فصول التجربة التاريخية التي انقلب فيها خط الخنوع على خط الرسالة، حيث أصبح هنالك فريقان، فريق يغذيه حكام الجور على مدى الأزمان، وفريق يصرف فيه الثائرون دماءهم وجهودهم لإقامة الدين في حياة الإنسان.
وبسبب التداخلات السياسية والتعقيد في مؤثرات حركة التاريخ المتعددة الجوانب، لا يمكن أن نقتصر في فهم عظمة الشخصيات، على الفهم المباشر، الذي ينتظر نصوصاً بيّنة صريحة من الوثائق التاريخية التي كتبها المؤرخون، فنحن أمام ملحوظتين ينبغي الأخذ بهما بجدية الباحث الحصيف، وهما:
1/ وجود خط الخنوع المُغذى من حكّام الجور، حيث قاموا برعاية المؤرخين وتحريف التاريخ، ومنع تدوين نقاط الضوء فيه، وحشو صفحاته بدقائق يوميات البطر والمجون.
2/ ملاحظة الشخصية كعنصر في مجتمع حي كبير متداخل في تكويناته ومصالحه وأوجهه وتموجاته، ولا يمكن عزل الفرد عن حراك الأمة الكبير وتركيب المجتمع المترامي الأطراف.
وبين هذا وذاك، فإن الباحث ينبغي له أن يتصيّد الإشارات ويجمع حزم النور، عبر ملاحظة ما ذكرناه، فالتاريخ يخبرنا بعظمة سيدات مثل زينب (ع) وفاطمة المعصومة (ع)، وسادة كالعباس (ع) وعلي الأكبر (ع) وسلمان (ع)، بنصوص مباشرة هي شهادات عظمة محفورة في صفحات التاريخ. إلا أنك تقف عند بعض الشخصيات ممن لم يسجل التاريخ شهادات مباشرة في حقهم، كأم البنين زوجة أمير المؤمنين (ع) أم العباس (ع)، فمثل هذا النموذج ينبغي أن نلحظ الحركة العامة لشخصيتها، إضافة إلى الإشارات النورانية الخاصة، فنجمع بين هذا وذاك جمعاً متسقاً مع مفاهيم الدين وروح الشريعة، كي نصل إلى حزمة النور وملامح العظمة.
ومن أهم ما ينبغي حفره واستخراج كنزه، هي المدة الزمنية بين انتخاب أمير المؤمنين (ع) أم البنين زوجة لتلد له فارساً، إلى فترة لقاء بنت أمير المؤمنين زينب (ع) لها، بعد شهادة الإمام الحسين (ع). فالفترة التاريخية الأكثر إيلاماً على أهل البيت (ع)، قد عاصرتها أم البنين (وبملاحظة البداية والنهاية) يترشح أمامنا أنها وقفت في صف أهل البيت (ع) في كل التحديات التي مرّت عليهم وكانت ثابتة كالجبل الأشمّ مع أهل البيت (ع)، فلم تكن تلك الفترة إلا مجموعة من آلام الإمام علي (ع) حتى شهادته، ومجموعة من غصص الإمام الحسن (ع) حتى شهادته، ومجموعة من ظلامات الإمام الحسين (ع) حتى شهادته، ومع ذلك أثبت لنا التاريخ، ثباتاً منقطع النظير لهذه السيدة الجليلة، وبقيت أرملة طيلة حياتها، لم تتزوج غير الإمام علي (ع)، في أزمنة اعتادت الأرامل أن يتزوجن ويكملن حياتهن مع رجل آخر.
وفي قراءة مفهومية للشخصيات، نجد أن البشرية تعظم الكريم لـ (كرمه)، والمتصدق (لصدقته)، والصادق (لصدقه)، والعادل (لعدله)، فحركة المفاهيم هي التي ترفع الشخصيات وتجلي لنا مواطن العظمة، فإذا استعرنا من المخزون الديني مفاهيم مثل (حب أهل البيت)، و(نصرة أهل البيت)، و(خدمة أهل البيت)، و(مواساة أهل البيت)، فلا نجد إلا انحناء التاريخ أمام الذي استثمر حياته فيها، وأم البنين بين (انتخابها زوجة) و(إيداع جسدها الثرى)، سجّلت بشراً معجوناً طينته وممزوجاً دمه بهذه المفاهيم، وبذلك التصقت بمعدن العظمة ورفلت في ميادينها.
فقد عرف العالم كله أنها انتخبت من بين سيدات العالم (لتلد الفارس) الناصر لأهل البيت (ع)، فهي أولى بتلك المعرفة، ومع ذلك قدّمت أربعة من الفرسان، قامت على رعايتهم وتنشئتهم بكامل وعيها، ليكونوا كباش فداء لسيدهم الإمام الحسين (ع)، وقد عاشت لترى ثمرة جهدها وتتأكد من إتمام المهمة بنداء ولدها العباس (ع) لأخوته في يوم العاشر: (يا بني أم تقدموا للقتال، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تستشهدوا دونه...)، فهذا مثال لاستحضار مفهوم (نصرة أهل البيت) في قراءة تاريخ أم البنين (ع)، لنعي درجة العظمة التي وصلت إليها، خصوصاً في زمن ندرة الناصر وشح الموالي.
كما أن الفطرة تعي تماماً ما يحمله عطف الأم من حب لأولادها، على الأخص إذا كانوا أولاداً بارّين قد مسح الفضل على قلوبهم كأولاد أم البنين (ع)، فيقدّم لنا التاريخ موقف استقبال أم البنين (ع) لنبأ شهادتهم مقطعين بالسيوف، وكيف أن اهتمامها الأكبر كان يلاحق نبأ ما أصاب الإمام الحسين (ع)، فتحزن وتجزع عليه، وهذا الموقف يستحضر لنا مفهوم (حب أهل البيت) وتقديمهم على النفس والولد، حتى لو كان الثمن ذهاب حياة كل أولاد أم عطوف.
إن استحضار القراءة المفاهيمية للتاريخ وتقدير الشخصيات لما ثبت لهم من حظ في تلك المفاهيم، ولو كانت أسطر التاريخ قليلة، من شأنه أن ينبئنا عن عظمة خالدة، كعظمة السيدة أم البنين (ع)، ولن يكون بعدها مستغرباً أن يلتف حول مائدتها الناس، متوسلين بعظمة جسّدت في حق هل البيت (ع) الثبات على النهج، والنصرة والحب والمواساة والخدمة، بأروع تجسيد، ليقدموها بين يدي حاجاتهم، كوجيهة عند الله بأهل البيت (ع).
اضف تعليق