المجتمع الكوفي كان مقسماً من الناحية الإدارية والاجتماعية على عدة قبائل تحمل توجهات وولاءات مختلفة يجمعها أمرٌ واحد وهو؛ ممارسة القتال واحتراف المبارزة والحرب، كون المدينة شُيدت بالاساس لتكون حامية عكسرية للجيش الاسلامي ينطلق منها نحو الشرق، ولاسباب عديدة لسنا بوارد الخوض فيها...
"انا باعث اليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل، فان كتب إليّ بانه قد اجتمع رأي ملأكم و ذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، فان أقدم اليكم وشيكاً ان شاءالله".
بمنتهى الشفافية والصدق، خاطب الامام الحسين، عليه السلام، أهل الكوفة وأعيانها ممن كتبوا اليه وعاهدوه بالبيعة والطاعة، وانه انتدب اليهم أقرب الناس اليه، وأكثرهم علماً وحكمة وحنكة ومعرفة بالاوضاع السياسية والاجتماعية، وعادة ما يكون السفير حاملاً لسجايا ونوايا المرسل، فهو يمثله ويكون كالمرآة بينه وبين أهل ذلك البلد.
بيد أن الظروف السياسية الاستثنائية جعلت أهل الكوفة في اختبار تاريخي حاسم وصعب في آن، أعجزتهم عن الخروج بالرأس المرفوع أمام أهل بيت نبيهم، وشخص الإمام الحسين، عليه السلام، الذي كان في طريقه اليهم بدعوة منهم، وإلا لم يكن، عليه السلام، ليترك مدينة جدّه المصطفى رغم معارضته الشديدة لبيعة يزيد، فربما كانت المواجهة الحاسمة مع الأمويين في المدينة، وفي أرض الحجاز وليس في العراق، ولا في أرض كربلاء، فكانت بداية السقوط في خذلان مسلم وتمكين عبيد الله بن زياد منه ثم قتله بتلك الطريقة الشنيعة، إذ لم يكن يتصور أهل الكوفة؛ سواءً شريحة النخبة فيهم، من رؤوس القبائل وأعيان المجتمع، أو من عامة الناس، أن قضية الامام الحسين في رفضه بيعة يزيد، إنما هو مشروع بناء لما هدمه الأمويون طيلة حوالي نصف قرن من الزمن، من تضييع سنن النبي الأكرم، وتشويه صورة الاسلام، وهذا يتطلب التضحية وبذل الجهود المضنية وتجاوز المصالح الذاتية.
بعد استشهاد أمير المؤمنين، ومن ثمّ تنحّي الإمام الحسن عن قيادة الأمة سياسياً، استفرد معاوية والتيار الأموي بمقاليد السلطة، ووجدوا أنفسهم وقد تحقق حلمهم بانتزاع السيادة والقيادة من بني هاشم بعد طول مراوغة ومخاتلة وتظاهر بالإسلام منذ بزوغ فجر الرسالة، وصياغة النبي الأكرم لمجتمع جديد وأمة ناهضة على أنقاض الجاهلية والتخلف.
فقد فوجئ المسلمون على عموم الخارطة الاسلامية آنذاك بسياسة عنصرية وقمعية رهيبة لم يتوقعها احد مطلقاً قادها معاوية الذي افتتح عهد الملوكية في الاسلام، كما يؤكده معظم المؤرخين، وجعلها "هرقلية" كما نبّه الى ذلك أعيان الامة آنذاك، وكانت بصمات السياسة الرومية واضحة على المنهج السياسي لمعاوية الذي اتخذ من الشام عاصمة لدولته "الهرقلية" فأوغل في الدماء، ومارس سياسة التهديد والوعيد، كما مارس سياسة التغرير والتضليل، ولأن الكوفة كانت مصدر الرفض والمعارضة لسياسات التمييز والتنكيل، وهي التي عاشت ردحاً من الزمن في ظل عدل ومساواة وحرية أمير المؤمنين، عليه السلام، لاسيما اذا عرفنا أن نسبة كبيرة من نفوس المسلمين آنذاك كانت تتشكل ممن يُسمون بالموالي، وهم المسلمون من غير العرب الذي تبصروا بنور الاسلام خلال الفتوحات الاسلامية خارج أرض الجزيرة العربية، وكان جلّ هؤلاء يدينون بالولاء والحب لأهل بيت رسول الله، صلى الله وعليه وآله، ويعدونهم منبع الخير، والملجأ من الازمات والملمّات.
الارهاب المنظّم في غياب "المجتمع المدني"
المجتمع الكوفي كان مقسماً من الناحية الإدارية والاجتماعية على عدة قبائل تحمل توجهات و ولاءات مختلفة يجمعها أمرٌ واحد وهو؛ ممارسة القتال واحتراف المبارزة والحرب، كون المدينة شُيدت بالاساس لتكون حامية عكسرية للجيش الاسلامي ينطلق منها نحو الشرق، ولاسباب عديدة لسنا بوارد الخوض فيها، تحوّل عقيدة هذا الجيش من إظهار القوة العسكرية للعالم الخارجي لنشر الاسلام، الى جيش مبتلى بحروب الردّة والفتن والبغي داخل الامة الاسلامية نفسها، وخلال حروب طاحنة خاضها أمير المؤمنين مع الناكثين أولاً؛ (أصحاب الجمل في البصرة)، ثم القاسطين (أصحاب معاوية في الشام)، ثم المارقين (أصحاب التحكيم من الخوارج)، وكانت المعارك مع جيش الشام من أكثرها ضراوة وشراسة، الحقت الكثير من الأذى بجيش أمير المؤمنين، وهم على الأغلب من الكوفة.
وثمة نقطة هامة في التركيبة الثقافية لأهل الكوفة أن رجالها حرموا من مزاولة المهن والحرف "المدنية" مثل الزراعة والتجارة والصناعات اليدوية، "حتى لا يركنوا الى الكسل ويسيطر عليهم حب النعيم، فكان عمر بن الخطاب أول من وضع ديوان الجند أو ديوان العطاء وفرض للمسلمين ارزاقاً سنوية لهم ولذريتهم تعويضاً لهم عن الاشتغال بالمهن الاخرى"، (ما قبل عاشوراء، محمد هادي الأسدي)، بمعنى أن الحكام آنذاك جعلوا من المجتمع الكوفي مجتمعاً عسكرياً مجنداً لخوض القتال في أي لحظة.
ولذا نجد لغة الخطاب الأموي مع أهل الكوفة لم تكن سوى السيف وسفك الدماء لكل معارض لسياستهم، أو من يظهر الولاء لأهل بيت رسول الله، فعندما وصل عبيد الله بن زياد الى الكوفة ومعه كتاب التنصيب من يزيد، وبتوصية من مستشاره الرومي "سرجون" أعلن النفير العام لتشكيل الجيش المقاتل للإمام الحسين، عليه السلام، ومن تخلّف يضرب عنقه فوراً، وفي هذه الاثناء كان اعرابياً من الجزيرة العربية يتجول في شوارع الكوفة، فألقي القبض عليه وجيء به الى ابن زياد، فسأله عن سبب عدم التحاقه بجيش عمر بن سعد، فقال: ايها الأمير! انا رجل من الاعراب كنت قد بعت رجلاً من أهل الكوفة نياقاً بأجل، وجئت لاقبض ثمنها، وكانت الصدق واضحة في كلمات الرجل، فنظر ابن زياد الى جلسائه وقال: أظنه صادقاً، ولكنه التفت الى الجلاد، وقال: خذه واضرب عنقه ليكون عبرة لغيره!
هذه السياسة لها امتداد في الحكم الأموي للكوفة، فقد بدأت منذ عهد المغير بن شعبة التي ولاه معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين وخروج الامام الحسن منها وعودته الى المدينة، فقد أمره في رسالة له على "شتم علي وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على اصحاب علي والإقصاء لهم وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان والإدناء لهم والاستماع منه"، فكانت هذه السياسة "سبباً مباشراً في نشوء طبقة اجتماعية جديدة احتلت مواقعها في السلطة او الهرم الاجتماعي بسبب عدائها لأمير المؤمنين، وهذه قيم جديدة ما كانت لتنشأ لولا تلك السياسة التي أمر معاوية المغيرة باتباعها في الكوفة". (ماقبل عاشوراء).
ولابد من الاشارة الى الدور الكبير لثلّة من أصحاب أمير المؤمنين ومن زعماء الشيعة وأعيانهم مثل حجر بن عدي الكندي، وصعصعة بن صوحان العبدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأمثالهم ممن وقفوا بشدة وحزم أمام سياسات معاوية لتشويه صورة أمير المؤمنين في نفوس الناس وخلق ثقافة مشوهة بعيدة عن القيم والفضائل التي غرسها أمير المؤمنين وأهل البيت في المجتمع الاسلامي، فكان مصيرهم النفي والقتل، ولكن هذه التضحيات لم تكن بالحجم الذي يغير طبيعة تفكير أهل الكوفة القائم على الولاء للأقوى عسكرياً ومالياً.
الحرب النفسية والسقوط المريع
كما أسلفنا، فقد بذل التيار الأموي بزعامة معاوية ومن بعده ابنه يزيد، ومعهما زمرة المستشارين والمتزلفين من امثال المغيرة، ومروان بن الحكم، وزياد بن أبيه، أشباههم، جهوداً مضنية لتغيير ولاء الناس في الكوفة من أمير المؤمنين، وأهل بيت رسول الله، الى الولاء للدينار والدرهم، والقوة العسكرية، ومن جملة ما اتبعوه؛ الحرب النفسية، واساليب المكر والخديعة، وهي السياسة التي جربها معاوية بنفسه في حربه مع أمير المؤمنين في صفين، وفيما بعد مع الامام الحسن المجتبى، وقد بلغت هذه الحرب ذروتها مع احساس الأمويين بأنهم على وشك الانهيار أمام حركة الامام الحسين، وتفاعل أهل الكوفة معه بعد موت معاوية، لذا وجدوا انفسهم على حين غرّة وحيدين وغرباء في الكوفة بين جموع المبايعين والمناصرين للإمام الحسين على أن يكون هو القائد والخليفة الشرعي.
وحسب الخبراء والعلماء المعاصرين فان الحرب النفسية تساعد على تحقيق النصر في الحرب الساخنة مع العدو، وجاء في مقال لأحد الخبراء في هذا المجال إن "من اهداف الحرب النفسية: تحطيم الروح المعنوية للخصم، وإرباك نظريته السياسية، وقبر كافة معتقداته ومثله التي يعتنقها، والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نرغبها حتى نوصله الى أن يعتقد بما نحن نعتقد به"، (علم الاتصال بالجماهير، الدكتور فلاح المحنّة).
وقد تنبه الأمويون الى أهمية هذا النمط من الحرب مبكراً، وهم على أتم الاستعداد لاستخدام كافة اساليب وآليات هذه الحرب دونما ورع او وجل، مثل؛ الإشاعة، وإشاعة الرعب، وغسيل الدماغ، وتضخيم القوة، وتؤكد المصادر أن عبيد الله بن زياد الذي حثّ الخطى للوصول الى الكوفة قبل الإمام الحسين، كان قد دخلها لوحده بعد أن تخلف عنهم مرافقوه بعد أن أعياهم المسير السريع لابن زياد، ويقال أنه كان يستبدل الفرس بآخر حتى يصل خلال فترة قياسية، وحتى لا تكون هذه الوحدة مصدر استخفاف له من جانب الكوفيين، فقد تلثم حتى يوهم الناس بأنه الحسين، وهو ما انطلى على الكوفيين حتى وصل الى دار الإمارة كشف عن حقيقته ومكره امام الناس، وحتى مع وصوله الى مركز الحكم، لم يكن معه سوى ثلاثون نفراً من الشرطة، وعشرون رجلاً من أعيان المجتمع، وبعد وصول خبر اعتقال هاني ومقتله داخل القصر، قرر مسلم بن عقيل الانطلاق في حركته العسكرية وتنظيم الرجال المبايعين له وإطلاق شعاره المعروف آنذاك: "يا منصور أمت"، "فاجتمع اليه أربعة آلاف مقاتل توجهوا الى القصر، فراع ذلك ابن زياد فاغلق أبواب القصر خوفاً وهلعاً، فكان أسهل شيء على أولئك الدارعين الاجهاز على ابن مرجانة ومن معه لأول وهلة في طليعة الزحف، ولكن لا عجب من أذناب الكوفيين اذا مالوا مع عصبة الشيطان بمجرد ان سمعوا ابن الاشعب وحجار بن أبجر وشمر يمنوهم العطاء مع الطاعة، ويهددونهم بجند الشام الموهوم، فطفق الأخ يخذل أخاه، والمرأة تتعلق بزوجها، والآباء يفصلون أبناءهم عن الجهاد". (الشهيد مسلم بن عقيل، عبد الرزاق المقرّم).
كل الأدلة التاريخية تؤكد على قدرة أهل الكوفة بالوقوف بوجه ابن زياد والتيار الأموي، ومعاضدة مسلم بن عقيل وسفارته من الامام الحسين، ومن ثم الاستعداد لاستقبال إمامهم وقائدهم كما أرادوه ودعوا اليه، دون أن يتكلفوا بالدماء والنتائج الكارثية التي حصلت فيما بعد، علماً أن المصادر التاريخية تحدثت عن حوالي عشرين الى اربعين ألف انسان صافح يد مسلم بالكوفة على البيعة والطاعة له ولأهل بيت رسول الله، بيد إن حالة الاستضعاف التي تقمصوها بشكل غريب وعدم التدرع بالايمان والبصيرة والقيم والشيم التي خلفها لهم أمير المؤمنين، هي التي جعلتهم ينزلقون الى المنحدر التاريخي السحيق، ففي "تلك البرهة التاريخية كانت السلطة الأموية متزلزلة،ولم يكن في الشام داهية لمعاوية يستطيع ان يجمع من حولها الانصار –كما فعل عمرو بن العاص- وكانت البصرة على وشك الانفجار، وكذلك الحجاز وسائر الامصار، لكن الدعاية الأموية صورت لأولئك السذج أن جيش الشام على الابواب، ولان اهل الكوفة ذاقوا الهزيمة أمام هذا الجيش فقد صدقوا تلك الدعاية". (مسلم بن عقيل سفير الحيسن، آية الله السيد محمد تقي المدرسي).
وبالمحصلة؛ ضيع أهل الكوفة أعظم فرصة تاريخية لتغيير مسار الاحداث لصالح أهل البيت، ولمصلحتهم هم ايضاً، بل ومصلحة الامة في قادم الايام، فقد حولوا نقطة القوة لديهم، بوجود شخص مثل مسلم بن عقيل، سفيراً من قبل الامام الحسين، عليه السلام، ومع وجود والي ضعيف في الكوفة مثل النعمان بن البشير، واجتماع الآراء والمشاعر والمواقف والقلوب على نصرة أهل البيت، قدموا كل هذه العوامل هدية الى طبق من ذهب الى ابن زياد الغريب على الكوفة والقادم من البصرة خائفاً يترقب ليحوّل خوفه وهواجسه الى عوامل نصر وغلبة، وسفك للدماء وانتهاك للحرمات، كانوا هم أول المتضررين.
اضف تعليق