إِنَّهم الذين يبدأُونَ من دونِ قناعةٍ وقبل التبصُّر، وعندما يجدُون أَنفسهُم أَمامَ استحقاقاتٍ كبيرةٍ والثَّمنُ غالياً يتراجعُون، إِذ لا تطاوعهُم أَنفسهُم أَن يدفعُوا ثمناً لشيءٍ لم يقتنعُوا بهِ منذُ البدايةِ. وهذه الظَّاهرة هي التي ابتُلي بها الرُّسل والأَنبياء والمُصلحين على مرِّ التَّاريخ، كما في قولِ...

أَوَّلُ اليقينُ البصيرة، وأَوَّلُ البصيرة التثبُّت، وأَوَّلُ التثبُّت البحث والتأَمُّل.

يصفُ ذَلِكَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بقولهِ (وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هذَا الاَمْرِ وَعَيْنَهُ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِي إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ).

فعلى الرَّغمِ من أَنَّهُ (ع) إِمامٌ معصومٌ وعلمهُ لدنِّيٌّ من الله تعالى إِلَّا أَنَّهُ لم يشأ أَن يستعجلَ في إِصدار الأَحكامِ على الخصمِ إِلَّا بعدَ أَن يتثبَّتَ بالبحثِ والإِستقصاءِ والتَّفكير السَّليم المُجرَّدِ من الأَهواءِ والميولِ الشَّخصيَّةِ ليكونَ على بصيرةٍ من أَمرهِ حتَّى لا يندمَ على موقفٍ أَو قرارٍ أَو يخشى من ظُلمٍ.

لقد وصفَ القرآن الكريم رُسُلهُ وأَنبياءهُ ومَن معهم بأَنَّهم أَهلُ بصيرةٍ فقالَ (قُلْ هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚعَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فبالبصيرةِ فقط يتيقَّنُ المرءُ من خطواتهِ وقراراتهِ، وعكسَ ذَلِكَ، فإِنَّ إِنعدامَ البصيرةِ يودي بصاحبهِ إِلى الكُفر وأَقلَّهُ الظُّلم!.

إِنَّ الَّذينَ يتراجعونَ في وسط الطَّريق أَو يندمونَ على ما يفعلونَ أَو يعتذرونَ كثيراً إِنَّما لأَنَّهم على غيرِ بصيرةٍ، يحشرون أَنفسهُم بما لا يفهمونَ فِيهِ ويُصدرونَ أَحكامهُم من دونِ أَن يطَّلعوا على الملفِّ ويتَّخذونَ موقفاً من دونِ أَن يسأَلهم أَحدٌ ذَلِكَ! أَو حتَّى ينتظرهُ منهم!.

يُثرثرونَ في موضوعٍ ليس لهم فِيهِ ناقةٌ ولا جملٌ! ويتناقلونَ أَخباراً لم يتثبَّتوا منها! ويُناقشون أَمراً لا علمَ لهم في خلفيَّاتهِ! وأُولئك هم الظَّالمون لأَنفسهِم قَبْلَ أَن يظلمُوا الآخرين.

لقد أوصى أَميرُ المُؤمنينَ (ع) ولدهُ الحسن السِّبط المُجتبى (ع) بقوله (وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ) لماذا؟! يجيبُ القرآن الكريم بقولهِ (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً).

ويُضيفُ (ع) (وَلْيَخْتَزِنَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، وَاللهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ لِسَانَهُ، وَإنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ: لاِنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَكَلاَم تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ، وَإنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ، وَإنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَاذَا لَهُ، وَمَاذَا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ(ص): «لاَ يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْد حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»; فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ سُبْحانَهُ وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَلْيَفْعَلْ).

إِنَّ حديثَ المرءُ يعبِّر بصدقٍ عن شخصيَّتهِ وعن حالتهِ على صعيدِ الشكِّ واليَقين، والبصيرةُ من عدمِها، والعلمُ والجهلُ، ولذلكَ يؤكِّدُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) على وجوبِ ربطِ اللِّسان دائماً بحزامِ الأَمان وبكلِّ قوَّةٍ وشدَّةٍ (الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً [وَجَلَبَتْ نِقْمَةً).

وأَتفهُ النَّاسَ وأَحقرهُم هو الذي يسبقُ كلامهُ وأَخبارهُ بقولهِ [يقولونَ]!.

إِنَّنا الْيَوْم أَحوَجُ ما نكونُ للتَّدريبِ على الصَّمت، سواء باللِّسانِ أَو بالنَّشرِ، لنضبطَ إِيقاعاتِ واتِّجاهاتِ أَلسِنَتنا.

يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (وَمَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ).

ويصفُ (ع) أَخاً لَهُ بقولهِ (وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ).

إِنَّ الاستعجالَ قبل التثبُّت والحُكم قَبْلَ البصيرة والإِنخراط قَبْلَ اليقين يقودُ المرءُ إِلى الخطأ مرَّة وقد تَكُونُ آخر مرَّةٍ ولذلكَ حذَّر أَميرُ المُؤمنينَ (ع) من كلِّ ذَلِكَ بقولهِ (ثُمَّ إيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الاَخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً) لأَنَّ المرءَ إِذا استعجلَ مرَّةً تكسَّرت أَخلاقهُ كلَّ مرَّةٍ.

تأسيساً على كلِّ ذَلِكَ يبدو لي أَنَّنا حصلنا على جوابِ السُّؤالِ الذي يتكَّرر كأَفعالٍ ويتردَّد على الأَلسُنِ، وهو؛ لماذا يتراجعُ البعض في وسطِ الطَّريقِ؟.

إِنَّهم الذين يبدأُونَ من دونِ قناعةٍ وقبل التبصُّر، وعندما يجدُون أَنفسهُم أَمامَ استحقاقاتٍ كبيرةٍ والثَّمنُ غالياً يتراجعُون، إِذ لا تطاوعهُم أَنفسهُم أَن يدفعُوا ثمناً لشيءٍ لم يقتنعُوا بهِ منذُ البدايةِ.

وهذه الظَّاهرة هي التي ابتُلي بها الرُّسل والأَنبياء والمُصلحين على مرِّ التَّاريخ، كما في قولِ الله تعالى على لسانِ بني إِسرائيل (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).

أَمَّا الذين يتثبَّتون قبل كلِّ شَيْءٍ ويُحسنُونَ بصيرتهُم فهمُ الذين يستقيمُونَ ولا يرتدُّون حتى يصِلُوا إِلى خطِّ النِّهاية مهما كانت التَّضحيات.

nazarhaidar1@hotmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق