مجلة النبأ - العدد 41 - شوال 1420 - كانون الثاني 2000

اكتب لنا

اعداد سابقة

الكتّاب

الموضوعات

العدد41

الصفحة الرئيسية

 التعددية من النظور القرآني  (*)


السيد مرتضى الشيرازي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قال الله العظيم في كتابه الكريم (ولكلٍ وجهةٌ هو مُوَلِّيها فاستبقوا الخيرات)(1).

(الكلمة) ذلك الرابط الخالد بين عالم الأفكار وعالم الحقائق الخارجية، وبين عالم الوجود الذهني وعالم الوجود العيني، قد تختزن في داخلها إشراقة شمس في مجاهيل الظلام، وقد تكون ذلك (المفتاح) السحري لطلاسم المجهول، و(البلسم) الشافي لأشد الأمراض فتكاً وأعظمها خطراً. وقد تكون (الرمز) الذي يعتصر بحراً من المعاني في عدد من الحروف..

وآيات القرآن الكريم تعد التجلي الأعظم لتلك الإشراقة والمصداق الأتم لذلك المفتاح والتجسيد الأسمى لذلك الدواء الناجح (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(2).

وعندما نتحدث عن الجانب الاجتماعي وعن مشاكل ومآسي وآلام وآمال المجتمعات البشرية على مر التاريخ نجد القرآن الكريم يتجلى أروع تجلي في زخ أعظم الأفكار الإصلاحية في أيجاز أخاذ وتبسيط مذهل وإذا لاحظنا ظاهرة (الموت البطئ للحضارات) و(الشيخوخة المبكرة للأمم) والركود والجمود والسكون والتدرن والتخلف الذي يلف حضارات ويحكم شعوباً وقبائل وأفراداً وإذا لاحظنا في قبال ذلك (ازدهار حضارات وأمم أخرى) في سلسلة من التموجات المتصاعدة في مسيرة التكامل المادي أو المعنوي وإذا بحثنا عن الأسرار الكامنة وراء ذلك نجد (القرآن الكريم) يفصح عن مجموعة من العوامل الرئيسية، تعتبر الأسس والجذور لتلكم الظواهر:

1ـ الحرية: وقد عبر عنها جل وعلا أروع تعبير في أوجز عبارة حيث قال (لا إكراه في الدين)(3) ويشهد جل وعلا لرسوله الكريم بأبرز فضائله الأخلاقية وسماته الاجتماعية فكان منها (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(4).

2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: باعتبارهما من أهم عوامل الإصلاح والنقد البناء وانطلاقاً من  الإحساس بالمسؤولية الجماعية وحب (المجتمع)، ولتكون الحرية أيضاً (حرية مسؤولة).

3ـ الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة: فكان الوسام الإلهي لهذه الأمة هو (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)(5) و (إنما المؤمنون اخوة)(6) فالأخوة والوحدة التي تلغي الحدود الجغرافية والحواجز النفسية والسدود الفكرية بين أبناء الأمة الواحدة، هما من أهم عوامل التقدم والازدهار.

4ـ العدل والإحسان: وقد صرح تعالى بالأمر بهما حيث قال (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)(7) ومن هنا مال بعض الفقهاء إلى اعتبار الإحسان واجباً ـ ولو في الجملة ـ لصريح الأمر في الآية ولوحدة السياق.

5ـ الشورى، حيث عدها تعالى مما تميزت به المجتمعات الإيمانية حيث قال (وأمرهم شورى بينهم)(8).

6ـ الالتزام بمنهج السماء: متجلياً بأقوال وأفعال وسيرة الرسل والأوصياء، ذلك أن المهندس التكويني للكون هو الأقدر على وضع الهندسة التشريعية للحياة (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)(9).

ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(10).

7ـ التعددية: وقد صرح بها القرآن الكريم في مواطن وألمح اليها في مواطن أخرى. قال تعالى (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات)(11) وقال (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)(12).

ونحن في هذه الدراسة المقتضبة(13) سنسلط الأضواء على إحدى تلكم العوامل، وهو العامل السابع، كعنصر أساسي من عناصر حيوية الأمم وتقدمها وازدهارها وكمحور حقيقي وعامل فاعل في مسيرة التكامل البشري وكمرقاة تكوينية ـ تشريعية في (قوس الصعود) في شتى مجالات الحياة:

وسنعالج قضية التعددية في ضمن الحقائق التالية ـ بتبسيط وإيجاز ـ:

الحقيقة الأولى: التعددية تقسم إلى تقسيمات متعددة:

أ -  فمنها تعدد المؤسسات الاجتماعية التي تشكل الوحدات الاجتماعية الصغرى (كتعدد الهيئات والمدارس والمساجد والحسينيات والمكتبات و...) إلى تعدد النقابات والاتحادات وغيرها وصولاً إلى (التعددية الحزبية) في معادلة التنافس على السلطة.

ب - التعددية قد تكون اختيارية وقد تكون لا اختيارية، والاختيارية اعم من اللا اختياري الذي كانت مقدمة اختيارية إذ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ج - التعددية قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية.

د - وقد تكون للتعددية ضوابط وحدود وقد تكون دون ضوابط، وهذه الضوابط قد تكون من إفراز عقل بشري وقد تكون نتيجة (وضع تعيني) وهو ما يسمى بالعرف الدستوري، وقد تكون مستقاة من وحي الهي.

الحقيقة الثانية: إن (التنافس) و (الاستباق) هو جوهر التعددية إذ لا يعقل أن يتنافس الشيء مع ذاته أو أن يتسابق الإنسان مع نفسه (دون تعددية حقيقية أو اعتبارية)، والأمر بالمعلول هو أمر بالعلة ـ بدلالة الاقتضاء(14).

الحقيقة الثالثة: إن فلسفة التعددية هي (الابتلاء) و (الامتحان) و (التكامل) قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)(15).

فـ(ليبلوكم) هو الهدف القريب للتعددية و (التكامل) معلول للاستباق المذكور بفاء التفريع (فاستبقوا) والهدف الأقصى هو (الله).

الحقيقة الرابعة: إن التعددية هي سنة الله الكونية بدءاً من الذرة بالكترونها السالب وبروتونها الموجب مروراً بمعادلة الرجل والمرأة ووصولاً إلى ثنائي الشر والخير حيث خلق الله الشيطان في قبال الملائكة وفي قبال حركة الأنبياء والمصلحين على مر التاريخ، كما خلق النفس ذات البعدين مما أشار إليه جل وعلا (ونفس وما سوّاها فالهمها فجورها وتقواها)(16).

الحقيقة الخامسة: إن (القيم) تارة تكون قِيَماً ذاتية وتارة تكون قيماً طريقية (القيمة الذاتية: كحسن العدل والإحسان، والقيمة الطريقية: كالتفكير إذا صب في اتجاه روحاني أو أنساني، عكس ما إذا صب في اتجاه شيطاني أو عدواني فإنه يتحول عندئذ إلى (جريمة).

والتعددية هي من القيم الطريقية وربما مال البعض إلى كونها قيمة ذاتية ـ طريقية.

الحقيقة السادسة: إن كل قيمة من القيم الذاتية والطريقية لا تسبح في عالم منعزل عن سائر القيم بل أنها تعايش كمية كبيرة من القيم ويجب ـ على ضوء ذلك أن تلاحظ منسوبة إلى تلك القيم ـ على حسب مقاييس باب التزاحم وعلى حسب ضوابط باب التعارض.

الحقيقة السابعة: أن هنالك سلسلة من المقدمات والضوابط والمقدمات التي تعد ـ بوجودها السابق(17) الضمانة الأكيدة لسلب المقدرة(18) على ضرب التعددية، مثلاً الوعي الجماهيري والمؤسسات الدستورية، فإذا كانت التعددية واجبة سرى وجوبها ـ عقلاً ـ لتوفير المقدمات التي تسلب القدرة على نسفها.

بعد هذه الحقائق لا بد من عرض مجمل الصورة عل آي من الذكر الحكيم لنكتشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

فخالق الكون جل وعلا هو الذي أرسى دعائم التعددية الكونية والاجتماعية (ومن كل شيء خلقنا زوجين)(19) و (جعل فيها زوجين اثنين)(20) و (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل)(21) و (لكل وجهة هو موليها)(22) والوجهة: الجهة (وهو موليها) أي الله تعالى هو الذي قد ولاه تلك الجهة.

يقول آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري في تفسيره القيّم (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) عند تطرقه لنفس هذه الآية الكريمة (ويمكن أن يراد بقوله تعالى (ولكل وجهة) المعنى الشامل للجهات التكوينية والاختيارية ـ عادية أو شرعية ـ فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور وخصوصيات قد لا تكون فيما سواه ولا يحيط بها إلاّ علاّم الغيوب فتشمل اختلاف العادات والملكات والصفات والاختلاف في القبلة والشريعة) كما يقول بمثل ذلك في تفسير الميزان. وغير خفي أن وجود تفسيرات أخرى لهذه الآية لا يضر بما نحن بصدده إذ يكفينا الاستدلال بالمقطع الثاني من الآية الشريفة (فاستبقوا الخيرات)(23) كما سنرى. بضميمة أن المورد لا يخصص الوارد وإن ظهور العام في العموم أقوى من الظهور السياقي  كما هو المذهب المشهور بناء على القول بالظهور السياقي(24). كما يمكن التمسك بآيات أخرى عديدة دالة على المقصود كآية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)(25).

 وانطلاقاً من ذلك فإن إقرار نظام التعددية في الدولة وفسح المجال لبروز تجمعات ونقابات واتحادات وأحزاب ومؤسسات ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ و... يأتي متناسقاً ومتناغماً مع سنة الله في الحياة ويعبر عن صيغة اجتماعية سياسية تكفل التطور والتكامل والتقدم والازدهار.

إن التعددية تنبثق في بعدها الشرعي من الأدلة التالية:

أ- القرآن الكريم: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)(26) (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)(27)، (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)(28) و...

و كل آية من هذه الآيات الكريمة تحتاج إلى دراسة مفصلة في مفرداتها و في جوها العام و قد اقتصرنا في هذا المبحث على دراسة موجزة لآية (و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات) فحسب .    

 ب - الروايات الشريفة: (من استبد برأيه هلك)(29) و (من شاور الرجال شاركها في عقولها)(30) ومن الواضح أن التعددية هي أهم ضمانة لعدم الاستبداد في الرأي و (دعوا الناس يرزق بعضهم بعضاً) والتي تؤسس قاعدة التعددية الاقتصادية واللامركزية وإعطاء الناس الحرية للحركة الاقتصادية دون قيود أو وساطة من الدولة أو حدود وضوابط تفرضـــها الدولة وبدون روتين وبيروقراطية تعقد مسيرة النشاط الاقتصادي، إلى جوار العشرات من الروايات الأخرى التي تقتضي ـ بإطلاقها أو عمومها أو دلالتها الالتزامية أو بدلالة الاقتضاء ـ إقرار نظام التعددية في القضاء، شؤون الحسبة، التربية والتعليم والتبليغ والإنذار والإرشاد والرقابة و... .

 ج - القواعد الشرعية: كقاعدة الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم، والتي تنسف فكرة التفرد وتؤسس الحق لكل شخص في تكوين تجمع أو حزب أو نقابة أو غير ذلك.

وكقاعدة (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(31) والتي تستبطن منهج التعددية وتستتبعها بقدر ما هي ـ من جهة أخرى ـ معلولة لها.

د - العقل: حيث يقرر:

1- إن التعددية تتناغم مع سنة الكون والحياة.

2- إن التعددية تتجانس مع تركيبة الإنسان الفكرية والنفسية، وإلى ذلك يشير الحديث الشريف أيضاً (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا)(32).

3- إن التعددية تشكل استجابة عفوية لنداء الفطرة والوجدان.

4- إن التعددية تعد من أفضل الضمانات لرفع الظلم ولتحقيق العدالة ـ والعدلة مما يستقل العقل بحسنها كما يستقل بقبح الظلم ـ.

5- إن التعددية من أقوى العوامل  لتفجير الطاقات وشحذ الهمم وبعث الروح وصقل المواهب وتألق الإبداع وتزايد العطاء.

والآن لنسلط الضوء قليلاً على إحدى تلك الأدلة وهي الآية القرآنية الكريمة (فاستبقوا الخيرات)(33) فـ:

 1) إن (استبقوا) أمر والأمر دال على الوجوب، فالآية دالة على وجوب الاستباق إلى الخيرات والتنافس الإيجابي ولا يرفع اليد عن الظاهر الا بدليل ولو قيل أن الواجب أما موسع فلا يجب الاستباق إليه، أو مضيق فلا معنى للاستباق إليه، اجبنا إذا علم بالدليل كون الواجب موسعا أو مضيقا فهو والا كانت هذه الآية منقحة للموضوع(34).

ومن الضروري الإلفات إلى أن (الاستباق) غير (المسارعة) فالاستباق حالة لا تحقق الا بين شخصين أو جهتين على الأقل، أما المسارعة فهي المبادرة والاستعجال في إنجاز مهمة ولا يشترط في مفهومها التعدد.

وبذلك يتضح وجه الخلل في كلام الفخر الرازي إذ يقول (أما قوله (فاستبقوا الخيرات) فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها) إذا أراد حسر مفهوم الاستباق في ذلك، ذلك أن الاستباق وإن تضمن معنى البدار والمسارعة إلا أنه ليس مفهومه منحصراً في هذا المعنى كما أوضحناه (أي لتضمنها معنى المغالبة المتقومة بالطرفين).

 2) إن (الخيرات) جمع محلى بال وهو يفيد العموم فالخيرات تشمل كل أنواع الخير بدءاً من تأسيس أول لبنة في الحياة الاجتماعية عبر الزواج وتربية الذرية الصالحة والأجيال الصاعدة ومروراً بـ(الشهادة) على المجتمع (لتكونوا شهداء على الناس)(35).

ووصولاً إلى إقامة الحكومة الإسلامية العادلة (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(36)، (إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)(37) بضميمة أدلة الأسوة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(38)، (...الظالمون)(39)، (...الفاسقون)(40).

 3) و (فاستبقوا الخيرات) لها إطلاق أزماني وإطلاق أحوالي أيضاً، فمن اللازم في المنظور القرآني الاستباق للخيرات، على الكل، في كل الأزمان، وفي كل الأحوال: للصحيح والمريض، للرجل والمرأة، للكبير والصغير، في داخل العائلة ـ وهي أصغر وحدة اجتماعية ـ وفي وسط المؤسسات الوسطى ـ كالمدرسة والحسينية والهيئة ـ وفي خضم التجمعات الكبرى ـ كالنقابات والاتحادات والأحزاب.

 4) و (الخيرات) تتسع لتشمل الخير المادي والخير المعنوي، الدنيوي والأخروي، فهي إذن دعوة قرآنية واضحة للاستباق في أعمار الدنيا والآخرة وفاقاً لقوله تعالى (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)(41) و (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)(42).

وإذا أردنا أن نفسر القرآن بالقرآن رأينا أن القرآن الكريم عبر عن مجموعة كبيرة من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعائلية والدنيوية والأخروية بـ(الخير) ـ وهو مفرد الخيرات ـ، وهذه نماذج من الآيات الشريفة(43):

ففي البعد العبادي: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)(44) و (وان تصوموا خير لكم)(45) و (الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً)(46) و... .

وفي البعد الاقتصادي: (وما تنفقوا من خير فلانفسكم)(47)، (وان تصدقوا خير لكم)(48)، (وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً)(49)، (إن خير من استأجرت القوي الأمين)(50) و... .

وفي البعد الاجتماعي: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)(51).

وفي الأبعاد التربوية: (ويسألونك عن اليتامى قل إسلام لهم خير)(52)، (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير)(53)، (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له)(54)، (وان يستعففن خير لهن)(55)، (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)(56).

وفي البعد السياسي: (والصلح خير)(57)، (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)(58)، (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وان تنتهوا فهو خير لكم)(59)، (قال ما مكني فيه وبي خير)(60).

وفي الابعاد العقائدية والغيبية: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)(61)، (بقية الله خير لكم أن كنتم مؤمنين)(62)، (ولدار الآخرة خير)(63)، (والآخرة خير وأبقى)(64).

من كل ذلك نكتشف أن الاستباق والتنافس إلى كل أنواع الخيرات في شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، هو أمر محبذ مطلوب بدلالة آيات الذكر الحكيم.

5) يبقى هنا أنه ربما أمكن القول بأن الاستباق للخيرات قد يكون واجباً إذا كان (المستبق إليه) ـ أي الخير ـ واجباً وقد يكون مستحباً إذا كان ما يستبق إليه مستحباً.

فالاستباق إلى إقامة العدل ـ وليس إقامة العدل فقط ـ واجب استناداً إلى هذه الآية الشريفة...

والاستباق إلى التصدي للحكومات الجائرة واجب...

والاستباق إلى مواجهة المد الاستعماري الفكري والثقافي والأخلاقي وسائر مخاطر (العولمة) واجب، وهكذا.

وهذه القضية ـ وجوب الاستباق، كعنوان مستقل ـ وعدمه لم يُتطرق لها ـ فيما نعلم ـ في كتب الفقهاء لذلك يقترح بحثها على ضوء سائر الأدلة. والآيات والروايات والقواعد لنصل إلى الرأي السليم(65).

ونضيف: ربما أمكن أن يلتزم بوجوب الاستباق حتى نحو (الخيرات المستحبة) ولو في الجملة.

وعلى ذلك فإن الاستباق والمسابقة والتنافس نحو تأسيس المساجد والحسينيات ودور النشر والمكتبات والمنظمات والنقابات والأحزاب و... واجب، وإذا كانت كل مفردة من هذه المفردات في حد ذاتها مستحبة وذلك استناداً إلى عموم الآية الكريمة(66) وإلى أن هذه المفردات وأن كان كل واحد منها لو لوحظ بنفسه كان مستحبا الا أن المجموع من حيث المجموع ـ أي في الجملة ـ واجب باعتباره قوام الدين وضمان الحفاظ على الواجــــــبات النفسية الكـــــبرى التي كانت الهدف من الرسالة (ويخرجهم من الظلمات إلى النور)(67)، (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(68)، (ويكون الدين لله)(69) وباعتبار ان الاستباق هو الضامن لذلك ـ في الجملة ـ فتأمل.

6) والآن ـ وعلى ضوء دراسة الآية الشريفة ننتقل إلى نقطة أخرى هي في غاية الأهمية وهي أن هذه (التعددية) تستتبع (المسؤولية) إذ (احسب الإنسان أن يترك سدى)(70) ولذلك فـــــرع جل وعلا على (ولـــــــكل وجهة هو موليها)(71) بـ(فاستبقوا الخيرات)(72)، إذن التعددية في المنظور القرآني: تعددية هادفة، تعددية مسؤولة تعددية تصب في طريق التكامل والتنامي والرقي والازدهار (فاستبقوا الخيرات)، ونجد تعبيراً قرآنياً آخر عن التعددية والهدفية الكامنة وراءها في قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(73) فالتعددية يجب أن تسير باتجاه (التعارف والتكامل) لا (التناكر والتحارب والتدابر)، وللتعارف ـ بدوره ـ هدف أسمى هو التقوى التي تجسد قمة الكمال البشري (إن أكرمكم عند الله اتقاكم).

فالاستباق ـ إذن ـ لا يملك قيمة مطلقة بما هو استباق بل أنه يكتسب قيمته من كونه استباقاً نحو (الخيرات).

وكلما كانت درجة الخير والبر والعطاء أسمى وأرفع كلما تضاعفت قيمة (الاستباق) واكتسبت (التعددية) قيمة أعلى وأغلى وأرفع، ذلك أن (الخير) حقيقية تشكيكية ذات مراتب..

ومن ذلك نكتشف أن (التعددية الإيجابية) هي التعددية التي يهتف بها العقل ويحكم بها الوجدان وتنطق بها آيات القرآن.

وإن (التعددية السلبية) هي تلك التعددية التي تصب عكس اتجاه صالح المجتمع ولا تسهم في تطويره وتكامله (سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافيا و...) بل تصب في سبيل تحطيم المجتمع وتدميره وافساده (كتنافس كبار الإقطاعيين في امتصاص المزيد من دماء المزارعين وكتسابق الشركات الدولية العملاقة في تسويق منتوجاتها ولو على حساب الاقتصاد الوطني ومصالح الأمم وكتنافس المحطات الفضائية وأجهزة الإعلام العالمية في عولمة الفساد و...).

وبذلك نعرف أن التعددية المعزولة عن سائر القيم قد تتحول إلى قيمة معاكسة مثل التعددية غير المؤطرة بإطار القيم الربانية والتي قد تدمر حياة الأمم ومستقبلها وازدهارها جهلاً منها أو مكابرة للحقائق التكوينية التي أحاطت بها وكشفت عنها رسالات السماء (سواءاً في معادلة الطاعات أو في دائرة المحرمات).

ويكفينا كمثال ملاحظة (فلسفة حرمة الخمر) وانفلات (القوانين الوضعية التي وضعتها برلمانات منتخبة في دول تحكمها تعددية سياسية وحزبية)، من استكناه الرؤية الغيبية والحكم الإلهي وكان من نتائج ذلك كنموذج بسيط جداً الإحصاءات التالية (ربع مليون أسباني يسكرون كل يوم ولقد كانت كلفة المشاكل الناجمة عن الكحول عام 98 ثلاثة مليارات وخمسمائة مليون دولار! وفي السويد نجد أن شرب الكحول ـ حسب دراسة أعدها معهد صحة الشعب ـ يكلف الدولة سنوياً 12 مليار دولار وإن أغلب حوادث المرور وأعمال والعنف والمشاجرات سببها الكحول وان سبع شكايات من كل عشر شكايات لدى الشرطة يكون الإفراط في شرب الكحول محفزها الأول و...) وهذا مع قطع النظر عما تسببه الكحول من أمراض خطيرة ـ كالتليف الكبدي و... ـ، وبذلك نعرف أن (التعددية) لا تكفي بمفردها للإيصال إلى بر الأمان وإنها ليست الحل السحري لكل المشاكل بل إنها قيمة تدور ضمن منظومة من القيم مجتمعة.  

يبقى: أن (تحايل) البعض على فكرة ومنهجية (التعددية) أو استخدامها استخداماً سلبياً غير سليم واعتبارها قيمة قائمة بالذات منحازة عن التكاملية مع سائر القيم واتخاذها بديلاً عن سائر القيم، لا يعني تخطئة منهجية التعددية، ولا يصحح ذلك محاولة نسفها والإجهاز عليها وإحلال منهجية التفرد ـ من أصغر لبنة اجتماعية إلى كبريات المؤسسات الحكومية ـ محلها.

بل أن ذلك يعد تماماً مثل استخدام بعض الطغاة أو التجمعات قيماً كالعدالة والشورى والحرية والدين والأخلاق و... استخداماً مغرضاً سلبياً فإن ذلك لا يسقط تلك القيم عن قدسيتها بل إن ذلك يجب أن لا يزيدنا إلا عزماً ومضاء وإصرارا على الوصول إلى تجسيد حقيقي لتلك القيم القرآنية السامية وبالشكل السليم، على أرض الواقع (أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)(74).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش

(*) دراسة مقدمة (لمؤتمر القرآن الكريم وتحديات العصر) الذي أقيم في مكتبة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)/الكويت.

1 ـ سورة البقرة: 148.

2 ـ سورة الإسراء: 82.

3 ـ سورة البقرة: 256.

4 ـ الأعراف: 157.

5 ـ الأنبياء: 25.

6 ـ الحجرات: 10.

7 ـ سورة النحل: 90.

8 ـ الشورى: 38.

9 ـ طه: 124.

10 ـ حديث متواتر عند الفريقين.

11 ـ البقرة: 148.

12 ـ المطففين: 26.

13 ـ لم نتعمق في هذه الدراسة الموجزة في الأبحاث الأصولية والفقهية والفلسفية بل مررنا عليها مروراً سريعاً نظرا لأنها موجهة للطبقة المثقفة وليست للاخصائيين في تلك العلوم.

14 ـ وهي ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه.

15 ـ المائدة: 48.

16 ـ الشمس: 7ـ8.

17 ـ والمقارن أيضاً.

18 ـ سلب القدرة في أمثال هذا الموطن عرفي وليس دِقّيّاً.

19 ـ الذاريات: 49.

20 ـ المؤمنون: 27.

21 ـ الحجرات: 13.

22 ـ البقرة: 148.

23 ـ البقرة: 148، المائدة: 48.

24 ـ راجع العلامة الآشتياني(ره) في شرحه المعمق والمسهب على الرسائل.

25 ـ المائدة: 47.

26 ـ المطففين: 26.

27 ـ الحجرات: 13.

28 ـ المائدة: 48.

29 ـ بحار الأنوار، ج75، ص104.

30 ـ المصدر السابق.

31 ـ مجموعة ورام، ج1، ص6.

32 ـ نهج البلاغة، ج18، ص413.

33 ـ البقرة: 148، المائدة: 48.

34 ـ أي أن الآية تبين أن الخيرات واجب مضيق والتعددية منها، دون قيام دليل على كونها موسعاً.

35 ـ البقرة: 143.

36 ـ النساء: 58.

37 ـ النساء: 105.

38 ـ المائدة: 44.

39 ـ المائدة: 45.

40 ـ المائدة: 47.

41 ـ البقرة: 201.

42 ـ الأعراف: 32.

43 ـ مع ملاحظة أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فإدراج آية كريمة في بعد من الأبعاد لا يقصد منه انحصارها بذلك البعد.

44 ـ البقرة: 197.

45 ـ البقرة: 184.

46 ـ مريم: 76.

47 ـ مريم: 272.

48 ـ مريم: 280.

49 ـ الإسراء: 35.

50 ـ القصص: 26.

51 ـ البقرة: 263.

52 ـ البقرة: 220.

53 ـ آل عمران: 104.

54 ـ الحج: 30.

55 ـ النور: 60.

56 ـ البقرة: 269.

57 ـ النساء: 128.

58 ـ الأنعام: 57.

59 ـ الأنفال: 19.

60 ـ الكهف: 95.

61 ـ يوسف: 39.

62 ـ هود: 86.

63 ـ يوسف: 109، النحل: 30.

64 ـ الأعلى: 17.

65 ـ إذ قد يقال لا وجوب آخر وراء (الواجبات النفسية) يسمى بالاستباق، والأمر في الآية طريقي، أو يقال أن الأمر محمول على الاستحباب حتى في الاستباق إلى الواجبات نظراً للزوم تخصيص الأكثر لو حمل الأمر على الوجوب وقيل بشمول (الخيرات) للواجبات والمستحبات وذلك لدوران الأمر بين رفع اليد عن ظهور (استبقوا) في الوجوب وظهور (الخيرات) في العموم والظهور الثاني أقوى. وحتى لو قيل بإرادة الواجبات من الخيرات فإن الاستناد في وجوب الاستباق إلى ظاهر هذه الآية مما لا يساعد عليه المشهور الذاهب إلى عدم وجوب الاستباق فتأمل.

وقد يقال (الاستباق) عنوان مستقل كعنوان (التعاون على البر والتقوى) وله جهة نفسية كما له جهة طريقية والأمر بحاجة إلى تنقيح أكثر.

66 ـ ولكن كيف يمكن أن يكون (المستبق إليه) مندوباً و استباق إليه) واجباً؟ اللهم إلا على الالتزام بالنفسية في الاستباق فتأمل.

67 ـ المائدة: 16.

68 ـ الأعراف: 157.

69 ـ البقرة: 193.

70 ـ القيامة: 36.

71 ـ البقرة: 148.

72 ـ البقرة: 148، المائدة: 48.

73 ـ الحجرات: 13.

74 ـ محمد: 7.

الحرية

ولاية الفقيه

التعددية

السيادة

الاقناع

النشوء الحضاري

الكتابة

الثقافة

الامام الصادق

العقوبة

الهولوكوست

التجديد

الاعلام

الفكر الاقتصادي

اعلام الشيعة

السجود

عودة الى محتويات العدد41

عودة الى الصفحة الرئيسية