مجلة النبأ - العدد 41 - شوال 1420 - كانون الثاني 2000

اكتب لنا

اعداد سابقة

الكتّاب

الموضوعات

العدد41

الصفحة الرئيسية

25 شوال ذكرى شهادته (عليه السلام)

مدرسة الإمام الصادق بداية افاق...وبلورة نظم

الهوامش

جسور الحقيقة

وأد الأمة كان وما زال


أحمد البدوي


ثلاثة وعشرون عاماً، امتد بها الزمان كانت الارض بها تنتشي بأريج الوحي، الاريج الذي يحمل في نفحاته ألوهية حرصت لحكمتها توجيه الفعل البشري على أسس فطرته التي فُطِر عليها من قبل السماء، كي تتوائم وارتباطاته على الارض مدى العصور، هذا الافق الذي لاحته لحظات ثلاث وعشرين عاماً، كان لابد أن يمتد في قضية إلباس القيم زمنياً، طالما الزمن يمتلك تموجات في الواقع وصعوداً حاجياتي وتكاثراً أشيائي، لما عرف عن الإنسان في واقعه ومعه، صيرورة مستمرة، تنبع من حركة العقل بين أخاديد هذا الواقع، فكانت الامامة. بما هي خط أصيل للنبوة وامتداد لها في غايتها فوظيفتها، ذلك الإنسان، الكائن البشري، الذي يستقي ويصدر في تصرفاته وافعاله وأقواله من ينبوع النبوة، وإن صعد الوحي إلا أن أريجه لم يزل في ذلك الامتداد، امتداد الامامة.

عرف عادة المذهب الامامي الاثنا عشري، الشيعي، في اوساط المذهب والمذاهب الاربعة الأخرى بالمذهب الجعفري، لتأريخية معينة تعلل التسمية وإطلاقها، فكما هو معروف في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع أن التشكلات التاريخية وراءها احداث معينة، وطيات نفسية بيئية سياسية تفرضها مرحلة معينة في نمط ذيوع الفكرة. فبعد انبلاج جامعة الكوفة على يد الامام الصادق (عليه السلام) بما تناولته من آفاق الشريعة بكل ارتباطاتها بالحياة، صدر عنها رجالات، من خيرة المفكرين وصفوة الفلاسفة وجهابذة العلماء. بل أن ما رسخته بلا تعدٍ على الحقيقة بلورت للفكر الإنساني حلول مشاكله على مرِّ الاجيال، حتى صنف الحافظ ابو العباس بن عقدة كتاباً جمع فيه رجال الصادق ورواة حديثه وأنهاهم إلى أربعة آلاف. فتلامذة الامام جعفر الصادق كتبوا عنه (400 مصنف) سميت بالاصول الاربعمائة، ثم جمعت في اربعة كتب، وهي الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والاستبصار والتهذيب للشيخ الطوسي، وهذه الكتب من اهم المراجع لمعرفة احاديث الامام عند الامامية(1)، تثبت من ذلك كما هو في منطق اللغة، والاطلاق، تثبيت التسمية بالتغليب، وهذا التغليب يأخذ مناحٍ عدَّة لكثرة العدد لاجزاء معينة أو لضخامة موقف، أو لاكتناز حاله دون أخرى أو ظروف أخرى.

فخروج اربعة آلاف راو من تحت منبر الامام وانتشارهم، كل يشير في وسطه إلى أن فلاناً يذهب بمذهب الصادق تميزاً له عما يذهب اليه آخر.. وآخر هذا يذهب لابي حنيفة وهذا لمالك مثلاً. فالبداية تشكلت من عامل التميز سيما أن الذهاب بما طرحه ابو حنيفة والآخرون وتناول اسمائهم، دخلت فيه ظروف سياسية فرضتها المرحلة وقتذاك.

عادة الصخب السياسي لكونه من الاهمية بمكان يجعله ذا وجدان في الشعور الشعبي ترقباً وتفاعلاً واعتناقاً، وتكرار ذلك رسخ الامر وبدأت النخبة توجهه، سيما المفكرون الذين صدروا عن الامام واجيالهم اللاحقة حينما كانوا يأخذون من الاصول الاربعمائة التي خرجت عن الامام (عليه السلام) مع انهم (عليهم السلام) كانوا إثني عشر لكن كلامهم واحد، إلا أن الأمر عاش حالة الارتكاز الذهني وتأطر بها إنطلاقاً من نظرية القرن الأكيد في التثبيت.

وأد الأمة كان وما زال

يقول الدكتور حامد حفني داود استاذ الادب العربي بكلية الالسنة في القاهرة في نهاية الستينات: منذ أكثر من عشريني عاماً استرعى التفاتي ـ وانا أبحث في تاريخ التشريع الإسلامي والعلوم الدينية ـ الامام جعفر الصادق سليل البيت النبوي الكريم، وما كان له من شخصية عظيمة في الفقه الإسلامي ومنزلة لا تجارى في عالم الفكر العربي، وفي الجانب الروحي بصفة خاصة. فوضعت في ذلك الوقت بحثاً تناولت فيه جوانب من سيرته وعلمه ومنهجه الفكري والفقهي، واستغرق ذلك مني قرابة ثمانين صفحة. ثم عرضت الفكرة على استاذنا المرحوم عبد الوهاب عزَّام، وهو من النفر القليل المشهود لهم ـ في نظري ـ (والكلام لحفني داود) ـ بالقدرة على الجمع بين اخلاق القدماء ومناهج المحدثين، ولكن الاستاذ الوقور لم يكد يسمع بعنوان البحث حتى علت وجهه السمح بسمة خفيفة، فهمت منها كل شيء… فهمت أنّ هذه الشخصية ـ على الرغم مما تحتله من مكانه عظيمة ـ هي مما يهم علماء الشيعة أكثر مما يعني علماء السنة، ولو كان ذلك البحث في مجال (الجامعة) التي يجب أن تكون أرحب صدراً مما تدعو اليه الطائفية المذهبية من تخصص أو تفرضه البيئية من مخططات محدودة ضيقة في مجال الفكر)(2). فهذا التغييب المتعمد النابع من أسس جوانية أغشت بصيرة العلم واغفلته زاد من تعاسة الأمة وفتح لها درب ضياعها، يكمل الدكتور ـ حنفي داود آلمه بعد ذلك وكيف أن الامر وصل يقول: على الرغم من كثرة ما كتبت وما حصلت من مراجع حول هذه الشخصية العظيمة منذ عام 1943 ـ وهنا يأتي وجه الازمة ـ فان الدوافع البيئية والوجدانية لمن يعيشون حولي كانت تردني إلى الوراء وتحملني على اليأس أكثر مما تحملني على الكتابة والانطلاق في الموضوع. وقد ضاعف من الزهد في إتمام ما بدأت ما قرأته من أبحاث مهلهلة هنا وهناك حول شخصية هذا الامام. فطويت صحافي وتركت الكتابة، وتأبيت على التعليق والرد)(3).

هذا الكلام لشاهد قرننا بما وصل اليه من انفتاح نسبي وخروج عن التقليد واعابة لكل خارج عن حدود المنهج العلمي في البحث. وفي آفاق دولة مسلمة تمتلك أكبر جامعات التراث، وفي حدود جامعة علمية متجردة عن أي صفة للانتساب في تناولها المعرفي. فالامر كان قديما وما زال بهذه الوتيرة كما نراه حتى لدى نخب تدعي الموضوعية والحياد البحثي. يقول أسد حيدر في كتابه الرائع (الامام الصادق والمذاهب الاربعة) متناولاً هذا الاطار: إنَّ أكثر المؤرخين قد اهملوا أخباره وسيرته ولم يذكروا الا النزر منها، ومن وقف على ما كتبه ابن كثير في تاريخه عن بعض الشخصيات التي لا قيمة لها في سوق الاعتبار يعرف مدى انحرافه وكيف انه أهمل الواقع وظلم الحقيقة، وتراه عندما يأتي لذكر جعفر بن محمد الصادق في حوادث 148هـ يقتصر على قوله: وفيها مات الإمام جعفر الصادق ولا يروق له ذكر شيء عن حياته. وكثيرون أمثال ابن كثير من قبل ومن بعد(4) مع أن المذاهب الاربعة نخبها تعرف أن أئمة مذاهبهم هم تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) أما بالمباشرة كمالك بن انس المتوفى (سنة 179هـ)، رئيس المذهب المنسوب اليه فقد كانت له صلة تامة بالامام الصادق (عليه السلام) وروى الحديث عنه واشتهر قوله: ما رأت عين افضل من جعفر بن محمد.

وكذا فيما روي في التهذيب للصدوق، والمجالس السنية للامين، والتوسل والوسيلة لابن تيمية. مما قاله مالك عن الامام (عليه السلام) (جعفر بن محمد اختلفت اليه زماناً فما كنت أراه الا على ثلاث خصال، إما مصلِّ، وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً).

وهذا الامر ينسحب في التلمذة إلى ابي حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150هـ، صاحب المذهب المنسوب اليه وقد اشتهر قوله: ما رأيت اعلم من جعفر بن محمد… وقوله: لو لا السنتان لهلك النعمان وكانت له مع الامام الصادق اتصالات متفرقة بالمدينة والكوفة، وقد لازمة مدّة سنتين متواصلتين بالمدينة. لذلك بفصيح لسانه يوقف نجاته على تلك السنتين. وكذا كلمته التي نقلها التاريخ السني في (مناقب ابي حنيفة) للموفق ج1، ص173، وكتب أخرى من قبيل جامع اسانيد ابي حنيفة ج1 ص222 وكذا تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص157. قوله: ما رأيت افقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة أن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد فهيأت له اربعين مسألة، ثم بعث اليَّ ابو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما ابصرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لابي جعفر، فسلمت عليه وأومأ إلي فجلست ثم التفت اليه فقال: يا ابا عبد الله هذا ابو حنيفة.

قال جعفر: نعم. ثم أتبعها قد أتانا. كأنه كره ما يقول في قوم انه إذا رأى الرجل عرفه، ثم التفت المنصور إلي فقال: يا أبا حنيفة ألق على ابي عبد الله من مسائلك فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: انتم تقولون كذا واهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الاربعين مسألة، ثم قال ابو حنيفة: ألسنا روينا أن اعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

وكذلك هنالك كلمة للحنفي البسطامي تبرز اعترافاً في حقيقته العلوية: جعفر بن محمد، ازدحم على بابه العلماء، واقتبس من مشكاة انواره الاصفياء، وكان يتكلم بغوامض الاسرار وعلوم الحقيقية وهو ابن سبع سنين، كما عن مناهج التوسل ص106 ونعاضدها بابي بحر الجاحظ في قوله (جعفر بن محمد، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: أن أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب) كما في رسائلة للسندوبي، ص106.

وعلى تعبير السيد مير علي الهندي في تاريخ العرب ص179 إنه لم يكن يحضر حلقته العلمية اولئك الذين اصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الانحاء القاصية) وهذا الكلام قد يشي لنا، بان كثيراً من معارف الامم في صوابها ومشابهاتها قد نعود بجذورها إلى مفكريها أو أي نخبة منهم ممن حضر مجلس الامام الصادق (عليه السلام) وما اروع ما كتبه ـ نيابة عن معهد البحوث الشرقية سيما في تخصصه في وجهة الشرق في معيارية خارجة عن حدود المذهبية وبكلمة تحدد لاهل الشرق منبعهم ـ الاب أ. عبده خليفة اليسوعي وعارف ثامر كما نقل عن مقدمة كتاب الهفة والاظلة، ص15 ـ 16: عندما يتفرغ الباحث لدراسة شخصية الامام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن ابي طالب دراسة صحيحة على ضوء الضمير النقي، والواقع العقلي، والتجرد العلمي، متبعاً الاصول الحديثة، مبتعداً عن العاطفة، ومرض التعصب، وأثر الجنسية، فلا يستطيع الا الاقرار بأنها مجموعة فلسفية قائمة بذاتها، تزخر بالحيويــــة النابضة، والروحية المتجسدة، والعقلية المبدعة التي استنبطت العلوم، وابدعت الافكار، وابتكرت السنن، وأوجدت النظم والاحكام).

جسور الحقيقة

إن المنطلقات التي تصدر من لسان الامام الصادق (عليه السلام) وفعله لا تأتي بما قد تؤمي اليه الالفاظ حينما يَسِمَهُ العلماء بانه عبقري عصره، في انه مفكر انعزل لعقله ووضع الاسس بشرياً كما هو عن العقل البشري غير المسترشد بالاصول الإسلامية وانما هو(عليه السلام) كما سلف عن المقدمة في أن الامام (عليه السلام) كانت حركته في اطار السلسلة الذهبية للامامة، وامتدادها للنبوة فكما يقول (عليه السلام).

نحن لا نقول: قال فلان وفلان.

وانما نقول:

قال الله ورسوله: إن حديثي حديث ابي، وحديث ابي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث امير المؤمنين حديث رسول الله (عليه السلام)، وحديث رسول الله هو قول الله).

وهذا ليس إدعاء مجرد(5)... فالرسول (صلى الله عليه وآله) أقرَّ هذا المنطلق والقرآن قبله في آية التطهير.

(إنما يُريدُ الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً)..

وفي جعلهم صنواً للقرآن وثقلاً يضاهيه سيما انه يحتاج إلى استنطاق وهم ناطقوه صلوات الله عليهم (تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

والافاق التي نصفها إبداعية. جاءت من امتلاكها صوراً للحضارة وعلاجات مفاهيم الحياة بكل قنواته من الحرية والعدالة. الحقوق والواجبات. فلسفات، علم النفس، الاجتماع، والسلطة وفلسفة الكون وخالقه، حتى المنهج وآفاق لا يبلغها المدى.. تعجز في احصائها. كلُّها تمثل جسوراً مفضية في طرفها الثاني للحقيقة.

يقول (عليه السلام): (أن لكلامنا حقيقة، وأن عليه لنوراً، فما لا حقيقة له ولا نور فذلك قول الشيطان..)

إن المجتلي لكلام الصادق (عليه السلام) يجد في كل كلمة له تناولاً لقناة من اخاديد الحياة، وتوجيها لهذا القحط المعرفي القيمي لفاقديه التي تعانيه الارض في اضطراب مفكريها، وقد يستطيع الباحث لما حوته كلمات الامام من كليات تتناول تفريعات جزئياتها تأطرها الواقع تحتاج إلى الانزال (انزال الكليات) احكامها الكبرى كما يعرف منطقياً على مصاديقها إلى مؤلفات واطروحات.

وعلى أي حال فان مدرسة الامام الصادق، كانت مصدراً للعالم وينبوعاً يفيض على الأمة بالعلوم والمعارف الاسلامية، وقد أغدقت على العالم الإسلامي خدماتها الجليلة، في بثِّ التعاليم القيمية في عصر ازدهر فيه العلم، واقبل المسلمون على انتهاله(6).

أما الافاق المعرفية والنظم والفلسفات بالمعنى الاول في حقائق الاحكام وفلسفة الصالح والفاسد والفعل الإنساني عموماً.. فيمكن الاصغاء بصراً ساعة واحدة لمتون الموسوعات الروائية للمذهب الجعفري وانما سمي بالمذهب الجعفري تميزا له عن المذاهب الاخرى التي عاصرها الامام (عليه السلام) والا هو فرع من الشجرة العلومية والمدرسة الفكرية المعروفة بـ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام). نجد انها اسست لمدرسة متكاملة في الفروع والاصول نهلت منها كل المذاهب الاخرى بدون استثناء.

الهوامش

1 ـ مغنية، محمد جواد، الفقه على المذاهب الخمسة، بيروت، دار الجواد، ط7، 1982، ص12، (15ش).

2 ـ مقدمة د. حامد حفني داود لكتاب (الامام الصادق والمذاهب الاربعة)، اسد حيدر، بيروت، دار الكتاب العربي، ط2، 1969م، ج1، ص13.

3 ـ مقدمة د. حامد حنفي داود، مصدر سابق، ص14.

4 ـ حيدر، أسد، الامام الصادق (والمذاهب الاربعة)، مصدر سابق، ص51.

5 ـ مغنية، محمد جواد، قيم اخلاقية في فقه الامام جعفر الصادق، ط بيروت، دار التعارف، ط1، 1977م، ص14.

6 ـ اسد حيدر، مصدر سابق، ص68.

الحرية

ولاية الفقيه

التعددية

السيادة

الاقناع

النشوء الحضاري

الكتابة

الثقافة

الامام الصادق

العقوبة

الهولوكوست

التجديد

الاعلام

الفكر الاقتصادي

اعلام الشيعة

السجود

عودة الى محتويات العدد41

عودة الى الصفحة الرئيسية