يمكن للباحث المتخصص أن يثري بحوثه بخصوص دور المنبر الحسيني كواجهة ثقافية، حين يعود إلى كتاب \" تجاربي في المنبر\" للإمام السيد محمد الشيرازي، فهذا الكتاب يضم بين دفّتيه جملة من الوصايا الجوهرية التي يمكن أن تخدم طرفين، الأول الباحث في العلوم الإسلامية، والثاني الخطيب...

يمكن للباحث المتخصص أن يثري بحوثه بخصوص دور المنبر الحسيني كواجهة ثقافية، حين يعود إلى كتاب " تجاربي في المنبر" للإمام السيد محمد الشيرازي، فهذا الكتاب يضم بين دفّتيه جملة من الوصايا الجوهرية التي يمكن أن تخدم طرفين، الأول الباحث في العلوم الإسلامية، والثاني الخطيب الذي يطمح إلى إعلاء شأنه في فن الخطابة الحسينية والدينية بوجه أعمّ.

وجملة الوصايا التي يحتويها هذا الكتاب، مستلّة من التجربة الفعلية الشخصية لسماحة الإمام، وما أن يطّلع عليها الخطباء ويسبرون غورها، حتى تتبلور شخصيتهم الخطابية، كون هذه النصائح لم تأتِ من تشدّق تنظيري لا يرتكز على أساس تطبيقي، فما يصوغه السيد الإمام الشيرازي ما هو إلا نتاج تجربة طويلة قضاها صحبة المنبر، وغاص في أدقّ أسراره، وفهم دقائق وتفاصيل بناء الشخصية المثالية للخطيب، وكيف يكون مؤثرا وذا سطوة على المستمع أو الحاضر المباشر للمجلس.

ومن جملة هذه النصائح بالغة الأهمية، أن يعرف الخطيب ما يريده الجلاس، فالإنسان بطبيعته مجبول على معرفة ما يحيط به ويدور حوله، بالإضافة إلى أنه يعشق معرفة أخبار وأحداث الحاضر، ولا ينتقص هذا من تعلقه بمعرفة حكايات الماضي، وكم يكون الإنسان سعيدا حين يطلعه الخطيب على القادم من الأحداث، على أن يتخصص بالمستقبل الذي يؤثر على وضعه ويتناغم مع أمانيه، مهم جدا أن يكون الخطيب عارفا بالقضايا والأخبار والأحداث التي تهم الناس.

الإمام الشيرازي من ضمن تجاربه مع المنبر استقى هذا الأمر فقال:( لقد جُبِل الناس على حب الإطلاع على ما يدور حولهم، كما جُبلوا حبّ الإطلاع على أخبار الماضين، وعلى استطلاع المستقبل. ولذا كلما كان الخطيب أعرف بالأمور التي تجري في البلاد كان أقدر على التأثير في النفوس/ المصدر: تجاربي مع المنبر).

ومما قد يفوت الخطباء، خطورة أن يكرروا قصصهم التي يستشهدون بها في خطبهم، أو يدعمون فيها أهدافهم الخطابية، يوجد خطباء لا يتنبّه إلى تكرار ما يتفوه به من فوق المنبر، فيعيد ويكرر ويصقل ما قاله مرارا وتكرارا، لدرجة تنشر الملل بين الجميع، فيفلت زمام الأمور من الخطيب ويبدأ الحاضرون بالتشاغل في حكايا تخص عملهم واهتماماتهم، وينسون أو يتناسون بأنهم حاضرون في مجلس ثقافي حسيني، هذا لا يقع على عاتقهم، فحين تُعاد حكاية أو واقعة أكثر من مرة على الجلاس، سيهملها الجميع ولن تكون هناك قدرة للخطيب على الإمساك بتلابيب المجلس، والأكثر ضررا حين لا يتنبه الخطيب لهذا الخطأ الذي يرتكبه بالإعادة والصقل والتكرار.

عن خطورة التكرار يقول الإمام الشيرازي (إن الإنسان يمل القصة إذا سمعها مرتين فكيف إذا سمعها مرات. لذا يجب على الخطيب مراعاة هذه الملاحظة المهمة/ المصدر السابق). ويؤكد أهمية أن يحذر الخطيب هذا الخطأ الجسيم حين يستخلص سماحته من تجربته الشخصية هذا التحذير شديد اللهجة، فينأى بنفسه وخطبته عن التكرار بقوله:

(لقد كنت شخصياً أتحرّى عدم التكرار في محاضراتي الأسبوعية أدقّ تحرٍّ، حتى لا يتكرر كلام واحد ولو بعد سنوات/ نفس المصدر). أما العلل التي تفرض لجوء الخطيب للإعادة، فهي تكمن في ضعف الرصيد المعلوماتي له، ونزر الإطلاع، والتعاجز والاتكال والروتينية التي تكبل الخطيب بأحابيلها، فيسرد خطبته نفسها في كل المجالس التي يقيمها كخطيب محدث، ومثل ها الخطيب سيجد في النهاية نفسه وحيدا مع المنبر، لأن الناس ترغب بالجديد وهو لا يمتلك من رصيد سوى القديم المحكي وهذا لا يغني ولا يشبع خاصية حب الإطلاع البشري.

فيحذّر السيد الإمام الشيرازي من ذلك: (إن التكرار بالإضافة إلى أنه يدل على إفلاس الخطيب من المعلومات الجديدة، فإنه يسبب انفضاض الناس من حوله، وقلة تأثيره في النفوس/ تجاربي مع المنبر).

ومما يتفوق به الخطيب المائز على غيره، موهبة التصوير وليس البوح أو القول أو الكلام، فالكل يمكنهم التفوّه بالكلمات، لكنّ القليل من له قدرة التصوير، أي تحويل الكلمات إلى صور، وهو في هذه الخاصية يمكن أن يحدث تأثيرا غير مسبوق في السامع والمتلقي، هنا يحضر في شريط الذاكرة القارئ الحسيني الخالد (عبد الزهراء الكعبي) وكيف يُبدع في تصوير الأحداث ومدى تأثيرها في المستمع وهو يتلو ويصوّر ما جرى في مقتل الحسين (ع)، وإذا عجز الخطيب عن خاصية التصوير بالكلمات فلن يكون تأثيره ذا قيمة على الحاضرين أو المستمعين.

الإمام الشيرازي يقول (هناك قاعدة تقول صورة واحدة خير من ألف كتاب، وتصوير الموقف خير من ألف كلام، وعلى هذه القاعدة يستطيع الخطيب أن يؤثر في سامعيه/ المصدر نفسه).

الغاية من المجلس التثقيف، وهذا لا يُنجز من دون موهبة التأثير، والإقناع، عدم التكرار كما مرّ ذكره، يصب في قوة الإقناع، والتصوير يدعم صرح التأثير، ويأتي عنصر آخر يدعم رصيد الخطيب في جنبة التأثير الأقوى، ويعنى به قدرة التوصيف، فإذا كان صاحب باع في الوصف وتطويع المفردات، ورسم الصور الكلامية الدقيقة للمواقف، فإنه سيكون خطيبا بارعاً، وهذا ما يطمح إليه جميع الخطباء، فحين يبرع الخطيب بوصف الموقف بلا زيادة أو نقصان أو تقليل أو مبالغة، فإنه يحوز على كامل المهمة من خلال اجتماع العناصر التالية في شخصية الخطيب:

1- التجديد.

2- التأثير.

3- الإقناع.

يجب أن تتوافر هذه العناصر عند الخطيب، فالعنصر الأول (التجديد) يعني تحديث المعلومات في نحو دائم وعدم التكرار، والثاني (التأثير) يعني استلهام خاصية التصوير في أعلى مستوياتها ودقتها، والثالث عنصر (الإقناع) وهو يعني امتلاك الخطيب لخاصية الوصف والواقعية في رسم المواقف والأحداث، ما يجعله خطيبا مؤثرا ومحبوبا مطلوبا في إثراء المجالس.

يشترط الإمام الشيرازي ذلك في الخطيب بالقول الآتي: (إذا تمكن الخطيب من توصيف المواقف، وصفاً دقيقاً بدون بتر أو تكبير أو تصغير للموقف كما هو في الواقع، تمكن من التأثير الكامل في نفوس السامعين).

اضف تعليق


التعليقات

نورس الموسوي
في الحقيقة نفتقد الخطيب المؤثر أمثال السيد محمد الحسيني الشيرازي والسيد محمد رضا الشيرازي والشيخ أحمد الوائلي كانوا فعلا مؤثرين في نشر الوعي والفكر ومجالات الحياة كافة نحن بحاجة إلى خطباء امثالهم في ظل الجهل والتجهيل المستمر بالمجتمع2018-10-23