ومع ان الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية تتشابه في تنفيذ المرحلة الاولى لاستزراع العبودية ولكن بادوات مختلفة، الا ان الدول غير الديموقراطية تتفوق في المرحلة الثانية منها من خلال تصميم وفرض سردية اعلامية مؤدلجة تغسل عقول الناس وتجعلهم فرحين بعبوديتهم...

(اخطر انواع العبودية هي تلك التي لا نكتفي باختيارها، بل ندافعُ عنها بافكارنا ونذودُ عنها بارواحنا)

لسنين طويلة اعجبت برواية جورج اورويل الموسومة 1984 لانها جسدت عبودية الانسان لسلطة الدولة التي كنّاها اورويل بالاخ الاكبر. لذا اخترت صفة الاخ الاكبر للمجتمعات التي تقيد الافراد بقيود كثيرة وتضحي بفردانية الانسان وحريته على مذبح المجتمع وسطوته.

وعلى الرغم من قراءاتي المعمقة في مجال السلوك الانساني وكيفية ضبطه وتنميطه بمختلف الاساليب الا اني كنت اعتقد ان السيطرة والتحكم الخارجيين بالانسان والمجتمع من خلال قمع السلطة الغاشمة (لدولة او حزب او مجموعةٍ ما) هو اسوا انواع العبودية الاجتماعية.

لكني قرات مؤخرا احد اكثر روايات الخيال العلمي التي مُنعت في كثير من دول العالم خلال القرن العشرين والمسماة عالم شجاع جديد Brave New World للكاتب الانكليزي الدوس هكسلي Aldous Huxley، والتي نشرها عام 1931 وتصور كيفية قيام العلم انذاك بتصنيع البشر بشكل منمط عبر خطوط الانتاج المنمطة مثل اي تلفزيون او راديو او سيارة.

وبغض النظر عن اعتراضي على كثير مما ورد في هذه الديستوبيا السابقة لعصرها بقرنٍ على الاقل الا ان الفكرة الاساسية لها باتت مجسدة جدا في عصرنا الراهن وتثير الرعب من هذا النوع من العبودية الذي بدا يغزو ادمغتنا ويدجّن نزعة الحرية لدينا،ويقلب مركز الاستعباد من السيطرة الخارجية للمستعبِدين الى الرضا الداخلي للمستعبَدين!

استزراع الرقابة

يحذر هكسلي من الامكانيات التي يمكن ان تتيحها التكنولوجيا المتطورة لمالكيها والمتحكمين فيها للسيطرة على الناس بارادتهم واختيارهم. بمعنى انه يتم استزراع الرقابة ذاتيا بحيث لا تعود حاجة للرقابة الخارجية من قبل السلطة. اذ يتم برمجة البشر بطريقة مشابهة لغسل الادمغة Brain washing تجعل من (الرعايا) خراف وديعة ومستجيبة لارادة (الراعي). وبدلا من الاخ الاكبر السلطوي يقوم الاخ الاكبر الرقمي بتزويد الجمهور بكل ما يعزز المتعة ويقدس الجهل.يتم ذلك من خلال مرحلتين رئيستين.

ففي البداية يتم عزل المجتمع المراد اخضاعه بسياج او حائط رقمي يسمح بدخول تلك المعلومات المراد ادخالها للمجتمع ويحجب تلك التي تهدد سلطة ورؤية المهيمنين.

ثم يتم تصميم سرديات narratives تستهدف غسل ادمغة الجمهور وتدجينهم تماما مثلما يجري تجنيد الانتحاريين الذين يقتنعون بل يتسابقون لتفجير انفسهم ليلحقوا بالجنة. في نفس الوقت يتم الهاء المجتمع ببرامج رقمية تعظّم المتعة الوديعة منزوعة الدسم.

حيث يتم اغراق المجتمع ببرامج، وسرديات، ولهو، ولعب ونشاطات مصممة لتمنع الناس من اثارة الاسئلة وتجعلهم راضين بما هو مقسوم لهم تحت شتى الذرائع مثل: هذا هو قدرنا، او نصيبنا، او هذا ما عرفناه من ابائنا،او هذه هي ثقافتنا، او الثقافة الاخرى، او المؤامرة لتدمير مجتمعنا وقيمنا…الخ.

في دراسة قمت بها نهاية السنة الماضية اجاب 80 بالمئة من العراقيين ان ثقافتهم متفوقة على كل ثقافات العالم. هذه النتيجة تادُ اي صوت ينادي بالتغيير الاجتماعي بل وحتى السياسي. فلماذا نغير مادمنا مقتنعين اننا الافضل؟ او مادمنا مقتنعين بان ما نعيشه هو افضل ما ممكن في ظل الظرف الحالي ف «الشَين التعرفه احسن من الزين الماتعرفه»! او ما دام الراعي يعلف القطيع ويوفر له الماء والمرعى فلماذا نخاطر بالتغيير او كسر سياج الحظيرة؟!

في الصين مثلا والتي دخلها الانترنيت بعد 5 سنوات فقط من احداث تيانانمن التي اودت بحياة 10 الاف صيني طالبوا بمزيد من الحرية، انتبه مسؤولوا الدولة هناك للامكانات الهائلة التي يتيحها هذا الاختراع وتاثيراته السياسية التي يمكن ان تزيد من ضغوط الشباب الصيني على الحزب الشيوعي هناك.

لذا تم البدا بتصميم ما يسمى بالجدار الناري العظيم Great Firewall والذي انتهى العمل به في 2009. هذا الجدار حجب كل المواقع التي يعتقد الاخ الاكبر انها قد تجعل العبيد يستكشفون ما هو كائن خارج كهف افلاطون.

وفي ايران تم تاسيس المجلس الاعلى للفضاء الرقمي عام 2012 لمراقبة المحتوى الرقمي وبشكل مشابه لهياة الاتصالات الروسية Vkantakta التي تاسست لنفس الغرض عام 2011. هذا لا يعني ان الدول التي تتصف بالديموقراطية ليست لديها ممارسات متشابهة. فقد كشفت فضيحة بيغاسوس عام 2020 كيف تمت مراقبة واسعة وغير شرعية لهواتف كبار الشخصيات في العالم مثل ماكرون والمستشارة الالمانية. كما كشف خبير المعلوماتية جوزيف سنودن Snowden في عام 2013 كيف تعاون مع وكالة الامن القومي الامريكي لمراقبة من تريد الوكالة مراقبته، والتجسس عليه وبدون اذن قضائي او حجة قانونية. كما ان هذا لا يعني ان كل ما متوفر على شبكة المعلوماتية جيد،لكنه يعني عدم معاملة الشعوب كافراد غير ناضجين او خراف غير عاقلة يجب على (الرعاة) ان يتخذوا القرار عنهم.

غسيل عقول

ومع ان الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية تتشابه في تنفيذ المرحلة الاولى لاستزراع العبودية ولكن بادوات مختلفة، الا ان الدول غير الديموقراطية تتفوق في المرحلة الثانية منها من خلال تصميم وفرض سردية اعلامية مؤدلجة تغسل عقول الناس وتجعلهم فرحين بعبوديتهم.

حينذاك لن تكون هناك حاجة لمنع الكتب او المجلات او الصحف او المواقع (الضارة) لانه لن يوجد هناك من يرغب بقرائتها. انها مرحلة الاستبداد التام Ultimate Tyranny حيث يتحول المجتمع باكمله الى سجن كبير لكن دون جدران بحيث لا يفكر السجناء بالهروب، لانهم مستمتعين بعبوديتهم بل ويدافعون عنها. لقد اصدرت سلطات الصين مثلا في عام 2004 مذكرة تحت عنوان «مقترحات لتدعيم البناء الاخلاقي والعقائدي لشباب الصين» تم بموجبها تبديل كل المنتهج الدراسية لتناسب السردية العقائدية للحزب الشيوعي وبما في ذلك تغيير كتب التاريخ. اكدت المناهج الجديدة على اهمية سلطة الحزب الشيوعي وعلى علوية النظام السياسي الصيني المتفوق على النظم الغربية اللا اخلاقية! كما قامت بعض المقاطعات في المانيا باصدار منهج تدريسي عن تاريخ الشرق الاوسط يتناسب مع السردية التي تجعل الصهاينة شعبا مختارا ومضطهد من قبل جيرانهم العرب.

في نفس الوقت يتم اغراق المجتمعات بشتى انواع التفاهة المرئية والمسموعة والمقرؤة وتحويلها الى قطعان من المستهلكين المدجنين ممن تعودوا العبودية واستبطونها داخليا. حين ذاك تصبح الحرية كلمة موبوءة والعبودية ضربا من المروءة.

ختاما، اود التاكيد اني لم اقصد من مقالي هذا تاييد وجود مؤامرة عالمية على الحرية، لكني اردت التوضيح ان ما بات العلم الحديث يتيحه للطغاة، او لمن يودون السيطرة على عقول الناس قد ادخلنا مرحلة جديدة من العبودية يستمرء فيها البشر العبودية ويستهجنون فيها الحرية. مرحلة بات فيها من يدعون للحرية متهمين بالابتذال والتفسخ الاخلاقي والمجتمع! وبتنا نتهم الضوء الساطع بالتسبب في الاضرار بالبصر دون ان نهتم بتنوير البصيرة.

............................................................................................

* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق