آراء وافكار - مقالات الكتاب

مذكرات قابلة للنسيان

الحلقة الاولى

وهكذا عرفت مبكرا أن الأشياء الجميلة التي نحبها وننسجم معها ونفرح بها، لا تبقى معنا طويلا، وأننا سوف نفقدها بغض النظر عن الأسباب، فلا يوجد عالم جميل تحبه سيبقى معك إلى الأبد، هذا هو الدرس الأول الذي تعلّمته مبكرا في حياتي، وقد استوعبته على الرغم من صغر سني، وبقيت حتى سنوات متقدمة من حياتي...

من محاسن الزمان أن تحدث ولادتي في بستان، وحين باعدتُ جفوني، وفتحتُ عيوني، رأيت كل شيء حولي وفوقي وتحتي أخضر، ومنذ لحظة الوعي الأولى تعلقتُ بهذا اللون، لكن المفاجأة حين بدأتُ أحبو و وصلتُ إلى النهر، فرأيت اللون الأزرق المتلألئ، ورغم أنني لا أزال صغير الوعي، لكن هذا اللون الجديد أضفى سحرا جديدا على حياتي البِكْر التي لم تتجاوز بعدُ الثلاث سنوات.

ومع هذه الألوان التي تعلقتُ بها كنتُ استنشق أريج الأشجار التي ملأت فناء البيت الذي وُلِدتُ فيه، ولا زلت أتخيّل بأنه أريج خليط من بواعث الأزهار والقداح وحتى النخيل، إنها حزمة من الروائح لا تزال عالقة في حاسة شمّي، أتذكرها لحظة بلحظة، ومعها أستعيد خطواتي الأولى في هذه الحياة الطويلة.

في السادسة من عمري قبضتْ أمي على كفي بقوة، وسحلتني وراءها، بعد أن ألبستني (دشداشة) بيضاء جديدة، ومضت بي مع مجموعة نساء وأطفال إلى مدرسة قرية (أم البط)، تلك القرية الوديعة التي تغفو على كتف شطّ كثيف الماء تنثّ منه رائحة السمك وكائنات أخرى، وحين وصلنا المدرسة المبنية من الطابوق على خلاف بيوت القرية المبنية من الطين وبواري القصب، فوجئنا بهذا البناء المختلف، بدءًا من السياج الشاهق، ثم دخلنا البناية وحين دخلنا غرفة مدير المدرسة، فاجأنا الأثاث المرتّب اللامع، طاولة المدير والكرسي الخشي القهوائي وخرائط للعراق، وكرة أرضية زرقاء تغصّ بالمياه وتحيط بها البحار والمحيطات، والعلامات المختلفة هنا وهناك وخطيّن يمثلان دجلة والفرات.

أتذكّر جيدا كف أمي وهي تقبض على كفي وتسحل بي سحلا كأنني لا أرغب في الذهاب لهذه المدرسة، كانت كف أمي ترتجف فينتقل هذا الارتجاف إلى جسدي كلّه، وقفنا في طابور، الأطفال وأمهاتهم، لم نكن كثيرين، لكن الغرفة امتلأت بنا، وامتلأت أيضا بالارتباك وبالصمت، فلا أحد يتكلم من الأطفال ولا أمهاتهم، العيون كلها كانت تتجه نحو رأس المدير المدوّر الكبير، ونحو الطاولة الفقيرة التي تختلف عن طاولات المدراء اليوم وما عليها.

ومع ذلك هناك خشية دخلت قلوبنا من هذا العالم الجديد، نحن لم نرَ غير الأشجار ومزروعات الحشيش وبيوت الطين ولون الماء الأزرق ولون السماء الصافية، لهذا شعرنا بالقلق وقليل من الخوف، والرغبة بالعودة سالمين إلى أكواخنا وبيوت الطين وعالمنا الريفي الوديع، فالدخول في هذا المدرسة كان يعني لنا الدخول في عالم آخر مجهول، ولم نكن نعرف بأنه عالم المعرفة، بل شعرتُ به – كما أتذكر- أنه عالم مختلف صادم، ولاحقا في سنوات قادمة سوف أسمّيه بعالم الضياع.

وضعتْ أمي أصابع كفها على رأسي، كأنها شعرت بقلقي وخوفي من المدرسة ومن المدير ومن غرفته، ومن الكرة الأرضية التي تستقر في زاوية الغرفة، وقد بدت لي وحشًا أزرق مرعبا، لأنني في الحقيقة لم أرَ مثل هذا الشكل من قبل، وكل شيء جديد يراه الإنسان لأول مرة يصدمه، وقد يخيفهُ، وهذا ما حدث لي فعلا، فكانت أمي تعرف بالفطرة بما أعانيه وأنا أنتظر دوري بتسجيل اسمي في مدرسة القرية الابتدائية.

حين وصل الدور لي، سألني المدير ذو الوجه الضخم (ما أسمك)، فأجبته متلعثما (اسمي علي كاني)، ضحك الجميع بعد سماعهم جوابي، إلا المدير وأمي، هذان الكائنان لم يضحكا من كلامي، ولكنني لا زلت أتذكر ملامح الابتسامة التي ارتسمت في وجه أمي، وملامح الجمود في وجه المدير المخيف، وما أن أنهيتُ كلامي حتى قامت أمي بتصحيح اسمي لتخبر المدير بأنني (علي حسين وليس علي كاني)، ويبدو أنني بسبب الارتباك جعلت من اسم خالي (كاني) اسما لأبي...

بعد أقل من شهر غادرت عائلتي وأنا صحبتها قرية (أم البط) إلى المدينة، وتخلّصتُ من بناية المدرسة ومن الوجه الضخم للمدير، لكنني خسرتُ عالمي الأخضر والأزرق، خسرت عالم الأشجار والماء والسماء، ودخلت عالم المدينة الجاف اليابس، أما السبب فهو يعود لقلّة الرزق هنا، ولاندلاع صراع مخيف بين أبي وشيخ القرية، فهو مالك الأرض التي يعمل أبي فيها فلاحا، وكان الشيخ يكره أبي لأنه لا يسكت مثل الآخرين على طلباته وتصرفاته الظالمة، وحين يئس شيخ القرية من إخضاع أبي لطلباته، طرده من الأرض ومن مهنة الفلاحة، فانقطع رزقنا، وفرّ بنا أبي إلى المدينة، وهناك في هذا العالم الاسمنتي الاسفلتي الجامد، بدأت اشواقي تتضاعف لعالم طفولتي الأخضر والأزرق، بل حتى السماء هنا في المدينة لها لون آخر لا يشبه لونها في قرية (أم البط).

لم أستطع التأقلم مع المدينة، كنت وحيدا في حي (الإسكان) المنطقة السكنية الجديدة التي سكنّا فيها، لم ألتقِ أطفالها، لم أختلط بأحد، لم ألعب مع أطفال الزقاق، حتى كلامي القليل أصلا، صار أقل بكثير، كأنني أعبّر عن حزني على ما فقدته في قريتي من عالم أخضر أزرق سماوي، لا يمكن تعويضه بألوان أخرى.

وهكذا عرفت مبكرا أن الأشياء الجميلة التي نحبها وننسجم معها ونفرح بها، لا تبقى معنا طويلا، وأننا سوف نفقدها بغض النظر عن الأسباب، فلا يوجد عالم جميل تحبه سيبقى معك إلى الأبد.

هذا هو الدرس الأول الذي تعلّمته مبكرا في حياتي، وقد استوعبته على الرغم من صغر سني، وبقيت حتى سنوات متقدمة من حياتي، لا أثق بالأشياء المريحة واللذيذة التي تتقرب مني، لأن هاجس فقدانها ظلَّ يرافقني كل مراحل حياتي، لدرجة أنني لم أثق بكل شيء جميل المذاق أو اللون أو الملمس تقدمه لي دنياي، فهذه الأشياء كأنها نوع من (الشَرَك أو الفخاخ) التي تُنصَب لي كي أسقط فيها، كما حدث ذلك في سنوات عمري المبكرة حين فقدتُ عالم القرية، عالم النقاء، عالم اللون الأخضر، والأزرق، والسماوي، إلى الأبد.

اضف تعليق


التعليقات

بشرى الشبلي
العراق
احسنت جميل جدا2023-10-19