آراء وافكار - مقالات الكتاب

الزهد أسلوب حياة للبقاء المستدام

مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (ع) (12)

الزهد أسلوب في الحياة يجعلنا قادرين أن ندير أمورنا المادية بشكل ناجح، بأسلوب سلس ونافع، فكثير من الازمات التي تجتاح المجتمعات والأسر اليوم، هي نتيجة لعدم وجود إدارة حكيمة ورشيدة، الزهد يساعدنا على الإدارة الجيدة، ويجعلنا نتخلص من التعقيدات والمشكلات المادية. يعطينا القدرة والمنهج والأسلوب والاستراتيجية...

(وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ)

مع التطور العلمي الهائل والتقدم الكبير، أصبح العالم يحمل معه تعقيدات مادية كبيرة جدا، أثّرت على أساليب حياة الناس من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والأسرية، فأفرزت مشكلات كبيرة، بسبب عدم معرفة كيفية التصرف السليم مع هذه الأزمات المعقدة.

يمكن لنا في هذا العالم المادي المعقد أن نتعامل مع هذه الأزمات والمشكلات، ونكون من الناجين بإتباع مفهوم الزهد الذي طرحه أهل البيت (عليهم السلام)، وخصوصا الإمام علي (عليه السلام) في (نهج البلاغة)، فهذا المفهوم يعطينا القدرة والمنهج والأسلوب والاستراتيجية اللازمة للتعامل مع الماديات، وإدارة المشكلات والأزمات الناتجة عنها.

الزهد أسلوب في الحياة يجعلنا قادرين أن ندير أمورنا المادية بشكل ناجح، بأسلوب سلس ونافع، فكثير من الازمات التي تجتاح المجتمعات والأسر اليوم، هي نتيجة لعدم وجود إدارة حكيمة ورشيدة، الزهد يساعدنا على الإدارة الجيدة، ويجعلنا نتخلص من التعقيدات والمشكلات المادية.

إدارة حياتنا بطريقة الزهد

على سبيل المثال، ما هو أسلوب العمل الناجح في الحياة، وهل علينا أن نتوقع الأجر المادي أم نتوقع الأجر الأكبر من المادي، فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَلَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا رِبْحَ كَالثَّوَابِ)(1)، فالإنسان الذي يجعل عمله متعلقا بالأجر المادي ويتوقع فقط الأجر المادي، دون أن ينظر إلى المستقبل ولايستثمر في الاستدامة او التطور في الحياة، فهذا الإنسان يكون محدود الرؤية وضيّق الأفق، وبالنتيجة يعيش في إطار مادي ضيق.

لكن الإنسان الذي يبحث وينظر للعمل ليس مجرد أجر مادي وإنما كخير ونفع وثواب وتطور فكري ومعنوي وأخلاقي وروحي للإنسان، فهذا الشخص سوف ينمو عمله ويتطور وتنمو شخصيته وتتطور آفاقه في الحياة.

(يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) هود 51. 

لذلك نحن نحتاج اليوم أن ندير حياتنا بطريقة الزهد، حتى نستطيع أن نحقق أهدافنا الصحيحة في الحياة، ونتجاوز مجموعة من العوائق التي تعيق أهداف وتمنعنا من الوصول إلى أهدافنا الحقيقية، وبالخصوص عقبات هيمنة عالم الأشياء على كل مفاصل الحياة، حتى أصبح العالم اسيرا ومرتهنا لها مكبل باغلالها اولا، وثانيا مدمنا عليها خامل الفكر سطحي التفكير يرفل بالتفاهة، وثالثا يعمل فقط من أجل الحصول عليها لذلك يفقد المضمون الحقيقي للعمل.

رابعا- يكرّس حالة التبعية وفقدان الاستقلال

من أصعب المشكلات التي يعاني منها الإنسان أنه تُستلَب منه شخصيته وهويته ونفسه وفكره بسبب التبعية المادية للغير، عندما يفكر الإنسان فقط بكيفية الحصول على أجر مادي، فإن هذا الإنسان يعيش حالة من التبعية وفقدان الاستقلال من الناحية الذاتية لهذا الإنسان كشخصية وكيان عقلاني مستقل، وكإنسان له وجود وهوية وهدف في الحياة.

لكن الزهد يمنح الإنسان القدرة على مقاومة حالة التبعية وأن يبني في نفسه حالة الاستقلال، لأنه في الواقع يتعامل مع المادة كوسيلة وليس كهدف، لذلك فإن الزهد يؤدي إلى بناء الاستقلال عند الإنسان، وإيجاد حالة التحرر فيه، والاستغناء عن الحاجة الى الآخرين، لذلك فإن الزهد منهج استراتيجي في عملية بناء شخصية الإنسان.

الاستدانة والشراء بالاقساط

ان الحرص على الأشياء يؤدي الى فقدان قدرته على التحكم بها، وتصبح عنده حالة من التبعية وانعدام الاستقلال والاستسلام للاستعباد الشيئي.

ففقدان السيطرة على الأشياء تؤدي بالإنسان أن يذهب وراء الاستدانة والاستقراض، والشراء بطريقة الأقساط، فهو يريد أن يمتلك الأشياء سواء كان يحتاجها أو لا يحتاجها، حتى وان لم يكن لديه القدرة المالية، فيذهب إلى الاستدانة ويوقع نفسه في سلسلة كبيرة من الديون تكبّل حياته، فالديون تثقل عاتق الإنسان وتجعله يعيش كابوسا نفسيا وهمّا كبيرا وقلقا وخوفا من المستقبل(2).

يمكنك أن تشتري سيارة بعشرة ملايين دينار عراقي، فلماذا تستدين وتشتري سيارة بـ 30 مليون، عشرة ملايين يمكن أن تحقق له ما يصبو إليه، لكنه يستدين 20 مليونا ويوقع نفسه في شبكة الديون، فيعاني من الهم والقلق والتفكير بكيفية سدّ الديون، وفي كثير من الأحيان قد لا يستطيع أن يرد الديون فيفقد ثقة الآخرين الذين يستدين منهم.

ازمة التبعية في الامم

 إن مشكلة التبعية هذه ليست موجودة عند الإنسان فقط، بل موجودة في المجتمعات والدول والأمم، فهذه الأمة أو هذا المجتمع الذي لا يمتلك ثقافة الاستقلال وثقافة الاعتماد على الذات وعلى النفس والاكتفاء الذاتي، يكون تابعا دائما للأمم الأخرى، وكثير من الدول التي تعيش الآن تحت وطأة الاستعمار تعيش حالة التبعية لأنها لا تستطيع أن تدير أمورها بعقلانية وحكمة فتستدين وتستدين وتهدر هذه الأموال في أمور لا تحتاجها(3).

فتكون هذه الأمم قابلة للاستعمار تعيش التخلف واستمرارية الفقر، حيث يكون الفقر مستمرا في هذه الأمم مهما استدانت، لأن الديون في عالم اليوم ديون ربوية متضاعفة، كلما يمر الزمن تتضاعف، ولا يستطيع المستدين سدادها فتتضاعف عليه وهكذا يكون مستعدا للتبعية والخضوع للأطراف الدائنة.

الأشياء وبرمجة الانفعالات

ولكن يمكن التخلص من حالة التبعية للأشياء، عندما يتعامل مع الماديات بأسلوب رشيد وإدارة حكيمة، بحيث لا تتراكم عليه العواطف والانفعالات النفسية، والخوف والقلق من المستقبل.

البعض تتكرس عنده حالة التبعية، لأنه يفرح بالأشياء، فإذا حصل على موبايل جديد وجميل فيجعله يشعر بالفرح، وإذا حصل على سيارة جديدة أو أثاث فاخر يفرح كثيرا، فيجلس على كرسي فاخر أو خلف طاولة فاخرة، فيفرح بذلك، ولكن عندما يفقد هذا الكرسي أو السيارة أو الموبايل يشعر بالأسى الشديد.

هذه عواطف وانفعالات نابعة من تحكّم الأشياء بنفس الإنسان، وتكمن هذه المشكلة في البرمجة الذاتية فيفرح بالأشياء ويحزن على الأشياء التي يفقدها، هذا نوع من التفكير الخاطئ، لذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) يلخّص منهج الزهد بكلمتين موجودتين في القرآن الكريم، حيث يقول (عليه السلام): (الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} وَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَلَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَقَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ)(4)، من جهة الفرح ومن جهة الأسى.

فعلى الإنسان أن لا يفرح بما حصل عليه، ولا يحزن على ما يفقده، ولا يأسى ولا يجزع على ما خسره، هذا هو الزهد حيث يكون الإنسان فوق عواطف المادة التي تتحكم بالإنسان من داخله، وعندما يستطيع الإنسان أن يدير عواطفه من خلال عقله وإدارته الحسنة، يستطيع أن يكون رشيدا حكيما حرا مستقلا.

مشكلة التبعية للمادة

بعض الناس يتوقفون عن التقدم والتفوق في الحياة، لأنه يعاني من مشكلة التبعية للمادة، فقد يربح شيئا معينا، كأن يدخل في بورصة أو تجارة معينة وربح مليون دينار، فيأخذه الطمع ويأخذه الانفعال ويفرح بما كسبه ويدخل في مغامرة كبيرة ويضع كل أمواله في هذا الاستثمار حتى يربح عشرة ملايين أو عشرين مليون، أو ثلاثين مليون، وبعضهم يستدين من أجل الاستثمار فتكون هذه التجارة خاسرة بسبب فرحه الذي قاده إلى هذه المغامرة، فيخسر خسارة كبيرة لأنه تعامل بعواطفه وانفعالاته الكبيرة، فدفعته الأشياء نحو هذه المغامرة.

بعض الناس على العكس من ذلك فمجرد أن يخسر يسيطر عليه الحزن ويتوقف عن التفاعل مع الحياة، وبالنتيجة تجده خائفا دائما من أن يخسر، فيخسر الأشياء التي يملكها ويخسر الأموال الموجودة عنده، ويتوقف عن التقدم في حياته، فلا تجعل من الماديات محورا للفرح والحزن، يجب أن نتحكم بعواطفنا ومشاعرنا، ولا نفرح بالأشياء الموجودة لدينا، ونكون أسمى من الأشياء حتى نستطيع ان نتقدم.

ولا نحزن على ما فقدناه حتى نكون أعظم من كوننا تابعين لهذه الأشياء، فهذا هو الزهد من طرفيه، من طرف الحزن ومن طرف الفرح، فإذا تمكن الإنسان من أن يحقق هذا الهدف، فلا يحزن ولا يفرح بما يحصل عليه أو يفقده، فقد أخذه الزهد من طرفيه، وهنا يتحقق الغنى، فهذا هو الغنى الحقيقي عندما يكون الإنسان مستغنيا عن تحكم العواطف والانفعالات النابعة من التعلق بالأشياء الخارجية.

الغنى والاستغناء الحقيقي

على العكس من الإنسان الذي تتحكم به الأشياء، فمهما كان يمتلك من الأشياء لكنها تتحكم به، من جانب الحزن ومن جانب الفرح، فإن هذا الإنسان يكون فقيرا في الواقع، فقير النفس، فقير الذات، تابعا الى ما تقوده الأشياء.

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول حول قضية الغنى والفقر: (لن يفتقر من زهد)(5)، لن يكون فقيرا لأنه يشعر دائما بالغنى، كما ذكرنا في بداية مقالات الزهد والاستهلاك قوله (عليه السلام): (والزهد ثروة)(6)، لا يفتقر لأن الغنى غنى النفس، وأهم شيء بالنسبة للإنسان هو غنى النفس، فأنت حين تكدّ وتتعب وتعمل حتى تحصل على الأموال، تفعل ذلك حتى تكون مستقلا غنيا، لكن قد ترى نفسك وأنت تمتلك 100 مليون، أو 200 مليون، أو ألف مليون، وتشعر أنك لا تزال تحتاج إلى الأموال، مثل هذا الإنسان سوف يبقى فقيرا، لكن هناك إنسان عنده مليون أو مليونين، لكن تراه لا يحتاج شيئا لأن نفسه غنية، فالإنسان حين يذهب الى العمل هدفه أن يحصل على غنى النفس، فيكون مكتفيا قنوعا عفيفا في حياته، هذا هو الغنى والاستغناء الحقيقي الذي يحصل عندما يتحرر الإنسان من عبودية الأشياء، ولا يكون عبدا لها، إذا أصبح الإنسان عبدا للأشياء، يصبح عبدا للحاكم، عبدا للطاغوت، عبدا للشهوات، عبدا للأهواء، هذا الإنسان هو عبد بذاته ولا يكون حرا، الإنسان الحر هو الإنسان الغني في ذاته وفي نفسه عن الأشياء.

البداية الحقيقية للحرية

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (من زهد في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربه)(7)، أعتق نفسه وتحرّر من العبودية، عبودية الأشياء وعبودية الطاغوت، وعبودية الشهوات من خلال الزهد، لأن الزهد يجعله يستغني ولا يفرح بالأشياء ولا يحزن عليها، هنا سوف يكون الإنسان حرّا، وهذه هي البداية الحقيقية للحرية.

نلاحظ بعض المجتمعات اليوم تبحث عن الحرية، وتنادي بالحريات وحماية حرية التعبير وحرية كل شيء، ولكن ترى هذه المجتمعات تعيش حالة من العبودية في مجتمعاتها، فالحرية السياسية لا تكفي ما لم تكن لدى الإنسان حرية ذاتية، حرية الإرادة، حرية التحرر من الشهوات والماديات، هذا هو منطلق الحرية، والمنطلق الأول لبناء الحرية في الإنسان، وهو التحرر الذاتي.

الزهد هو حرية الإنسان

وعن الامام علي (عليه السلام): (وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً.. وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ...)(8)، فالحرية تبدأ من نفس الإنسان وتنبعث من ذاته، وتتورق من تفكيره، فيعتق الإنسان نفسه من خلال الزهد، ويرضي الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا لابد على الإنسان أن يبحث عن رضى الله سبحانه وتعالى ولا يبحث عن رضى الطاغوت أو رضى المسؤول عنه ومديره، بل يبحث عن رضى الله، فلا يعصي ربه، ويتورع عن الحرام، هذا هو معنى الزهد الحقيقي وهذا هو معنى الحرية الحقيقية، وهذا هو معنى التحرر الحقيقي والاستقلال والاكتفاء عند الإنسان.

لذلك فإن الزهد هو حرية واستغناء واستقلال، فالذي يبحث عن الاستقلال وعن الحرية وعن الاستغناء الذاتي لابد أن يتخذ منهج الزهد في الحياة، ولا يعني منهج الزهد أن تتخلى عن الحياة المادية، بل يعني أن لا تجعل نفسك عبدا للماديات، فتكون أنت المسيطر والمتحكم بها، عندما تستفيد منها كوسيلة في حياتك وليست هدفا.

هذه النقطة تتعلق بكيفية خروج الإنسان من سيطرة الأشياء والتحكم بها.

خامسا- فقدان المعنى الوجودي

النقطة الأخرى التي يسببها الخضوع لعالم الأشياء والتبعية للأشياء هي فقدان المعرفة لمعنى الوجود في الحياة، بعض الناس تلاحظ أنهم عملوا طوال حياتهم وواصلوا عملهم إلى أن وصلوا إلى مرتبة معينة من الاكتفاء المادي، ولكن مع بلوغه عمر 50 أو 60 أو 70 أو 80 سنة فترى عدم وجود طاقة عنده في الحياة، وليس لديه روح، فيشعر بالاكتئاب وعدم الفائدة وبعدم الجدوائية؟

لأنه فقد معنى وجوده في الحياة، ولم يحصل على المضمون الوجودي له في الحياة، نعم هو حصل على حاجاته وأهدافه المادية وحقق الاكتفاء المادي، وحصل على الأموال والممتلكات كالبيت والأثاث، ووصل إلى مرتبة عالية من امتلاك الأشياء، فهو يمتلك كل شيء، أثمن الأشياء وأجملها موجودة عنده، ولكن تلاحظ أنه لا يشعر بالطمأنينة، ولا يحس بالراحة، بل يشعر بالتعب دائما، وانه مرهق نفسيا، ولا توجد عنده قدرة نفسية على أن يستمر، حيث فقد غايته في الحياة.

السبب في ذلك أن الأشياء تجعل الإنسان تابعا لها، وعندما يكون الإنسان تابعا للأشياء فإنها تجعله متعبا مرهَقا نفسيا، وتجعله مكتئبا ولا تعطيه المضمون الحقيقي ولا الطاقة الحقيقية في الحياة، لأن الطاقة الحقيقية طاقة معنوية، طاقة روحية وليست طاقة مادية، لذلك لا تجعل الإنسان يشعر بالسعادة، بل تجعله هذه الماديات تعيسا ولا يشعر بالراحة.

لكن بعض الناس وهم القلة، تراه مطمئنا مرتاحا في حياته ومستقرا، لأنه يشعر بمضمون وجوده في الحياة، ويشعر بالغاية من وجوده، فيكون مرتاحا في حقيقة نفسه، الزهد هو هذا الشيء، هو الذي يجعل الإنسان مرتاحا ومطمئنا في حياته، وعدم الزهد والحرص على الدنيا يجعل الإنسان متعبا شقيا مكتئبا ومرهقا في حياته. لذلك فالإنسان الذي يتحرر من الأشياء يكون مرتاحا مطمئنا ومستقرا نفسيا.

الراحة في التحرّر من الأشياء

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (الزهد في الدنيا الراحة العظمى)(9)، بمعنى يشعر الإنسان بأعلى مراتب الارتياح، لأنه تحرّر من الأشياء، بعض الناس عمره ثمانون سنة ويدخل في عراك ومشادات مع الآخرين من أجل مليون دينار أو على 100000 أو 50000 ألف دينار، ويقطع الرحم، ويقطع صداقته مع الآخرين بسبب طمعه بالأموال القليلة أو الكثيرة، هذا الحرص على الدنيا يجعله بائسا في حياته لأن الماديات أصبحت محورا في حياته.

أما الإنسان الزاهد فإن هذه الأموال لا قيمة لها عنده، فتراه مرتاحا، متحررا من عبودية الأشياء، فيحقق الراحة العظمى، لذلك فإن قول الإمام علي (عليه السلام) يؤكد لنا بأن الرغبة في تملك الأشياء تعب لا ينتهي، لأن الأشياء لا تنتهي ولا تشبع الإنسان، بل الأشياء تهلك الإنسان عندما تتعبه وتُشقيه.

رغبة تملك الأشياء تعب لا ينتهي

عن الإمام علي (عليه السلام): (وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ)(10)، والنصب هو التعب الشديد، فعندما تكون لديك رغبة فإنها تفتح لك أبواب التعب والشقاء، هذه الرغبة والتلهّف لتملك الأشياء مشكلة، لأن الرغبة نابعة من الشهوات والأهواء، وحب تملّك الأشياء، فهذه الرغبة تفتح أبواب التعب للإنسان والشقاء.

لذلك إذا كان لابد للإنسان أن يبحث عن الراحة، فهل الأشياء هي التي تحقق له الراحة؟، بعض الناس يعيشون في قصور فخمة جدا، ولكنهم تعساء ومتعبون نفسيا، وبعض الناس يعيشون في غرفة واحدة ولكنهم سعداء ومرتاحون نفسيا. 

هذا هو الفرق في الرؤية للأشياء، الزهد يمنحك الرؤية عبر فهم عالم الأشياء، ويجعلك متحكما بها وليست متحكمة بك، وبعضهم حتى لو امتلك الأشياء، فربما يمتلك أحدهم أشياء كثيرة ولكنها لا قيمة لها عنده، كما كان الأمر مع الإمام علي (عليه السلام) فلا قيمة للأشياء عنده لأن الإنسان أسمى من أن يكون عبدا لهذه الأشياء.

(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (عليه السلام) وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلً)(11).

البساطة في الحياة راحة

لذا يرتاح الإنسان في عملية بناء الزهد وسلوك الزهد، فإذا استمر في عملية بناء الزهد، وعملية ممارسة الزهد فإنه يحقق الراحة التي ينشدها في حياته، ويتخلص من حالة التعب النفسي والروحي الذي تتسبب به الأشياء، وكذلك التعب الذي يتولد عند الإنسان نتيجة لعدم شعوره بالاستقلال، لكن البساطة في الحياة تفتح له آفاق السعادة، وأبواب الراحة. 

بالنتيجة سوف يحصل على كل شيء في الحياة، يفهم لذات الحياة ويستذوقها، ويعيش البساطة في الحياة نتيجة لممارسة الزهد، ويتخلص من تعقيدات الحياة اليومية التي تتسبب بالأزمات والمشكلات.

عن الإمام علي (عليه السلام): (من زهد في الدنيا لم تفته، من رغب فيها أتعبته وأشقته)(12)، فلا نتصور أن الإنسان الذي يزهد في الدنيا سوف يخسرها، كلا، بل يعيش الدنيا في مفهوم آخر، أشمل وأعم وأكثر لذة وسعادة وراحة في الحياة، ولكن الإنسان الراغب في الدنيا ورغب في تملك الأشياء، فسوف يشعر هذا الإنسان الذي ينظر للحياة من خلال هذا المنظور الضيّق المادي البحت للأشياء، بالإرهاق ويكون متعبا شقيا دائما ولا يشعر بالراحة.

سادسا- الأشياء تؤدي الى الجزع:

النقطة الأخيرة في كيفية أن التعلق بالأشياء يؤدي إلى ضياع الأهداف في الحياة، وأن الزهد هو الذي يحقق هذه الأهداف هي: أن الأشياء تؤدي إلى جزع الإنسان، وإلى عدم استدامة حياة الإنسان واستمرارها، وخسارة الإنسان، فالحياة التي يعيشها الإنسان إما أن تكون رابحة أو خاسرة، فكيف يربح الإنسان الحياة؟

يربح الإنسان الحياة من خلال العملية المادية أم من خلال العملية المعنوية، والسؤال هل الإنسان كائن مادي أم كائن معنوي؟، فإذا كان كائنا ماديا كما ذكرنا سابقا فسوف يكون شبيها بالأشياء، ولا يوجد فرق بينه وبين الجماد، بينه وبين السيارة، بينه وبين الموبايل، ولكن هو كائن معنوي له عقل يستخدم هذه الأشياء، فإذا أراد أن يربح فلابد أن يكون متحكما بهذه الأشياء، ولكن إذا أصبحت هذه الأشياء متحكمة به، يصبح عبدا لها ويكون جزوعا، والجزع هو أسوأ أنواع التعاسة، والجزع يكون في مقابل الصبر. 

الصبر مرتبة تؤدي بالإنسان إلى الزهد، والزهد يؤدي إلى اليقين، هذه مراتب تتضمنها التربية الذاتية والروحية والمعنوية للإنسان، فالإنسان الصبور يصبح نتيجة لممارسة الصبر والتصبر زاهدا في الحياة، والزهد يعطي للإنسان اليقين والراحة، والربح للحياة حيث يستطيع الإنسان أن يدرك الحياة وينظر لها.

النظر إلى الأشياء من خارجها

على سبيل المثال لو أنك موجود الآن في مكان ما وتنظر إلى منظر طبيعي، فإذا كنت داخلا في وسط المنظر فيمكن أن تحصل على رؤية قصيرة لهذا المنظر، ولكن لو أنك ذهبت إلى مكان أعلى وأبعد وأشمل وتنظر إلى هذا المنظر الطبيعي فإن منظورك له سوف يكون أجمل وأحلى وأكمل، وسوف تكون أكثر فهما للجمال.

كذلك بعض الناس الذين يقبعون في الماديات، ويسكنون في وسط الماديات، فإنهم لا يفهمون معنى هذه الماديات، لكن الإنسان الذي يخرج من الحالة المادية وينظر إلى الماديات من الخارج ومن الأعلى وضمن المفهوم الأشمل، سيكون أقدر على أن يفهم لذة هذه الماديات، وجمالها ومعناها في الحياة فيربح الحياة.

مثال على ذلك ذكرنا سابقا حول مفهوم الاستهلاك أن الذي يأكل كثيرا يفقد لذة الطعام، أما الذي يأكل قليلا وبحسب حاجته فإنه يعرف ويستذوق معنى لذة الطعام، هذا هو الفرق بين المنظورين، فالزهد يوفر معنى اليقين للإنسان، ومعنى الربح والاستقرار والاستدامة والحياة المستمرة.

فهؤلاء الذين يعيشون حالة من المادية ويقبعون في وسط الماديات، دائما يشعر بأنه في خسارة، ولا يشعر بأنه يربح أو سيربح، لأنه لا يمتلك الاستدامة في حياته، كونها منقطعة ومتقطعة، ولا يعرف ماذا يريد، لأن الماديات لا تُشبِع الإنسان، ولا تعطيه اللذة الحقيقية عندما يكون غارقا في هذه الماديات، ومستغرقا في هذه الأشياء فتراه دائما منقطعا متقطعا ويشعر بالخسارة بشكل مستمر. (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النحل117. وعن الامام علي (عليه السلام): (الدنيا سوق الخسران)(13).

الخروج من التعاسة والشك والقلق

أما الإنسان الأشمل الذي يخرج من حالة الأشياء ويتحكم بها ويخرج من الحالة المادية، فإنه يشعر بالراحة في حياته، وفي استدامة معنوية وروحية، وهذه الاستدامة تجعله يشعر بالربح دائما، ويدرك معنى البقاء (مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) النساء 77، أما من يعاني من التقطع في الحياة فلأنه غارق في المال والبنين والشهوات واللذات الوقتية.

وعنه (عليه السلام): (فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا وَلَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَلَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ وَإِنَّ زِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ)(14).

لذلك فإن الاستدامة والشعور بالبقاء عملية تأتي من خلال مفهوم الزهد الذي يعطي للإنسان اليقين ويخرجه من التعاسة والشك والقلق. 

عن الإمام علي (عليه السلام): (زهد المرء فيما يفنى على قدر يقينه بما يبقى)(15)، فالإنسان الذي يعرف معنى الفناء والبقاء، ومعنى الانقطاع والاستدامة، فهو يزهد لأنه يعرف معنى الأشياء، وعدم استدامتها وعدم بقائها، وسوف يتولد عنده يقين بمعنى البقاء. فما هو معنى البقاء؟

البقاء الحقيقي هو العمل الصالح

إنه يصبح يقينا عندما يعرف أن البقاء الحقيقي هو في العمل الصالح، وهو رضا الله سبحانه وتعالى والتسليم لله سبحانه وتعالى، فيكون عنده يقين، استدامة، استقامة في حياته، لذلك فإن اليقين مهم جدا، لأنه يُخرج الإنسان من حالة التشتت، والتشوش، والقلق، والجزع والتعاسة.

اليقين هو السعادة وثمرته السعادة، فالزهد يؤدي إلى اليقين واليقين يؤدي إلى السعادة، فلذلك فإن الإنسان عندما يزهد في الأشياء الفانية، يحصل على اليقين في الأشياء الباقية، في الأشياء التي تقوده نحو الخير، والأشياء الباقية هو العمل الصالح الذي يعني نفع الناس وقضاء حوائجهم واحترامهم وأداء حقوقهم، وشكر النعمة وأداء حقوق الله تعالى.

وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة اليقين يكون شاكرا لله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى العبودية الحقيقية لله سبحانه وتعالى، فالزهد هو بالنتيجة شكر لله تعالى، والذي يصل الى معنى الشكر الحقيقي لله سبحانه وتعالى فقد نال كل شيء، ونال البقاء الحقيقي في الحياة. فلذلك نحن عندما نمارس الزهد سوف ننتقل منه إلى اليقين، ومن اليقين ننتقل إلى شكر الله سبحانه وتعالى. 

* انتهت سلسلة مقالات: مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (عليه السلام).

.........................................

(1) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 23.

(2) أفاد بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أن حالات التخلف عن السداد في بطاقات الائتمان ارتفعت بأكثر من 50% في عام 2023 مع تضخم إجمالي ديون المستهلكين إلى 17.5 تريليون دولار. وانتقلت ديون بطاقات الائتمان إلى جنوح خطير 6.4% في الربع الرابع، بزيادة 59% من ما يزيد قليلاً على 4% في نهاية عام 2022.

وارتفعت ديون الأسر بمقدار 212 مليار دولار في الربع الرابع، بزيادة 1.2% على أساس ربع سنوي ونحو 3.6% عن العام الماضي. وقفزت ديون بطاقات الائتمان بنسبة 14.5% مقارنة بنفس الفترة من عام 2022، حيث ارتفعت ديون بطاقات الائتمان 50 مليار دولار إلى 1.13 تريليون دولار. 

وزادت ديون السيارات إلى 1.61 تريليون دولار، بزيادة 12 مليار دولار على أساس ربع سنوي و55 مليار دولار سنوياً، أو 3.5%. وارتفعت ديون الرهن العقاري إلى 12.25 تريليون ديون الرهن العقاري بزيادة 112 مليار دولار، حيث ارتفعت ديون الرهن العقاري بنسبة 2.8% في عام 2023، بينما ارتفع معدل التأخر في السداد إلى 0.82%، بزيادة ربع نقطة مئوية عن العام السابق. 

وأفاد مكتب مسؤولية الميزانية (OBR) أن ديون الأسر في المملكة المتحدة سترتفع من المستوى الحالي البالغ 73 مليار جنيه إسترليني (92 مليار دولار) إلى 190 مليار دولار في عام 2026. وتعني الزيادة أن متوسط عبء الديون لكل أسرة سيرتفع إلى ما يعادل حوالي 6700 دولار.

ووصل حجم الديون المستحقة على الأسر في كوريا الجنوبية إلى مستوى قياسي جديد بلغ ألفا و886.4 تريليون وون، أي حوالي 1.41 تريليون دولار أمريكي، حتى نهاية ديسمبر 2023، بزيادة مقدارها ثمانية تريليونات وون مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة أشهر.

(3) قال الأمين العام للأمم المتحدة إن نصف البشرية يعيشون في بلدان مجبرة على الإنفاق على خدمة الدين أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم وهو ما يجعل نصف العالم "يغرق في كارثة تنموية". وحذر من أن 3.3 مليار شخص في العالم يعانون بسبب وضع حكومات بلدانهم سداد فوائد الدين كأولوية بدلا من الاستثمارات الأساسية في أهـداف التنمية المستدامة أو التحول في مجال الطاقة. وتعاني 52 دولة- أي ما يعادل 40 في المائة من الدول النامية في العالم- من مشكلة دين خطيرة. فقد وصل الدين العام في العام الماضي إلى رقم قياسي بلغ 92 تريليون دولار، تتحمل منه الدول النامية 30 في المائة، وهو عبء غير متساوٍ. وأشار الأمين العام إلى اعتماد الدول الفقيرة بشكل متزايد على دائنين من القطاع الخاص يفرضون معدلات فائدة عالية للغاية، وأن هذه الدول تجد نفسها مضطرة للاقتراض من أجل بقائها الاقتصادي. وقال إن الدين تحول من أداة مالية مهمة "إلى فخ يخلق المزيد من الديون".

وقال البنك الدولي إن البلدان النامية أنفقت مستوى قياسيًا بلغ 443.5 مليار دولار لخدمة ديونها العامة الخارجية والمضمونة من الحكومة في عام 2022، وذلك في خضم أكبر قفزة تشهدها أسعار الفائدة العالمية على مدى أربعة عقود. وأضاف أن ارتفاع تكاليف هذه الديون أدى إلى تحويل الموارد الشحيحة بعيدًا عن الاحتياجات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبيئة.

(4) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 439.

(5) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٠٨.

(6) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 4.

(7) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٦٢.

(8) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 31. وهي من وصية له للحسن بن علي (عليهما السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

(9) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٧.

(10) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 371.

(11) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 33.

(12) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٥٦.

(13) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ١٨.

(14) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 99.

(15) غُرَرُ الحِكم ودُرَرُ الكلِم، الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، الحديث رقم: 2678.

اضف تعليق


التعليقات

علي احمد
العراق
هل يمكن فعلا تطبيق هذه النظرية مع غرق البشر في الاستهلاك والاقتناء، واذا لم يمكن فما هي الجدوى؟2024-04-15