قوة الحضارات وانتصارها نابعة بالدرجة الأولى من قدرتها الشمولية على تحقيق عناصر القوة والتفوق، واليوم فان من يحتل برج المعلوماتية هو من يسيطر على وسائلها ويصنع من خلالها الافكار ويبرمج البشر في ضوء اهدافه ومخططاته. فقد انتهت وسائل العصور الغابرة وحلت التكنولوجيا الخارقة التي ابهرت...

تشكل وسائل المعلوماتية وتطورها نقطة انطلاق مهمة في نمو الثقافات وتموجها الواسع حتى أصبح التداخل الثقافي والحضاري سمة مهمة في العصر الحالي، هذا التداخل يمكن ان يؤدي بالنتيجة إلى عملية ذوبان بالنسبة للطرف الأضعف أو تسلط واستغلال بالنسبة إلى الطرف الأقوى أو صراع عندما تحدث مواجهة وتصادم في بعض المواقع عندما يشعر الطرف الأضعف بفقدانه لخصائص ثقافته أو قوميته أو دينه. ذلك أن التثاقف يجري بين الثقافات على قاعدة الندية وهو ما يمتنع دون اعتبار أي ثقافة لشخصيتها وحرمتها الرمزية فيما لا يعبر فعل الاختراق والتجاوب معه سوى عن دونية يأباها أي انفتاح أو حوار! هذا درس بدائي من دروس الانثربولوجيا الثقافية المعاصرة.(1)

وقد اصبح من يمتلك هذه الوسائل له القدرة على تسويق ثقافته وقيمه وفرضها على الآخرين عبر غسل الأدمغة الأثيري وبالتالي إمرار أهدافه وبيع بضائعه، وكلما قويت مواقع الحرب المعلوماتية قويت سلطات السيطرة من خلال حرب لا يستخدم فيها السلاح ولا يجري فيها الدم ولايمكن رؤيتها لأنها تحدث في عالم الأثير الفضائي وهي بحد ذاتها يعتبرها البعض من أسوأ الحروب باعتبارها تمس عقول البشر وتنتهك افكارهم وخصوصياتهم. ومن هنا يرى ان العولمة في مفهومها ليست سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال، وهي التتويج التاريخي لتجربة مديدة من السيطرة بدأت من انطلاق عمليات الغزو الاستعماري منذ قرون وحققت نجاحات كبيرة في إلحاق التصفية والمسخ بثقافات جنوبية عديدة وبخاصة في أفريقيا وامريكا الشمالية والوسطى والجنوبية.(2)

ولا يمكن الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين ورفع مسؤولياتنا في هذا الصراع اذ ان التاريخ البشري كان منذ بدئه صراعاً حاداً يسيطر فيه من يمتلك القوة والإمكانات لانتصاره على الآخرين، فالشعوب الضعيفة مهما كانت مبادئها سامية لاتكون قادرة على الدفاع عن نفسها وتحصين ذاتها ما لم تملك الامكانات الذاتية لقيمومتها وقوتها وهذه هي سنة التاريخ وقانون البقاء، يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال 60.

ويمكن ان تكون قوة الحضارات وانتصارها نابعة بالدرجة الأولى من قدرتها الشمولية على تحقيق عناصر القوة والتفوق، واليوم فان من يحتل برج المعلوماتية هو من يسيطر على وسائلها ويصنع من خلالها الافكار ويبرمج البشر في ضوء اهدافه ومخططاته. فقد انتهت وسائل العصور الغابرة وحلت التكنولوجيا الخارقة التي ابهرت البشر بتقنيتها وخدعها البصرية الخلابة، فمهما تتعاظم القيم وتسمو المبادئ فانها تبقى غير فعالة ما لم يمتلك اصحابها وسائل بثها ونشرها، ففي عصر الرقمية Digital وبينما ننتقل بسرعة كبيرة نحو الوسائط المتعددة العالمية والمتفاعلة والشركات المدمجة العملاقة تتنافس بشراسة من سيستغل بأسرع ما يمكن تقنيات الاتصالات المستقبلية والحال ان دعاة السلام مازالوا في عصر الموجات الصغيرة.(3)

ومن خلال حساب الارقام والإحداثيات يمكن ان نكتشف موقعنا الاضعف في هذه الحرب المعلوماتية وعدم وجود استعداد كاف لمواجهة هذه التحولات الجديدة نتيجة لعدم وجود الروح الواعية والبصيرة بهذه الحقائق والمدركة لخطورتها. فاليوم تسيطر وسائل المعلوماتية الغربية على مجمل النشاط المعرفي والاقتصادي في بلداننا حيث نستورد منهم كافة الأدوات التكنولوجية ونستقي من خلال اقنيتهم معظم مواردنا الفكرية والثقافية والخبرية، فعلى سبيل المثال فان الشركات المتعددة الجنسيات يبرز دورها الخطير من خلال الإعلانات التي تتضمن محتوياتها قيما وأنماطا للسلوك الاستهلاكي تهدف في الأساس إلى إلحاق الضرر بالاقتصاديات الوطنية فمن المعروف ان هناك 52 وكالة اعلان دولية منها 22 وكالة أمريكية لها مايزيد عن 800 توكيل في العالم العربي وتحقق عدة اهداف في وقت واحد تتمثل في ترويج بضاعتها ونقل القيم والثقافة الأجنبية والتأثير على حرية الرأي في وسائل الإعلام العربية.(4)

فنحن لا نمثل في البين تحدياً واقعياً للصراع الثقافي العالمي ان لم نكن جسرا لعبور أفكار الاستهلاك والإباحية والانحلال لأننا بالضبط نستهلك أدواتهم ونسوق لثقافاتهم ونجتر أفكارهم ونقدم لأطفالنا وشبابنا إنتاجياتهم الثقافية لينمون وهم نسخ مقلدة من الصناعة الغربية، وفي ذلك تؤكد أرقام اليونسكو ان المحطات التلفزيونية في البلدان النامية تستورد اكثر من 50% مما تقدمه وان اكثر من 75% من هذه الـــمادة المستوردة من منشأ امريكي وهذه المواد اما ان تكون هابطة او منتجـــة خصيصا للبـــلدان النامية.(5)

وكذلك يمكن ان نرى مقياس الثقافة من خلال ما نمتلكه من صحف ومجلات، فحصة العرب من الصحف على سبيل المثال لا تتجاوز نسبة 4ر1% من صحف العالم مع ان عدد السكان العرب يشكلون 17% من عدد سكان الكرة الأرضية حيث يحصل كل 1000 عربي على اقل من 39 صحيفة بينما يحصل كل 1000 شخص في الدول المتقدمة على 330 صحيفة، أما حصة العرب من مواد الطباعة فتشكل 6ر0% ومن الأفلام 8ر1% ومن مقاعد السينما 4 مقاعد فقط لكل ألف، والمذياع 8ر2%، والتلفزة 7ر2%، بينما يبلغ مجموع الصحف العربية الصادرة 130 صحيفة من اصل 9220 في العالم.(6)

وبالنظر إلى مواقعهم نكتشف حقيقة ضعفنا ومسئوليتنا عن تلك الترديات والانسلاخات التي تحدث يوما بعد يوم في أسسنا الثقافية اذ يزداد التآكل في عقول الشباب لتمتلئ بالتفاهات التي تقودهم نحو الميوعة واللامبالاة في زمن اختفى فيه معنى المسؤولية.

ذلك ان الغرب بقدرة وسائله استطاع ان يغزو العقول ويسحق القيم ويؤسس في أعماق مناطقنا ثغرات يبني فيها اوكاره. والارقام تؤكد يوما بعد يوم تطورهم في استخدام وسائل المعلوماتية التي أصبحت مصدرا استراتيجيا في تحقيق القوة وبناء موازين القوى، ففي عام 1991 بلغت صادرات بريطانيا من المواد الثقافية (كتب ومجلات وافلام وبرامج تلفزيون) 25 مليار دولار الأمر الذي جعل تصدير الثقافة يحتل المصدر الثاني في الدخل القومي بعد السياحة، وبلغت صادرات الولايات المتحدة في العام نفسه من المواد الثقافية نحو 60 مليار دولار وهو رقم قريب جدا من صادرات السلاح.(7)

وكذلك تحكم الدول الغربية بمصادر بث الأخبار يعطيها القدرة على صناعة الأحداث وتضخيم او تصغير الحدث حسب مصالحهم وبالتالي سيطرتهم على مواقع الأحداث وهذا لاشك يعطيهم ميزة التفوق باستمرار وبالتالي السيطرة على موازين القوى، ويمكن ان نلاحظ ان وكالات الأنباء الأربع الكبرى - رويتر والفرنسية والاسوشيتدبرس واليونايتدبرس- في العالم تحتكر 90% من الأخبار العالمية وهذه الوكالات لها مصادر وشبكات هائلة من بنوك المعلومات والتمويل المادي الهائل في عصر التقدم التقني.(8)

ولاشك فان الولايات المتحدة تشكل القوة الأولى في تصدير الثقافة والمعرفة وبالتالي فهي تحتل موقع القمة في الهرم العالمي من حيث موارد المعرفة استراتيجيا، وبهذا فهي قادرة على توجيه الرأي العام العالمي نحو قيمها والتأثير على توجهاتها لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، اذ وجدت الولايات المتحدة نفسها بانها القوة الاقتصادية الوحيدة التي تتوافر لديها صناعة ثقافية للشبان قادرة على التصدير الفوري فصارت تسيطر دون منازع على أسواق الاستهلاك الثقافي للشباب في العالم، وتأثيرها في ثقافة الشباب سيكون له اثر مستقبلي قوي اذ ان شبان اليوم هم نخبة المستقبل ووصول أمريكا إليهم في عمر الشباب يعطيهم أفضلية في التأثير فيهم عندما يصبحون راشدين ويافعين في مجتمعاتهم واقتصادياتهم.

وكذلك فإننا نجد ان في الولايات المتحدة اكثر من 20 ألف جامعة ومعهد أصبحت في وضع قيادي دون منازع، فهيمنة الجامعات الأمريكية وانفتاحها أمام الطلاب الأجانب يعني اعدادا متزايدة من النخب في العالم تتخرج في الجامعات الامريكية حاملة معها اساليب ثقافة وطرائق تفكير وسلوكيات اقتبستها خلال سنوات الدراسة الجامعية وبما ان هؤلاء القادة يعودون الى بلدانهم واكثرهم يصبحون قادة فان قدرتهم واسعة في التأثير على مجتمعاتهم.(9)

لقد اصبحوا يحتلون مواقعنا بعد ان أصبحت خاوية ولم نتحمل مسؤولياتنا في الاستجابة للتحديات والتغيرات التي تحصل في العالم يوما بعد يوم ولاشك فان الموقع الذي يصبح راكدا لا يتطور مع تغير الظروف والزمان يصبح آسنا كالمستنقعات تملأه الأوبئة وتحتله القوارض والطفيليات. وهذا هو أساس مشكلتنا إننا لا نعطي آذانا صاغية للواقع الخارجي ونغلق على أنفسنا الأبواب وكأن النار سوف لا تمسنا من بعيد او قريب. والحال ان تغير الظروف وتطور الحياة يفرضان علينا دراسة الأمور بعمق وواقعية لضمان الحفاظ على مواقعنا الداخلية والخارجية كما فعلت اليابان وتفعل اليوم اذ تحاول ان تطور نفسها وتحافظ على كيانها في الوجود العالمي مستقلة قوية تملك الامكانات الذاتية لمواجهة اعاصير المعلوماتية عبر مجاراة التطور العالمي في ثورة المعلوماتية وهاهي اليابان وحدها ترصد 450 ملياراً من الدولارات لإنشاء طرق معلومات فائقة السرعة من الألياف على مستوى الدولة.(10)

انهم يطورون مواقعهم ويتقدمون ونحن لانفكر في ذلك ابدا فكيف يمكن ان نواجه هذه الثورة الجديدة ونحن نخسر تحدياتنا الداخلية ونتقهقر إلى الماضي راسمين لأجيالنا صورة قاتمة من التبعية والهامشية. فالدول النامية ستهبط إلى مجال التهميش والعزلة مما يعرضها لمخاطر الاستبعاد لأنها غالبا تفتقر إلى الامكانات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعلها قادرة على الاستفادة من التكنولوجيات الجديدة، ولو حاولت الدول النامية اللحاق بالدول المتقدمة في هذا المجال فإنها ستلحق في الواقع بالماضي لان الدول المتقدمة ستكون قد غادرت مواقعها لآفاق تقدم جديدة.(11)

ذلك انهم يواكبون التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم ويحاولون ان يسبقوا الاخرين ويتجازوا الحاضر ليغادروا الى المستقبل، ومواقعنا تنبئنا باننا نعيش على ما يخلفه الاخرون من منتوجات مستهلكة وقديمة لنبقى نعيش في الماضي معتمدين على وسائلهم القديمة والمتخلفة، وحرب الخليج الثانية كانت دليلاً على مستوى المقارنة المعلوماتية والتكنولوجية.

ان الفرق بيننا وبينهم يمكن ان يحدد في ان مصادر التكنولوجيا التي هي من نتاجهم هي في الواقع مصادر موجهة نحو إنتاج وسائل التغيير المستمر، في حين انها في مجتمعاتنا مصادر لضمان استقرارها واوضاعها القائمة، فالتغيير بالنسبة لهم يعني المستقبل المصحوب بمزيد من التمكين والقوة في حين ان المستقبل يحمل لنا الكثير من المخاوف لاننا ببساطة غير فاعلين في صنعه أو انه قد صنع لمصلحة الآخر.(12)

نعم اذا لم نستجب لتحدياتنا ونغير واقعنا ونبقى على واقعنا المتخلف يمكن ان تنعم الدول المتقدمة علينا ببعض تكنولوجيتها من اجل تحقيق بعض مصالحها الاقتصادية والسياسية او للحفاظ على التوازن العالمي. ترى الدكتورة الن ويتني مديرة Micro information systems inc: ان سهولة الوصول للمعلومات والى وسائل الاتصالات هو شرط مسبق للتطور الاقتصادي فالبؤس لا يعيش في وفاق مع السلام لقد اقترحت استخدام جيشنا قوة الثورة الرقمية لنقل ما امكن من المعلومات والمعلوماتية إلى باقي العالم حتى تستطيع الدول النامية ان تصبح جزءا من المجتمع العالمي ويجب علينا استخدام هذه المعرفة لنقل الرفاهية إلى باقي العالم قبل ان يتحول كل سكانه إلى مهاجرين ولاجئين أو معالين بواسطة الغرب.(13)

وعندما نصبح لاجئين متكئين على تكنولوجيا الغرب وما يقدمونه لنا من صدقات وهبات تصبح التبعية التامة في اكثر مصاديقها تحققا وهو يعني ان نصبح إحدى ولايات الولايات المتحدة فهل هو هذا التغيير الذي نصبو إليه..؟؟

* مقتطف من مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 52-رمضان 1421/ كانون الاول 2000-تحت عنوان: المعلوماتية وآليات الاستيعاب

........................................
- الإحصاءات الواردة في المقال ترتبط بتاريخ سنة 2000م
1- العرب والعولمة، ص 318.
2- المصدر السابق.
3- اشكال الصراعات المقبلة، الفين توفلر، ص 351.
4- النهج، العدد50، ص 84.
5- الاعلام العربي وتحديات العولمة، تركي صقر، ص35.
6- الاعلام العربي وتحديات العولمة، ص 134.
7- الاعلام العربي وتحديات العولمة، ص35.
8- الاعلام العربي وتحديات العولمة، ص 134.
9- العرب والعولمة، ص 222.
10- ثورة الانفوميديا، فرانك كيلش، ص492.
11- صحيفة القبس، العدد 9490.
12- النهج، مصدر سابق.
13- اشكال الصراعات المقبلة، الفين توفلر، ص353.

اضف تعليق