q
الامام الحجة المنتظر يحتاج الى الطليعة الواعية في الأمة التي تتحمل مسؤولية التغيير الحقيقي، وقبلها تكون متسلحة بالوعي والثقافة المهدوية، فهو يحتاج للقوة التي تحرس شخصيته وتعاليمه ومهمته، والانتظار فيه تحضير للقوة، هذه الشريحة المثقفة هي التي تمهّد للظهور بين أوساط الأمة بنشر ثقافة الانتظار بالعمل للإصلاح والبناء على أسس قيمية...

"أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج".

رسول الله، صلى الله عليه وأله

عندما أتأمّل واقع الأمة بشكل عام، وواقع بلدي (العراق) بشكل خاص أرى تشابهاً في علل الازمات والمعاناة منذ أول انحراف جرّبته الأمة و تبنيها الضَلال الذي حذر منه النبي الأكرم في حديث الثقلين، وحتى اليوم، إنما الفارق في ظواهر الحياة لا أكثر، فالاحتكام الى قوة السلاح والمال، بدلاً من القرآن الكريم وقيم السماء، والترحيب بالظلم والجور، وطرد العدل والمساواة من الحياة، رغم ما سمعوه من أمير المؤمنين: "من ضاق عليه العدل فان الجور عليه أضيق"، مع طائفة من الصفات الذميمة كالجبن، والكِبر، والأنانية، والازدواجية، كلها مجتمعة كانت في صدر الإسلام، كما هي اليوم متجسدة في واقعنا الاجتماعي والسياسي بنسبة كبيرة –حتى لا يكون الحكم مطلقاً-، فالانسان هو نفس الانسان، بتركيبته الفسيولوجية والنفسية، إنما اليوم اصبح يتنقل بين آفاق الأرض خلال ساعات معدودة، ويطّلع على ما يجري في الشرق والغرب بالبث المباشر، وينجز مختلف الاعمال الكبرى في أوقات قصيرة، ويتمتع بأفضل وسائل العيش والرفاهية.

هذا الانسان يشترك مع أخيه انسان ما قبل حوالي أربعة عشر قرناً في الرغبة بالخلاص والنجاة مما يحتوشه من مكاره الحياة، لاسيما ما يأتي من الحاكم الظالم، فقراً، وتعسفاً، وقتلاً، ومصادرة للحريات والكرامة، و أرى إن انسان ذلك اليوم، لاسيما في عهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، أحقّ بالدعاء للفرج للخلاص مما كان يلاقيه من ضرب الرقاب بالجملة، والموت في مطامير السجون، والمطاردة، لانهم لم يكن يمتلكون ما نمتلكه اليوم من امكانات وبدائل، وعلاوة على هذا الافتقار، كانوا يواجهون أنظمة حكم ترتدي عباءة الخلافة والامتداد لحكم رسول الله، وهو الرداء الواقي من أي تهديد بالسقوط، نعم؛ حدثت ثورات بالجملة في العهدين الأموي والعباسي، ولكن لم تتمكن ثورة واحدة من الإطاحة بـ "خليفة"، فكان يتم قمعها بسهولة أمام أنظار افراد الأمة، فيما يذهب ضحاياها شهداء الى رب غفور رحيم.

الطليعة الممهدة

من العجيب حقاً أن لا تفهم الأمة الدرس طيلة حوالي قرنين من الزمن حتى عهد الامام الحسن العسكري الذي عاش عتقلاً في معسكر، ومات مسموماً داخل هذا المعسكر، ثم كان مدفنه فيه، أي لم يمت في بيته كما سائر الأئمة المعصومين، وعامة الناس، ثم ولد الإمام الثاني عشر، والوصي الخاتم، عجل الله فرجه، في ظروف عصيبة كهذه، والأمة مستمرة بمتابعة الاخبار، وتطورات الصراع بين الحكام و المعارضة، وحتى نهاية فترة انتهاء الغيبة الصغرى، وبدء الغيبة الكبرى، مع بلوغ الأمام الحجة المنتظر سن الشباب، والناس يواكبون الظلم والحرمان والتعسف من حكام الدولة العباسية، والمسيرة متواصلة حتى اليوم مع استمرار الدعاء بالفرج والخلاص دون جدوى.

بين الأئمة المعصومون، عليهم السلام، لافراد الأمة ممن كن يصغي للكلام، طرق الخلاص من الازمات، كما بيّن النبي الأكرم الطريق الموازي لطريق الازمات والفتن في حديث الثقلين، وذلك من خلال الاجتهاد في طلب العلم، والجدّ في العمل، والاحتكام الى القيم الأخلاقية والدينية في الحياة ليكونوا لهم دروعاً حصينة من اختراق أي حاكم ظالم لكيانهم الاجتماعي ثم التسلّط عليهم بسهولة.

ومن أروع تلك الطرق؛ الانتظار بالعمل، "افضل أعمال أمتي انتظار الفرج"، قالها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في وقت لم يجرّب المسلمون في المدينة ومكة وبعض الامصار، الأزمات والفجائع التي تجرعها المسلمون في القرون المتعاقبة، وما نعيشه اليوم، فقد سبق العمل الانتظار، بمعنى الدعوة للتحرك والتخطيط والاعداد لمرحلة الإنقاذ الكبرى، ومن ثم الانتصار على من نعدهم مصدراً للظلم والباطل، ونلمس بكل حواسنا مصداق الآية الكريمة: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}، فهل يتحقق هذا المصداق بالمجان؟ أم بتغييرات في السلوك والتفكير، وفي البدء؛ مكافحة الظلم في العلاقات الاجتماعية قبل التوجه باصابع الاتهام بعيداً الى الجهات السياسية، فكيف يخشى الحاكم الظالم الزوال وهو يجد أنه محاط بجمهور يظلم بعضه بعضاً، بدءاً من أفراد الأسرة، وحتى الأصدقاء والزملاء، ثم الدوائر الحكومية والأسواق، وكل مكان؟

إن قوة السلاح والمال لن تنقذ الشعوب من الظلم، مازالت هي تمارس الظلم من حيث لاتشعر، وإلا فإن أقوى رجل في تاريخ الإسلام لدينا هو؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، قلع باب خيبر العملاقة وألقاها جانباً، وعجز العشرات من الرجال فيما بعد ان يزحزحوها من مكانها، بيد أن هذا الإمام البطل لم يتمكن أن يدفع عن نفسه شرذمة من طلاب السلطة وهم يقتادوه الى المسجد مقيداً بحمائل سيفه، لأن القضية لا تنتهي بقتل هذا او ذاك، حتى وإن قتل جميع من كانوا حوله آنذاك، فان الأمة تبقى على ضلالها الذي حذرها منه نبيها الأكرم، لأن الناس حينها كانوا سماطين على طول الطريق يتفرجون على من بايعوه يوم الغدير بالخلافة والولاية، وتكرر الأمر مع ابنيه؛ الامامين الحسن والحسين، عليهما السلام، وايضاً مع سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام.

فالامام الحجة المنتظر يحتاج الى الطليعة الواعية في الأمة التي تتحمل مسؤولية التغيير الحقيقي، وقبلها تكون متسلحة بالوعي والثقافة المهدوية، فهو "يحتاج للقوة التي تحرس شخصيته وتعاليمه ومهمته، والانتظار فيه تحضير للقوة". (سيرة أهل البيت تجليات للإنسانية- الدكتور حسن عباس نصر الله).

هذه الشريحة المثقفة هي التي تمهّد للظهور بين أوساط الأمة بنشر ثقافة الانتظار بالعمل للإصلاح والبناء على أسس قيمية، ولو أن الامر ليس بالسهل، بيد أن استذكار الألم والمعاناة الموجودة يجعل الأمر يستحق العناء، والتذكير بأن كل خطوة نحو الظلم، سواءً بمجاراة الحاكم الظالم، او استمراء الممارسات التعسفية في العلاقات الاجتماعية، تمثل انحداراً عميقاً نحو مزيد من المعاناة في قادم الأيام، إن لم تكن لصاحب المنصب والامتياز والجاه، فانه سيلحق بالابناء والاحفاد كما أكد الزمان هذه الحقيقة.

اضف تعليق