إذا تحولت طريقة تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة الحالية، إلى قاعدة،
فعلى العراق السلام، إذ سنكون، وقتها، أمام كارثة حقيقية.
فهذه الطريقة التي اعتمدت الثالوث المشؤوم (المحاصصة والتوافق
والفيتو) تؤسس لتفتيت النسيج الاجتماعي العراقي المنسجم، منذ آلاف
السنين، وتزيد من قوة الانتماء العرقي والديني والطائفي، على حساب
الانتماء للوطن.
نعم، قد نقبلها كحل استثنائي لوضع استثنائي، من أجل أن نتجاوز به
مرحلة استثنائية، أما أن تتحول إلى قانون وقاعدة ودستور وطريقة عمل
ثابتة ونموذج يحتذى، يبنى عليه المستقبل، فهذا ما يلزم أن يرفضه كل
مواطن عراقي، حريص على العراق وشعبه.
حتى كحالة استثنائية، كان يمكن أن يتم الاعتماد على الفائزين
بالانتخابات، بالإضافة إلى من شارك فيها، وان لم يفز، لأن مجرد مشاركته
فيها، دليل على قبوله بقواعد اللعبة الديمقراطية، كما يقولون.
أما أن نتجاوزهم إلى من رفض الانتخابات، سواء من أيتام النظام
البائد، أو الإرهابيين، أو من يدعمونهم بالفتوى الطائفية والمال الحرام
والإعلام المضلل، وغير ذلك، من أجل ترضيتهم على حساب الدم العراقي
الطاهر الذي تحداهم أيما تحد، لإنجاح العملية السياسية، فهذا أمر غير
مقبول بتاتا.
إنها مكافأة خاطئة، في الوقت الخطأ، في المكان الخطأ، لجهات خطأ،
نتمنى أن يضع الدستور العراقي الدائم المرتقب، حدا لها، ليطمئن
العراقيون إلى أن عراقا جديدا قيد التأسيس والإنشاء، لا يقوم على أساس
المحاصصة، بكل أنواعها.
ليس بالضرورة أن يكون التوافق على حساب المبادئ والدم، إذ كان يمكن
تحقيقه تحت قبة البرلمان، التي تحتوي على كل أطياف المجتمع العراقي.
إن هذه الطريقة الخطيرة:
أولا ؛ تعرقل تقدم العملية السياسية، ولقد رأينا جميعا، كيف ولدت
الحكومة الحالية، بسبب اعتماد هذه الطريقة، بعملية قيصرية دامت ثلاثة
أشهر، كاد الجنين أن يموت في بطن أمه، لولا الإسعافات الطارئة التي
شملته في اللحظات الأخيرة.
أما في كردستان العراق، فلقد ظلت نفس الطريقة تعرقل التئام جمع أول
برلمان منتخب بعد سقوط الصنم، على مدة أربعة اشهر كاملة.
ثانيا ؛ إنها تشل فاعلية صندوق الاقتراع، بل قد تصيبه بالسكتة
القلبية، أو الدماغية، لا فرق، وتقضي عليه.
إن جوهر الديمقراطية، هو الإذعان لنتائج صندوق الاقتراع، أما جوهر
المحاصصة والتوافق والفيتو، فهو، تجاهل عدد الأصوات المشاركة في أية
انتخابات، وعدم الاكتراث بها، ما يعني، أنها تلغي صندوق الاقتراع، ولا
تعيره أية أهمية.
كذلك، فان جوهر الديمقراطية، هو نظرية الأكثرية والأقلية، أما
المحاصصة وأخواتها، فلا تعترف بهذه النظرية، لأنها في الأساس تلغي
صندوق الاقتراع الذي يحدد دون سواه، هذه الأكثرية أو تلك الأقلية، وهو
الأمر المعمول به في كل النظم الديمقراطية المتحضرة في العالم.
نعم، نحن نرفض الأكثرية والأقلية، المبنية على الأسس الطائفية أو
العرقية أو الدينية، ونتمنى أن نصل بالعراق إلى أكثرية وأقلية سياسية،
تبني أسسها على الهوية الوطنية فقط، ولكن هذا لا يبرر للمحاصصين حماسهم
أبدا.
والظريف في الأمر (أو قل، المضحك المبكي) هو أن أشد المتحمسين
للثالوث المشؤوم، يتنكر له وينقلب عليه، حال فوزه بأغلبية المقاعد في
أية انتخابات عامة أو محلية، كما هو الحال مثلا، ما نراه الآن في
كردستان العراق، أو في أي مجلس بلدي آخر في العراق، يكون الفائز فيه هو
أحد المتحمسين للثالوث المشؤوم، هذا يعني أن المحاصصين أنفسهم، يرفضون
الثالوث في قرارة أنفسهم، إلا أنهم يتوسلون به، ويلجأون إليه، كلما
فشلوا في حصد أغلبية المقاعد في هذه الانتخابات أو تلك، فهم مصداق
المثل العراقي المعروف الذي يقول (تريد أرنب، خذ أرنب، تريد غزال، خذ
أرنب).
على كل الفرقاء، أن يتركوا المراهنة على هذا الثالوث المدمر، ولابد
لهم من تحدي الضغوط الدولية والإقليمية التي تمارس ضدهم، والتي تشجع
على ذلك، فان من مصلحة العراق أن يتم اعتماد نتائج صندوق الاقتراع في
العملية السياسية وما يترتب عليها، مهما كانت، سواء وافقت الرغبات
الذاتية أم عارضتها، لنحترم رأي الشعب، ولا نستخف بعقول الناس، ولنتعلم
كيف نتحدث تحت قبة البرلمان، بعيدا عن بيوت الرفاق والغرف المظلمة
ووراء الأبواب المغلقة، ولنتعلم مناقشة كل شأن عام من فوق الطاولة،
وليس من تحتها.
إن الدول المتحضرة تحرص على مناقشة كل القضايا العامة، تحت قبة
البرلمان، لأن ذلك؛
أولا ؛ يعلم الزعماء، فن الحوار والنقاش بوضوح وصراحة وشفافية.
إن البرلمان، أكاديمية لتعليم فن الحوار والجدال بالتي هي أحسن، بين
الفرقاء.
ثانيا ؛ يذكر الزعماء، دائما، بالرقيب الحي (الشعب)، ما يجبرمتحدثهم
على استحضار المصلحة العامة، عندما يناقش أمرا من الأمور، دون كل
المصالح والاعتبارات الأخرى.
ثالثا ؛ كما أنها مدرسة كبيرة للشعب، الذي يتابع جلسات الزعماء على
الهواء مباشرة، فيشاركهم الحوار والنقاش وإبداء وجهات النظر، كما أنه،
بهذه الطريقة، يتعرف على زعمائه أكثر فأكثر، فيكتشف المخلص منهم من
الوصولي، والكفوء عن غيره، وصاحب الرأي والرؤية والنظرة العميقة للأمور،
عن السطحي خالي الوفاض من الفكر والرؤية، والمتحمس لتحقيق حاجات الناس،
عن اللص الذي يتخذ من السلطة، وسيلة للوصول إلى مآربه، والى الثراء
الفاحش من المال العام.
كما أنه، بذلك، سيطلع على تفاصيل الخطط والبرامج التي ستعتمد
كمشاريع عمل للنهوض بمستواه الحياتي، وعلى مختلف الأصعدة، وكيف تتبلور
هذه الخطط وتناقش المشاريع.
رابعا ؛ يرفع من مستوى الوعي السياسي العام، لدى الشعب، وهذا ما
يساهم، بشكل كبير، في ترسيخ مقومات النظام السياسي الديمقراطي.
ولهذا السبب، على وجه التحديد، تخشى الأنظمة الديكتاتورية الشمولية،
من تزايد الوعي السياسي لدى الناس، لان العلاقة بين الاستبداد والوعي
هي علاقة عكسية، فكلما زاد الوعي السياسي لدى المواطن، تقلصت حظوظ
النظام الاستبدادي بالاستمرار، والعكس هو الصحيح، فكلما تقلصت دائرة
الوعي السياسي لدى الشعب، تمدد النظام الشمولي وتجذرت أقدامه في الأرض،
ولهذا السبب يحرص الديكتاتور على السيطرة على حركة المعلومة، ويراقب
حوارات الناس بعضهم مع البعض الآخر، بل يعمد إلى مراقبة حتى حوار
المواطن مع نفسه، والتجسس على أحلامه في المنام، خشية أن يتساءل عما لا
يعنيه، أو ليس من اختصاصه، برأي النظام، كالميزانية العامة للبلاد،
مثلا، والتي ظلت سرية للغاية طوال حكم نظام الطاغية الذليل صدام حسين.
خامسا ؛ وتحت قبة البرلمان، نحقق مبدأ التداول السلمي للسلطة، بعيدا
عن لعبة الانقلابات العسكرية (السرقات المسلحة)، فلن يدبر أمر بليل،
أبدا، أما الثالوث المشؤوم، فهو قاب قوسين أو أدنى من خيوط المؤامرة،
وهو يشبه، إلى حد بعيد، لعبة الانقلابات العسكرية، ولكن بأقنعة جديدة،
وأدوات مختلفة، وشعارات أكثر بريقا وجاذبية، أما النتيجة، فواحدة، وهي،
في جوهرها، سحق إرادة الشعب، والتجاوز على صوت المواطن، والاستهانة
بخيارات الناس.
إذن، تحت قبة البرلمان، تكمن إرادة الشعب، ولذلك يجب أن ينبثق منها
كل شئ وينتهي إليها الأمر، لأنها مصدر الشرعية، ومأوى الرقابة
والمساءلة والمحاسبة.
يلزم أن يرتفع الجميع إلى مستوى الوعي بأهمية ما تحت قبة البرلمان،
ليتعاون الجميع من أجل بناء نظام سياسي ديمقراطي حقيقي راسخ، لا يتزعزع،
أو تهوي به الريح في واد سحيق.
ومن أجل الوصول بالوعي العراقي إلى هذا المستوى من النضج، أعتقد
جازما، بأن النصوص لا تكفي أبدا، بل يجب أن تصدق النوايا التي في
الصدور، فالزعيم الذي لا يؤمن برأي الشعب، ولا يعتقد بصندوق الاقتراع،
لا تنفع معه النصوص والاتفاقات والأيمان المغلظة، مهما كثرت وتعددت
وتشبعت، وتكررت تواقيعه عليها.
مرة، نقل لي صديق، قصته التالية مع شرطي المرور:
يقول صديقي ؛
ذات مرة، كنت أقود سيارتي مستعجلا في حالة طارئة، فمررت بإشارة
المرور الحمراء، فتجاوزتها، من دون أن أعير لها أي اهتمام، فلحق بي
شرطي المرور وأوقفني، ليحاسبني على ذلك، فبينما هو يحاول أن يعظني بسبب
الخطأ المروري الذي ارتكبته، وما يترتب عليه من مخاطر جمة محتملة،
ممسكا بالقلم ليسجل لي الغرامة المالية المترتبة على المخالفة، بادرته
بالقول ؛
أرجوك، سيدي شرطي المرور، سجل لي مخالفة إضافية على تجاوز الإشارة
الضوئية التالية كذلك، لتريح بالي وتستريح نفسك، إذ ليس في نيتي التوقف
عندها كذلك.
صعق الشرطي من جرأتي وأسقط في يده، متسائلا، ولماذا ؟ وهو يظن بأنني
أتحداه بوقاحة.
أجبته بالقول ؛ لأنه ليس في نيتي الالتزام بقانون المرور والإشارات
الضوئية، لغاية الوصول إلى غايتي.
وهكذا هو حال من ليس في نيته الالتزام بقواعد لعبة الديمقراطية،
فإذا لم يصدق النية، ويقرر في دواخله وأعماق نفسه، الاعتراف بها
والتوقف عندها، فلا تنفع معه كل العهود والمواثيق والاتفاقات المبرمة،
حتى إذا وقع عليها بالحبر الأحمر القاني، إذ ليس في نيته، والحال هذه،
الالتزام بعلامات الديمقراطية وإشاراتها الضوئية، وعلى رأسها، احترام
رأي الشعب وإرادته التي ترسمها صناديق الاقتراع.
النوايا، إذن، وليس النصوص، هي التي ترسم معالم النظام السياسي
الديمقراطي الجديد في العراق.
لقد كثرت الاتفاقات والبنود والمعاهدات بين العديد من الفرقاء
واللوائح، وفي كل خطوة سياسية جديدة، تتكرر النصوص، ويتجدد التوقيع
بحبر جديد، وكأن كل فريق متربص بالآخر، خائف منه، في قلبه منه ريبة،
وكل ذلك بسبب عدم صفاء النوايا التي إن لم تحسن وتتغير فان احتمال
تحقيق النجاحات يبقى ضعيفا دائما، وهذا ما نراقبه الآن على الساحة
السياسية في كردستان التي عادت إليها (أو كادت) أجواء التوتر بين
الحزبين الكبيرين المتحالفين (استراتيجيا)، إلى العلن مرة أخرى، ما
يذكرنا بظروف عقد التسعينيات التي شهدت، بسبب ذلك، اقتتالا داخليا
مريرا، كان المنتصر فيه، خاسرا جملة وتفصيلا.
إن عدم اكتراث الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في البلاد العربية
والإسلامية، ومنها النظام البائد في العراق، بجوهر القيم الديمقراطية،
وعلى رأسها، قيم الحرية والمساواة والمشاركة والشراكة الحقيقية وحقوق
الإنسان والحريات الشخصية، وتاليا، هروبها من تحت قبة البرلمان التي
تحولت، في ظلها، إلى اصطبل كبير، أو زريبة ضخمة، يجمع بين جدرانه
الأربعة، كل إمعة ناعقة، صماء بكماء عمياء لا تصغ إلا للزعيم الأوحد،
ولا تتكلم إلا بما يرضيه، ولا ترى إلا ما يقربها إليه زلفى، إن ذلك، هو
الذي أنتج كل هذا التخلف المرعب الذي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية،
وهو السبب الحقيقي الكامن وراء الهزائم المتتالية التي شهدتها الأجيال
المتعاقبة، الواحد تلو الآخر، بدءا من ما بات يعرف بهزيمة حزيران (عام
1963) والتي تصادف ذكراها هذه الأيام، ومرورا بآخر هزيمة تسببت بها هذا
النوع من الأنظمة، وأقصد بها هزيمة النظام السياسي العربي القومي
العنصري السني الطائفي، المتمثل بنظام الطاغية الأرعن الذي كان قد سلم
البلاد والعباد إلى المحتل الأجنبي، من دون عناء أو مقاومة تذكر،
ليختفي في جحر، ويستخرج من بالوعة، وهو البطل القومي العروبي
الاستثنائي الأوحد.
إن التجاوز على ما تحتضنه قبة البرلمان، من إرادة شعبية انتخبت
ممثليها عبر صندوق الاقتراع، وبأية حجة أو دليل، ستجر البلاد إلى نفس
النهايات التي انتهت إليها بلداننا، وعلى مدى نصف قرن أو أكثر، ولذات
السبب، ولذلك ينبغي لزعماء العراق الجدد، سواء أكانوا في السلطة أو
خارجها، أن يتعلموا من تجربة الأنظمة سيئة الصيت، من أجل حاضر أفضل
ومستقبل أأمن.
نتمنى أن لا يرد في مسودة الدستور الدائم، الذي كلفت لجنة خاصة
بتدوينه، أي نص أو كلمة، بل، ولا حرف واحد، يشم منه رائحة الثالوث
المشؤوم، حتى لا نؤسس العراق الجديد على قاعدة خطأ، لا تغفرها لنا
الأجيال القادمة، وليتذكر الجميع، بأنهم يدونون ويصوتون للمستقبل، وليس
للحاضر فقط، ولذلك، يجب الأخذ بنظر الاعتبار مصالح الأجيال القادمة،
وعدم الانشغال بالبحث عن حلول للمشاكل الآنية فقط، مهما تعقدت.
[email protected] |