مع القرارات الثورية لبريمر
قبل انتقال السيادة بدأ الإرهاب يأخذ بالتصاعد والتبلور في العراق،
وأستمر كذلك حتى الساعة..
حلّ لوزارة الإعلام العراقية.
ما هو عدد الموظفين الذين كانوا يرتزقون من العمل في هذه الوزارة؟
كمْ يصبح العدد لو أخذنا عدد أفراد عائلة كل موظف من موظفي الوزارة
المذكورة؟
لنفرض بان عدد الموظفين كان في هذه الوزارة ومؤسساتها 50 ألف.
لنفرض بان كل موظف منهم كان يعيل 5 أفراد.
وبذلك يكون هذا القرار ولوحده وفي يوم واحد قد دفع بربع مليون عراقي
في الاتجاه المقابل أو المحايد لمشروع العراق الجديد، بشكل أو بآخر،
بنسبة أو بأخرى!!
وقس على ذلك:
حلّ الجيش العراقي.
الذي كان يضم بمؤسساته المختلفة ما يقارب 500 ألف.
وإذا أخذنا بنفس الفرضية السابقة فيكون قرار الحلّ الثوري الأخير قد
أضاف إلى قائمة الاتجاه المقابل لمشروع العراق الديمقراطي الجديد ما
يقارب مليوني ونصف عراقي، ليصبح المجموع ثلاثة ملايين.
وهكذا الأمر في إطار آخر بالنسبة لـ :
حلّ حـزب البـعـث العراقي.
وحلّ ....
وحلّ ....
وكلنا نتذكر بان الانتماء إلى هذا الحزب الفردي الشمولي الديكتاتوري
الظالم كان إجباريا ومفروضا على الجميع.
لو جمعنا كلّ هذه الأعداد يا ترى:
كمْ ستكون النتيجة!؟
ربما تتجاوز ....
المهم العدد كبير ... فمجموع نسمة العراق هو أكثر من 25 مليون.
طبعا هذا غير مؤسسات النظام الخاصة ومرتزقة صدام و .....
هلْ كان بالإمكان استمرار المؤسسات التي تمّ حلّها؟
من الواضح انه لا معنى لاستمرار مفتوح لتلك المؤسسات وكما كانت
لأسباب كثيرة منها:
عدم السنخية بين العراق الديمقراطي التعددي الاتحادي، والبنية
التحتية لتلك المؤسسات، فمثلا لا معنى لوجود وزارة للإعلام في ظلّ نظام
من دعائمه الأساسية الإعلام الحرّ المستقل المتعدد غير القابل للاحتكار،
كما لا مبرر لجيش بتلك المواصفات وبذلك العدد، كما لا يمكن أن يتصور
عاقل إمكانية استمرار حزب البعث العراقي، وكما كان في جو ديمقراطي
تنافسي حرّ لما ارتكبه كباره بحق العراقيين والعراق وجيرانه، مما لا
يوصف، وما خفي أعظم ....
لا اختلاف في استحالة استمرار المؤسسات المذكورة، وكما كانت، كما لا
خلاف في معالجة قضائية عادلة.
مناسبة لحجم الجرائم، وشيوعها، وبعيدة من العقوبة الجماعية:
﴿ولا يجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا﴾.
﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾.
معالجة قضائية...
متوائمة مع التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
مناسبة للتحول الجذري الكبير الذي يشهده العراق بعد سقوط الطاغية
صدام.
معالجة نابعة مِن قيمنا ومبادئنا، فالتحولات الكبيرة بحاجة إلى
قرارات ومواقف مِن حجم تلك الطموحات والتحولات.
يا ترى كيفْ واجه الآخرون حالات مشابهة!؟
والسعيدُ مَنْ اتعظَ بتجارب غيره.
والحكمةُ ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها.
ألا توجد في تاريخ أمتنا صورة مشابهة لما يمرّ به العراق مِن تحول
كبير؟
صورة واحدة مِنها:
بعد فتح مكة ... بعد كلّ أنواع العذاب والتعذيب والقتل والبطش
والتهجير و... مِن أنواع الظلم والعدوان الذي تعرضَ له الرسول الأكرم (صلى
الله عليه وآله وسلم) وأتباعه:
ماذا كان موقف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
تحصين النصر مِن الإنهيار بآليات متعددة منها المرحلية و.... ومنها
البحث والتفتيش والتقصي عن مخارج للعفو والصفح تمهيداً لإعادة التأهيل
فالإندماج والتعايش وتماسك النسيج الإجتماعي، وحتى فيما خصَّ رموز
الظلم، فكان الشعار:
اليوم يوم المرحمة، اليوم تُصان الحرمة.
مَنْ دخلَ بيت أبا سفيان فهو آمن.
هذا مِن جهة، وفي التاريخ الحديث الكثير مِن التحولات الجذرية
الكبيرة التي تستحق الدراسة:
كيفْ تمَّ التعامل مع الملف النازي بعد هزيمة النازية أعقاب الحرب
العالمية الثانية؟
كيفْ تمَّ التعامل مع قادة وكبارة الأنظمة والأحزاب الشيوعية في
أوروبا الشرقية وغيرها؟
كيفْ تمَّ التعامل مع العنصريين بعد سقوط نظام التميز العنصري جنوب
أفريقيا؟
هناك نقاط إيجابية يمكن دراستها ونقدها وتطويرها في التجارب الحديثة
الأخيرة لمعالجة الأزمة في العراق، فالتحول الكبير، أو الهدف الكبيرة
يتطلب حكمة وعفواً وصفحاً كبيراً.
إلى جانب ما يتطلبه الفجر الجديد مِن تحصين، وإحقاق لحقوق الشعب
المهدورة في ظلِّ النظام السابق، لكن الذي وقعَ في العراق كان معاكساً
لمتطلبات المرحلة، فلا المرحلية روعيت في إعادة هيكلة المؤسسات
العراقية، ولا التحصينات الحضارية للفجر الجديد شُيّدت، ولا خبر مِن
إحقاق لحقوق الشعب المهدورة في ظلِّ النظام السابق، بل وبشطبة قلم
واحدة تمَّ قطع قوت الملايين، ودون أي ضمانات إقتصادية، أو أمنية،
فكانت النتيجة خلق طبقة إنْ لَمْ نقل مخالفة للعراق الجديد، فهي محايدة،
أو مُتفرِجة، فالإنسان إنسان، وليس بملاك، بين عشية وضحاها يرى مصدر
القوت قد قُطِعَ، مكانته الإجتماعية ...، دوره...، ولا بديل له، كما لا
مستقبل له، وقد قال سبحانه:
﴿فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعَمَهُم مِن جوع وأمنهم مِن خوف﴾.
هلْ نتوقع مِن هذا الإنسان أن يقف إلى جانب العراق الديمقراطي
الجديد؟
هلْ نتوقع منه أن لا يكون موقفياً، ونظرياً - على الأقل - مع
الإرهاب المتستر بالمقاومة؟
وفي ظلِّ الإبقاء على مسائل خطيرة كهذه:
هلْ هناك أمل في إنتشال العراق مِن الإرهاب؟
يبدو أنه لا أمل في الإستقرار، وربما ما نسمعه مِن التصريحات
الأخيرة التي تقول بأن الإنتصار على العمليات المسلحة قد يتطلب 10
أعوام يعكس ذلك، ولا يعود السبب إلى القرارات الثورية التي أشرنا إليها،
وعلى سبيل المثال فقط، بل الأزمة أكبر مِن ذلك.
والخطير هو التعامل العسكري الداخلي البحت مع الإرهاب، في الوقت
الذي لابد مِن معالجة الإرهاب بكل مصادره، فهو يتطلب التصدي السياسي
الإقليمي، والدولي، إضافة إلى المحلي فهناك أطراف متضررة أو قلقة أو
متخوفة في الساحات الثلاث، فلابد مِن التوفيق، أو التوافق وهناك تمويل
حكومي وتسهيلات إقتصادية حكومية، ومِن مصادر عديدة للإرهاب، لابّد مِن
إستئصالها بحسم، مثلاً الصنداي تايمز تنسب لمسؤول قطري قوله:
لسنا الدولة الوحيدة التي تسلك هذا النهج لحماية أمننا القوم !!
وذلك في تعليقاً على الدعم المالي لأمارة قطر لتنظيم القاعدة.
وبعد المعالجة السياسية والإقتصادية، وعلى أعلى المستويات، وإقليمياً،
ودولياً ومحلياً يأتي دور المعالجات والإتفاقات الأمنية وبصراحة بين
الكبار ! دولياً، وبينهم وبين القوى الإقليمية، ومِن ثم دور الترتيبات
الأمنية العراقية الداخلية إلى جانب التحصينات الديمقراطية الحضارية
لفجر العراق الجديد، والعفو العام الشامل الكبير مع تعميم الأمان
والتصدي للبطالة والفساد المالي والإداري، وكلّ ما نجمَ مِن قرارات
مستعجلة كحلَّ المؤسسات المذكورة، مع دورات تأهلية تقويمية لمشاركة
الجميع في العملية السياسية للعراق الجديد تمهيداً للإندماج والتعايش
والتماسك الإجتماعي، وفي الإطار الديمقراطي، فيكون الشعار في العراق:
مَنْ دخلَ بيت الديمقراطية فهو آمن.
والأمثال تضرب ولا تُقاس.
وتبقى مشكلتان في غاية الأهمية والحساسية قائمتان على الطريق:
الأولى:
محاكمة رؤوس النظام والحزب في العهد السابق، فلابد مِن محاكمتهم
محاكمة علنية عادلة قانونية، بواسطة جهة قضائية عراقية مستقلة، بعيداً
عن السياسة والتسييس، وبحضور فاعل للإعلام ومؤسسات المجتمع المدني،
منظمات حقوق الإنسان، والعفو الدولية، و...، لتصدر الأحكام العادلة
الشفافة الملائمة للتحولات الكبيرة.
أما تنفيذ الأحكام الصادرة، أو العفو، أو التخفيف بالسجن حتى تحقيق
التقدم المطلوب لبناء حواضن الديمقراطية لضمان فجر العراق الجديد،
فالمرجع فيه الشعب عبر ممثليه في البرلمان، أو عبر إستفتاء لهذا الهدف،
وإن عفى فهو أقرب للتقوى:
إنه الكلام الصعب، لكن المرحلة صعبة، وربما في غاية الصعوبة،
وستزداد صعوبة، وتعقيداً كلما تأخرَ الحلّ الشامل لمقومات ودوافع
الإرهاب الدولية والإقليمية والمحلية.
وإذا أختار الشعب الطريق الأقرب للتقوى، والأحمد عاقبة، والأكثر
موائمة للتحولات الجذرية الكبيرة فعلى الدولة، وبيت المال تعويض كل مَنْ
تضررَ بجرائم النظام، إنها الضريبة التي لابد مِنها لإعادة البناء
والإعمار السياسي والقانوني والأخلاقي، كي يخلق هزة في الضمير، ويبددُ
الخوفَ والتخوف والقلق المحلي والإقليمي والعالمي إزاء التحولات
الديمقراطية المنشودة، ويخلق أرضية صلبة للتفاعل الإيجابي مع الخيار
الإيجابي للطريق الديمقراطية الذي إختاره الشعب العراقي.
أجلْ التركة ثقيلة، والتعويضات كبيرة لكن:
لقد ابتلعَ الأمن والتصدي للإرهاب المليارات، وبقي عقيماً، ومحدود
النتائج، لأنه يكاد أن يكون أحادياً مقتصراً على المعالجة العسكرية
وحتى دون معالجة أمنية إستخباراته فاعلة، فلابد مِن الإختيار، لمقاربة
الوقائع، فالحلحلة، فالحل.
الثانية:
تواجد القوات المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية
في العراق، وهذه المشكلة حساسة، وبالغة الأهمية، وذلك في غاية الوضوح،
فيجب بحث هذه المشكلة لقطع الطريق أمام اللعب بهذه الورقة لصالح
الإرهاب، وبكل صراحة مع الشعب، وبعيداً عن الحماس والتحميس والمزايدات
والديماجوجية:
فأولاً:
هلْ العراق هو البلد الوحيد الذي تتواجد على أرضه قوات أجنبية؟
هلْ العراق هو البلد الأول الذي تعرضَ للتدخل العسكري أو الإحتلال؟
وثانياً:
هلْ هناك مَنْ يستسيغ ذلك على وجه الأرض؟
لكن الإحتلال قد أنتهى طبقاً للقرار الدولي 1546 وبقاء، أو رحيل تلك
القوات بات جزءاً مِن قرار الشعب العراقي نفسه، طبقاً لنفس القرار
المذكور، ولو فرضنا جدلاً أن الأمر ميدانياً، ليس كذلك:
ألا يمكن بالعملية السياسية وآليات المواجهة الديمقراطية والمدنيّة
المتحضرة كالعصيان المدني إنقاذ العراق بدلاً مِن الإرهاب، والعنف،
والتدمير، ولاسيما لبلد خرجَ مِن حربين طاحنتين، وحصار إقتصادي، وقمع
شمولي صدامي لَمْ يبق للعراق باقية؟
كيفْ تحررت الهند؟
والتي نجحت في إرساء نظام ديمقراطي يُعتد به في ظلِّ تنوع كبير،
وتعصب شديد، والفقر الحاد الذي كان متفشياً، وهي تكاد أن تأخذ طريقها
كي تتحول إلى دولة منافسة للدول الكبرى.
أجلْ فالأنظمة الوليدة للعنف، والعمل المسلح لا يمكنها إلا أن تكرس
عادة الفردية والشمولية والديكتاتورية والعنف.
وفي تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود القوات المتعددة
الجنسيات في العراق على طريق نيل الإستقلال مِن بريطانيا، وإسترجاع
العديد مِن ولاياتها المستعمرة مِن قبل أكثر مِن دولة دروس وعبر تؤكد
ما تقدم مِن تأكيد على المرحلية والحوار، والعمل السياسي لإستكمال
إستقلال العراق، فالولايات المتحدة الأمريكية تعاونت مع فرنسا لنيل
الإستقلال مِن بريطانيا، وبلغ التعاون أوجه عام 1780 رغم إحتلال فرنسا
لولاية لويزيانا الأمريكية التي إستعادتها الرئيس الأمريكي جيفر سون
بعد إنتخابه في 1805م، بالعمل الدبلوماسي السياسي الإقتصادي، والطريق
نفسه سلكه الرئيس الأمريكي مونرو في تحقيق الإستقلال لولاية فلوريدا
الأمريكية مِن إسبانيا في العام 1819:
فبناء الدولة العراقية الحديثة، وبديمقراطية مستدامة، لا يمكن أن
يتحقق باللجوء إلى ممارسة العنف، مِن قبل هذا الطرف أو ذاك، ولابد مِن
الإختيار بين بذل المال والحكمة، أو الدم والخراب، فالدول تبقى دول،
ولم تعمل يوماً كمؤسسات خيرية.
هذه باختصار بعض أهم الأسباب التي ابقت على الإرهاب بطلاً للشاشة
الفضية، منذ سقوط صدام:
فهلْ ما يشهده العراق حالياً مِن إرهاب يُمثل النهاية حقاً؟
يقال بين البداية والنهاية طريق يقود إلى اللانهاية.
عدوّك أقوى منك حتى تُسالمه.
إنه الكلام الصعب...
لكن الزمن هو الآخر صعب أيضاً، ولابد مِن الأخذ بالخيار الصعب في
الزمن الصعب.
* معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات
|