قد يكون الرجال كثيرون، إلا أن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه...
قليلون، ومنهم الشهيد الحاج أبا ياسين.
وإذا كان العاملون في سبيل الله تعالى وأوطانهم والمستضعفين من
الناس، كثيرون، فان العالمين منهم، قليلون، ومنهم أبا ياسين.
وإذا كان العاملون العالمون كثيرون، فالمخلصون منهم قليلون، ومنهم،
أبا ياسين.
وأولئك على خطر عظيم، لأنهم وضعوا أرواحهم على أكفهم، وحملوا أعواد
مشانقهم على ظهورهم، يجوبون بها الأسواق، بحثا عمن يصلبهم فيها، للقاء
الله
تعالى، شهداء على الناس.
لقد تعرفت على الشهيد، الحاج عز الدين سليم (أبا ياسين) وعاشرته،
قرابة ربع قرن من الزمن، فعرفته عن قرب، سمعت منه وتحدثت إليه، تحاورنا
وتعاونا، فلمست فيه خصالا، قلما تجدها عند من يتعاطى السياسة، التي
عادة ما، تلوث النفس، وتؤثر على السلوكيات، وتغير من الأخلاق، قليلا أو
كثيرا، لا فرق، إلا من عصم ربي، وقليل
ما هم، ومنهم شهيدنا الغالي.
أجزم، أن كل من عرفه، لمس فيه هذه الخصال الحميدة، التي إن تدل على
شئ، فإنما تدل على حسن منبته، وطهارة مولده، ورفعة تربيته، وعظمة
نفسيته التي لا تتأثر بمغريات الدنيا، مهما كبرت في عيون الناس، لأن من
كبر الخالق في نفسه، صغر ما دون ذلك في عينه (كما يقول الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام)، الذي والاه الشهيد، أشد موالاة،
لدرجة الذوبان فيه.
لقد كان أبا ياسين، واضحا وصريحا، لا يلف ولا يدور عندما يتحدث إلى
مستمعيه، فإذا قدر عاهد، وإذا عاهد وفى، وإذا ووجه بخطأ، اعترف واعتذر،
وإذا مدح على صحيح، لم يفتخر.
كان لا يتستر على الواقع، مهما كان مرا، فكان يتحدث عنه، وان كان
معيبا، ليس من أجل التندر عليه، أو الشماتة فيه، بل من أجل تصحيحه،
وإيجاد الحلول له.
كان يعتقد بأن الحقيقة، هي ملك الناس لا يجوز التستر عليها، وان
المعلومة مشاعة، لا يحق لأحد احتكارها، لأن أمة بلا حقيقة، وبلا معلومة
دقيقة وصحيحة، لهي أمة جاهلة، لا تقوى على النهوض.
لم يكن أبا ياسين، يحب أن يغالط نفسه أو يغالطه الآخرون، فكان صريحا
في الحديث عندما يتناول أمرا ما، مهما كان خطيرا، فكان يضيق بالخطأ،
أنى كان مصدره، ولو على نفسه.
كان يضيق ذرعا بالتناقض الذي يلاحظه في أفعال (القادة والمتصدين)
وأقوالهم، لا سيما المترفين منهم، فلم يكن ليبالي في أن يفضح المتناقض،
مهما علا شأنه، لأنه كان يحب الشفافية بين القائد والمقود، بين الرئيس
والمرؤوس، فكان يصدح بوجه النفاق مهما يكن، ولصدقه في ذلك، تعود على
صراحته الناس، فكانوا يقصدونه كلما التبست عليهم حقيقة أمر ما.
لم يكن حزبيا ضيق الأفق، بل كان منفتحا على كل الساحة، ولذلك تميز
بعلاقات وطيدة مع الجميع، حتى أولئك الذين شنت عليهم الغارات والحروب.
ولم يكن سياسيا خالي الوفاض من الفكر، بل كان مثقفا من الطراز
الرفيع، يقرأ كثيرا ويبحث أكثر، فأنتج كتبا وبحوثا، استفاد منها الناس.
كذلك، لم اسمعه يوما يمتدح نفسه، أو يزكيها، (بل الله يزكي الأنفس)
كما كان يردد هذه الآية دائما.
كان يؤمن بنظرية (أن الساحة لمن يعمل) ولذلك، كان يعتقد بأن على
العاملين والمتصدين في الساحة، أن لا يحتكروا العمل وإمكانياته، بل
يلزمهم أن يفسحوا المجال للآخرين، لينموا ويكبروا، لأن نموهم في ساحة
العمل، يزيدها قوة وصلابة وانتشارا واتساعا، وبذلك تكتسب الساحة يوميا،
جيلا جديدا من العاملين، ودماءا جديدة تروي شجرتها، فلا تظمأ الأرض،
ولا يجف الحبر، أو ينتهي المداد.
رأيته، كلما كبر في الساحة، ازداد تواضعا للناس، فلقد تحول منزله
إلى مأوى للمجاهدين والمهاجرين في سبيل الله تعالى، على الرغم من قلة
ما في اليد، فلقد كان الشهيد ضعيفا مستضعفا، لا يوفر من قوت يومه إلى
الغد، ومع ذلك، فلقد كان كريما سخيا، ينفق ما في حوزته على المحتاجين
من ضيوفه، فكان بيته مأوى لأمثالهم من العراقيين الذين ضاقت عليهم
الأرض بما رحبت، فكان الشهيد ملجأهم ومأواهم.
كان ضاحكا بشوشا، فلم أره يوما عبوسا قمطريرا، لأنه كان يعيش الأمل
في كل الأوقات، وفي أحلك الظروف.
كان قوي الحجة، متين المنطق، يؤمن بحرية الإنسان، إيمانه بربه، كما
كان يؤمن بالتعددية والتنوع، فلم يسع إلى إلغاء الآخر، مهما اختلف معه،
بل كان يسعى إلى أن يحاور الآخر، ويجادله بالتي هي الأحسن، ليجد فيما
بينه وبين هذا الآخر، أرضا مشتركة يتعاون معه عليها، فإذا لم يلتق معه
على قاسم فكري مشترك، اجتمع معه على قاسم الوطن المشترك، أما إذا التقى
معه على قواسم أخرى، اندمج معه بلا حدود أو حجب، فليس بين الشهيد وبينه
ــ آنئذ ــ أسرار.
كان شديد التمسك بالحكمة المأثورة التي تقول ؛ (اليوم يوم، له ما
بعده)، ولذلك لم تغيره الظروف، إذا ما خدمته يوما ما في موقع رفيع أو
منصب مهم، لأنه كان يعتقد بان الفلك دوار، مهما طال الزمن، والمرجع إلى
الله تعالى، فلماذا التكبر إذن والترفع والاستعلاء ؟.
كان يتقاسم إمكانيات العمل وأدواته، مع الآخرين، وكان يسعى لان
يلتقي مع أكبر عدد ممكن من العاملين، على أساس الوفاء للوطن، وللإنسان
العراقي الذي كان يعتقد بأنه يستحق كل شئ، لأنه المضحي الأول، ولذلك
يجب أن يكون المستفيد الأول.
كان شجاعا مقداما، لم يتردد في اقتحام غمار المجهول، إذا رأى مصلحة
في ذلك للقضية المقدسة التي نذر حياته لها، كما كان يسعى دائما إلى أن
يكون قريبا من الناس، حتى في أخطر الظروف الأمنية، ولذلك، رفض أن يسير
معه رجال يحمونه في ذهابه وإيابه، حتى عندما كان رئيسا لمجلس الحكم
الانتقالي، وهو في تلك الظروف الأمنية الخطيرة، التي كان يتربص له بها
الإرهابيون، لأنه كان يرفض أن يصنع السدود والحدود بينه وبين الناس،
ولذلك لم يستشهد معه عندما استهدفه الإرهابيون، إلا رفيق دربه الطويل،
الحاج أبو محمد العامري، الذي لازم الشهيد طوال سني المسيرة الجهادية
التي جمعتهما، متأثرا بشخصيته أشد التأثر، حتى شاء الله تعالى أن يعيشا
معا ويجاهدا معا ويستشهدا معا، ويدخلا الجنة، بإذن الله تعالى، معا.
فسلام عليهما، يوم ولدا، ويوم جاهدا في الله حق جهاده، ويوم استشهدا
على ارض العراق الطاهرة، ويوم يبعثا حيين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM |