اجمعت الدراسات والبحوث السيكولوجية والاجتماعية ان جميع الشخصيات
العدوانية تشترك في تركيب سيكولوجي واحد يمكن ان يتخذ كدعامة في
التشخيص،يشترك في هذا التركيب والتكوين بيئة اجتماعية مرضية واستعداداً
جبلياً"موروثاً"غير سوي الامر الذي يؤكد الرابطة الوثيقة بين التركيب
النفسي والعوامل البيئية والبيولوجية ،فالعوامل الاستعدادية تكون دافعا
قوياً في تشكيل السلوك العدواني،بينما في البناء النفسي المسالم للذات
يكون الحب بديلاً اكيداً عن العدوان،ويتسائل علماء النفس لماذا العدوان
–وليس الحب- هو السلوك السائد في بعض الشخصيات المضادة للمجتمع او ذات
الطابع القاسي في التعامل،بينما جبُل الانسان على القبول والمسالمة
والتآلف،وهذا ما أكده "سيجموند فرويد"حينما قسم الغرائز الى غريزتين
اساسيتين:غريزة الحب وغريزة العدوان.
وغريزة الحب هي غريزة بناءة تتضمن حب الذات وحفظ النوع وهي الغريزة
الاكثر سيادة في الجنس البشري وتعد الطاغية على التكوين النفسي والخلقي
وتعمل في الاساس على البنيان وتآلف الاشياء والتقارب بين البشر وتقود
معظم ابناء البشرية الى التطبيع الاجتماعي لادوار الحياة المختلفة
ويجمعها القاسم المشترك هو روح المسالمة واللاعنف وقبول الآخر مهما
كانت قوميته او دينه او مذهبه او اتجاهه السياسي او انتماءه
الفكري،وساعدت النظريات النفسية التي دعت الى اعتماد التطبيع الاجتماعي
اساس في التعاملات وخصوصاً نظرية التعلم الاجتماعي الذي ركز احد
روادها"ولتر ميشيل"بقوله ان البشر يتعلمون كلا النمطين من السلوك
بمشاهدة النماذج المتنوعة من حولهم،فكلنا نعرف على سبيل المثال: كيف
نلعن ونقاتل او كيف نقدم باقة ورد لشابة مقبلة على الزواج او هدية لطفل
اجتاز مرحلة دراسية بنجاح او اب نجح في تهيئة ابناءه في ميادين الحياة
بكل سلاسة وكانوا مثالا للالتزام الخلقي والديني والفكري المعتدل.وعلى
كل حال فنحن نقلد الاشخاص المسالمين والعدوانيين في معظم الحالات،ويضيف
(ميشيل) اننا نفعل ذلك لاننا نأخذ تشجيعاً حينما يوافق على سلوكنا
الاباء والاقران والمعلمون وغيرهم من القائمين في المجتمع ،المسجد،المدرسة
التأهيلية الخاصة،الكنيسة،المعبد..الخ،كما اننا نتوقع تلك الموافقة
والاستحسان مقدماً،فأن كان الدافع قوياً نحو اشباع جوانب المسالمة
واللاعنف في الذات وجد الافراد الطريق نحو قبول الاخرين سالكاُ
ومقبولاً،اما اذا كانت الدافعية قوية من السلطات الحكومية او الاتجاهات
المتطرفة في السياسة او الدين او المدرسة التاهيلية الخاصة مثل مدرسة
بناء العقيدة النضالية او اعداد الكادر او تأهيل الشبيبة نحو الجهاد او
كوادر الاستشهاديين ..الخ من التسميات الدالة على العنف وتنمية الروح
العدوانية،نشأت اجيال جديدة نحو طريق العدوانية وتتسم بسلوك العنف وهو
تجييش لغريزة العدوان في الذات وهي غريزة التدمير والهدم وتعمل على
تفكيك الارتباطات الانسانية في النفس اولا ومن ثم في المجتمع ثانياً ثم
تؤدي الى هدم الاشياء الجميلة التي وهبها الله في خلقه على هذه الارض.
يقول علماء النفس الاجتماعي وبالتحديد انصار نظرية التعلم الاجتماعي
،ان الكائنات البشرية لاتولد بمجموعة كبيرة من الاستجابات العدوانية
مرتبة ترتيباً معيناً ولكن الافراد يتعلمون هذه الاستجابات بنفس
الطريقة التي يتعلمون بها مختلف اشكال السلوك الاجتماعي الاخرى ومنها
المسالمة وسلوك القبول للآخر واللاعنف،ويمكن ان تجد هذه السلوكيات
التعزيز الكافي من افراد المجتمع والمنظمات غير الحكومية مثل جماعة
المسجد واقران المدرسة والمعلمين ودور الشباب ومراكز تأهيل الشباب
فينشأ اللاعنف كسلوك يرتبط في الذات مباشرة وهو تكوين صميمي لا يقبل
الانفصام عن الذات ويصبح احد سجايا اساسية اهمها اكتساب السلوك
والمكافأة او التوجيه الذي يرتبط بهذا السلوك والعوامل الاجتماعية
والبيئية التي تؤثر فيه.
ان التعلم بالنمذجة Modelling اوالتعلم بالعبرة Vicarious Learning
هو الاسلوب الاساس في اكتساب السلوك وتشكيله،فالكبار يماسون سلوكهم
والصغار يقلدونهم وخصوصا ممن لديهم ميول لتقليد مختلف اشكال سلوك
الاخرين التي يشاهدونها بما في ذلك السلوك المسالم او السلوك
العدواني.يقول علماء النفس ان الطفل يشاهد الاشخاص الاخرين الذين
يمثلون نماذج اجتماعية Social Modelsلهم اما ان يسلكون بعدوانية او
يتحكمون في عدوانهم وانفعالاتهم ويتغلبون عليه بسبب قوة تأثير الجانب
الانساني المتمثل في غريزة المسالمة –الحب والاعتراف بالآخر- ووجوده
كأنسان مهما كان لونه او جنسه او نوعه او انتماؤه الطائفي او الديني او
المذهبي او اتجاهه السياسي.
اننا امام اشكالية نفسية في التكوين وبناء الذات،واجتماعية في
التقليد واكتساب السلوك بشقيه اما العدواني وهو الاسهل والاكثر انتشاراً
ورواجاً واما المسالمة وهو الاصعب والاكثر نضالا ومجاهدة مع النفس
والاقل صبراً وقدرة على التحمل والمطاولة بفعل سيادة سلوك الكراهية
وسياسة العنف التي ادمنها الناس عبر القرون والعقود.فتقليد السلوك
المسالم اللاعنيف يكون سائداً عندما يكافأ النموذج(القدوة)رجل الدين
المعتدل المسالم الواعظ،او السياسي العاقل محترف الاهداف السامية
وخصوصا اذا كان المتلقي يعشق النموذج من نفس الدين او المذهب او نفس
الاتجاه السياسي او الطائفة،فالارض لا تخلوا من عقلاء في الاديان
السماوية وغير السماوية والمذاهب بمختلف انواعها والاتجاهات السياسية
بمختلف توجهاتها وازاء ذلك فأن بزوغ نزعات اللاعنف وسلوك المسالمة في
التكوين الاول لنشأة الانسان خلال مراحل حياته الاولى يعطي الوقاية
والضمان الاكيد من السلوك العدواني الصريح او قدرة المسالم الذي تم
بناءه النفسي لذاته باساليب مختلفة عن الاساليب التقليدية في نمط
العدوان، انه يستطيع التحكم في كل سلوكه وضبطه،فأذا كان العدوان شكلا
متعلماً من السلوك فأن المسالمة واللاعنف شكلا مضموناً واكيداً في
نتائجه خلال مراحل التعلم ونوجز بعض المقارنات في الاسباب والنتائج كما
يلي:
العدوان المسالمة واللاعنف
- سلوك متعلم - سلوك متعلم
- يجد التدعيم والتعزيز من السلطات المختلف - فطري مجبول على
التكوين الانساني يزيده التدعيم
(الدينية،الحكومية،الساسية،الطائفية) والتعزيزقوة
- عدوان صريح - قدرة عالية على الضبط والتحكم في كل ما يسئ للاخر
- عرضة للتعديل المباشر والتغيير - عرضة للتطوير والتغيير نحو
الافضل
- تشاؤم في العلاقات مع الاخرين - تفاؤل في رؤية المستقبل والعلاقة
مع الاخرين
- الخبرة تزيده قسوة - الخبرة تزيده تعقل وتعلم
- ميل عالي للتحيز - سمة العقلانية والاعتدال والوسطية
- انعدام الضمير الاخلاقي - نضج وجداني عال
- عدم الاعتراف بالخطأ اطلاقا امام النفس - طلب العفو والصفح لادنى
شك في الاساءة للاخر
- ضعف الثقة في النفس يؤدي الى اللجوء للعدوان - ثقة عالية بما يؤمن
بالمعتقد يمنحه الثقة بالنفس
- محاولات دائمة لتخريب العلاقة بالاخر - محاولة دائمة لتنمية علاقة
حب وتصالح مع المجتمع
- احباط وذكريات وخبرات مؤلمة - تسامي في الشحنات الانفعالية
وتحويلها نحو عمل الخير
ان المسالمة واللاعنف هو بناء نفسي للذات يحفزه دافع غريزي مصدره
التسامح ويدخل اصلا في تكوين الفعل النفسي السوي،هذا الدافع استقل
بذاته وحل محل الدفعات العدوانية في الذات الانسانية،فكل انسان به من
الخيروبه من الشر ،ففي اللاعنف يسود الخير وفي العدوان يسود الشر،الشر
خصوصاً في مرحلة العمر الاولى ومرحلة المراهقة،فالمسالم – اللاعنيف
يجني ثمن هذه التعزيزات والتدعيمات مستقبلا حينما تسود الطمأنينة نفسه
وينتابه القلق ازاء اي خطأ محتمل ان يرتكبه ويفسر بالسوء،فهو يمنح
الاحترام والتقدير للذات اولاً لينعكس ذلك على العالم الخارجي وهو بذلك
يستحوذ على التقدير في البناء النفسي لذاته وللاخرين.
*استاذ جامعي وباحث سيكولوجي
elemara_32@hotmail.com |