"كان أحسن الازمان وكان أسوأ الازمان، كان عصر الحكمة وكان عصر
الجهالة، كان عصر اليقين والايمان وكان عصر الحيرة والشكوك، كان أوان
النور وكان أوان الظلام، كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط، بين
أيدينا كل شيء وليس بأيدينا شيء قط "
تلك كانت كلمات تشارلز ديكنز حين وصف الثورة الفرنسية بكلمات لا
تزال حية في مطلع روايته الشهيرة قصة مدينتين وكلما تذكرت هذا المقطع
انتابني القلق على مستقبلنا كوطن وانتابني الخوف من ان تتسامى احداث
ذلك الزمن الذي نحياه حتى تصل الى احداث المدينتين في رواية ديكينز
لشدة تشابهها ودقة مضاهاتها..
فديكنز يطرح أهمية التضحية تحت تأثير الجوع والبطالة والحقد الطبقي
، حيث يضحي الثوار من عامة الشعب - الذين يستشعرون الظلم والتجاهل
والإضطهاد والجباية - بكل غال وثمين في سبيل الحرية التي يدركون
صعوبتها حيث لايملكون شيئاً أمام حكام انفصلوا بالكلية عن الشعب
ويملكون كل شئ ، والثمن الضخم - في رواية ديكنز - والذي يرى ضرورة ان
يدفعه هؤلاء الثوار - أي ثوار - من أجل ثورتهم سيكون حتماً من دماء
الثوار انفسهم وهو ما أظهره بالتفصيل حتى صار وصفه لمشاهد القتل
والتصفيات الجسدية والإغتيالات بل وانتحار بعض رجالات القصر من اقسى
التراجيديات التي صاغها اديب منذ ميلاد ديكنز نفسه عام 1812 في مدينة
بورتسماوث البريطانية،أو ربما منذ اندلاع الثورة الفرنسية ذاتها في
قصته عام 1789 وحتى يومنا هذا إذ كان الخراب عاماً والقتل شرعة ولذة
والحقد وسيلة لكسب العيش والوطن لاتحكمه إلا الفوضى.
فديكنز يرى أن الثورة تميل حتماً إلى القمع والعنف، ورغم دعمه
للقضية الشعبية التي استوجبت الثورة إلا أنه يشير إلى ما ارتكبه الثوار
من شرور، فهو من جهة يدين قمع الفلاحين وعامة الشعب الذي كان يحدث، ومن
جهة أخرى يدين طريقتهم في القضاء عليه، ومحاربة العنف بالعنف، حيث
يتحول من كان يعاني من الاضطهاد إلى أن يضطهد الآخرين بنفسه وبمنتهى
اللذة وبنفس مطمئنة!
ولكن في نهاية روايته يقدم لنا ديكنز صورة واقعية للصراع الطبقي،
ولعل أكثر جوانبها إثارة هو الصراع الذي كان يعتمل في نفس "دارني"
ويجعله في نهاية الأمر يقرر التخلي عن طبقته لما مارسته من قمع واضطهاد.
قصة مدينيتين ببساطة هي ثورة الجياع في كل زمان ومكان ضد كل من يسلب
الشعوب حق العيش بكرامة وهي قصة درامية مكررة ، كررها التاريخ في غير
موضع منذ ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس مرورا بالثورة الفرنسية التي
صاغها ديكنز في قصة مدينتين وربما انتهاءً بكفاية.
نحن لسنا ارباباً حتى نرى ماسيكشف عنه مستقبل هذا الوطن ولكن لاحيلة
لنا سوى انتظار الفجر او الموت.
*رئيس تحرير جريدة صوت بلادي المصرية - الولايات المتحدة |