قد يكون من غير المحبب, وليس من المستحسن لدى الكثير, استخدام
مصطلحات من قبيل (تطهير) و(اجتثاث) و(استئصال) بهذه الصراحة. لكني هنا
أعتبر أن لكل كلمة من هذه الكلمات معنا لغويا, يستخدم إيجابا أو سلبا
حسب نوع المستخدم (بكسر الدال). ولي أن أستخدمها إيجابيا من دون أي
تحفظ.
بعد سقوط برلين بيد الحلفاء, تم القضاء ـ بصورة تامة ـ على النازية,
كحركة عنصرية شوفينية قامت بإبادات لمجموعات بشرية, وجرائم ضد
الإنسانية. وهكذا تم القضاء على الحزب و(الفكر العدائي) النازي تماما
بعد الحرب العالمية الثانية. وحوكم جميع رجالاته, ولم يستثنى منهم أحد,
حتى من ألقي القبض عليه بعد عقود وأصبح شيخا كبيرا عاجزا عن تذكر ـ حتى
ـ ما حدث.
فعاشت ألمانيا عقود من الرفاه والتقدم والرقي, بفضل تخلصها من جميع
عقد الماضي, وبكل جرأة وبدون تردد. واستطاعت مع مثيلتها اليابان بناء
دولة متقدمة, ذات إقتصاد فاق جميع دول العالم باستثناء أمريكا. على
الرغم من تقسيمها بين المنتصرين في الحرب.
إن أهم عامل ساعد في وصول ألمانيا إلى ما وصلت إليه هو القضاء ـ
قضاءا مبرما ـ على جميع المجرمين, والوحوش التي أبادت الإنسانية؛
وجرأتها في الإعتراف بالجرائم التي قام بها الشاذين من أبناءها,
ومحاولة التكفير عما جنوه بحق الأمم الأخرى.
هذا . . مع العلم بأن أكثر جرائم النازيين كانت بحق الشعوب الأخرى,
وليست بحق الشعب الألماني (أو الشعوب الجرمانية). وهذا لا يقلل من
بشاعتها, فالإنسان هو الإنسان. وبعد أن تخلصت ألمانيا من عقدة الجريمة
(أو الذنب), سارت مسارعة في طريق التقدم والرفاه, بمساعدة بعض الدول
الأخرى.
وكانت هذه المعالجة (الجذرية) هي التي قطعت دابر العقلية النافية
للآخر, والتي تؤمن بتفوقها وتميزها على الآخر. وفتحت الباب للعقلية
المتسامحة, التي لا ترى لنفسها تميزا, إلا بقدر الفكر والجهد الذي
تبذله في بناء بلدها, ومن ثم المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية.
فيما نجد أن العكس حدث مع (البعثيين الصداميين) عندنا في العراق.
على الرغم من أن ما قاموا به أبشع بكثير, لكون جرائمهم وقعت ـ في
الغالب ـ على أبناء جلدتهم.
حيث كان الخطأ الأول من الأمريكان, هو في تبني الوضع الأمني في
العراق. ومنع الشعب العراقي من التعامل مع المجرمين والجزارين من (البعثيين
الصداميين), ومن منتسبي قوى الإبادة والقتل والظلم والطغيان. إبتداءا
من صدام حتى آخر مجرم في أجهزته القمعية.
وقد تعزز هذا الخطأ الإستراتيجي, عند الإنصياع الغبي والساذج وغير
المبرر؛ والمثير للدهشة والإستغراب من أكثر (القوى المعارضة لصدام).
ولعله نوع من التخاذل, يمثل استمرارا لتخاذلهم أمام صدام.
هذا التخاذل الذي صنع من صدام شخصية كارتونية, أكبر بكثير مما هو
عليه في الواقع, الذي كشف عن جبنه في عدم مجابهة الأمريكان, وفراره من
المواجهة, وترك (عاصمته) تحتل (بدبابتين فقط)!!
ومن ثم إلقاء القبض عليه في حفرة! مهينا حقيرا ذليلا! كان موته أشرف
له وللعراقيين جميعا
فقد أخزانا بجبنه بعد أن ظلمنا بحكمه!!
لذا فكان من المتوقع ـ وهو أمر طبيعي ـ أن تبدأ حملة (التطهير)
مباشرة بعد سقوط الحكم السابق, لإزالة كافة آثار جرائمه, و(اجتثاث)
كافة الأفكار العنصرية والطائفية الإستعلائية, التي مهدت لهذه الجرائم,
ولمنع نشر مثل هذه الأفكار العدائية ـ وليس غيرها ـ لكي لا نمر بدوامة
جديدة من القتل والتعذيب والإعدام.
والمقصود هنا هو (الإستئصال) وفق القانون, وليس العشوائي. الذي قد
يصيب ـ من ضمن ما يصيب ـ الأبرياء أيضا, سواءا من الشعب أو من بعض
البعثيين!
لكن الذي حصل يثير الدهشة أكثر فأكثر!
سواءا من الأمريكان, في الإستعانة ببعض (مجرمي صدام), من رجال
المخابرات وباقي الأجهزة القمعية.
أو من الحكومة التي استلمت السلطة منهم ـ كما يفترض ـ في عملها على
عكس ما هو متوقع ومأمول, بل ومعقول.
إذ جاءت بالمجرمين من جديد, ووضعتهم في المراكز الحساسة والمهمة
للبلد, مما سهل لهم عمليات القتل والإغتيال والتخريب. ومن ثم أعاد لهم
الآمال ـ الموهومة ـ والأطماع ـ المستحيلة ـ في أن يعودوا للسلطة. وإن
بوجوه جديدة وغير معروفة, لنرجع مرة أخرى إلى عهد الظلم والظلام,
والقمع والإضطهاد والتخلف.
لذا أجد من الضروري جدا, من الناحية الاستراتيجية لبناء دولة جديدة,
أن يتم القضاء أولا على هذا الفكر العدائي الشاذ, بجميع شخوصه, وبدون
أي تأخير. لأنه ـ وكما أوضحت الأيام ـ يمثل العائق الأساسي أمام بناء
العراق الجديد, فضلا عن تحرره واستقلاله التام.
فهو ـ حاليا ـ يعتبر المبرر الوحيد لبقاء القوات الأجنبية في العراق.
بل هو المبرر أيضا لعدم طلب الجهات الرسمية العراقية من القوات
الأجنبية مغادرة أراضي العراق. ناهيك عن الجرائم اليومية التي يقومون
بها ضد الأبرياء, أو استخدامهم مجرمي التكفير وجهلتهم لتنفيذها.
فاجتثاث البعث إذا, هو:
1. ضرورة, لحماية أبناء الشعب العراقي, وتوفير الحياة الآمنة لهم.
2. ضرورة, لاستقلال العراق التام, وخروج القوات الأجنبية.
3. ضرورة, لبناء العراق الجديد المتطور والمتقدم, الذي يساهم في
بناء الحضارة الإنسانية.
4. ضرورة, للمحافظة على الوحدة الوطنية (المفترضة).
5. ضرورة, لنشر روح التسامح والأخوة بين العراقيين جميعا.
6. حق شرعي وقانوني وإنساني, لأهالي الضحايا وذويهم وأولياء الدم,
في الإقتصاص من الجناة المجرمين, ومحاسبة من دعمهم وساعدهم؛ وساهم في
تبرير جرائمهم.
7. ضرورة, لإتاحة الفرصة للأفكار التي لم تدنسها جرائم المقابر
الجماعية والكيمياوي وغيرها.
8. ضرورة, في منع الإختراق والتلاعب, من قبل الجهات التي تمدهم؛
وتساهم في قتل العراقيين, لمنع بناء العراق الجديد.
وهو ضرورة أيضا, لأسباب أخرى كثيرة جدا.
لذلك يجب على الحكومة القادمة أن تجعل أول أولياتها وأهمها وأعجلها,
القضاء على (البعث الإجرامي الصدامي), وعناصر مخابراته و(أمنه!)؛
وتطهير كافة مؤسسات الدولة من عناصره, التي تعمل على تخريب العراق وقتل
أبناءه. وأن تولي هذا الأمر الأولوية حتى على القضاء على التكفيريين
المجرمين, لأنهم يقادون بعقول البعث. الذي يخطط لهم, ويدير عملياتهم,
ويرمي بهم في المهالك؛ حقدا طائفيا من أكثرهم, وتغريرا بقليل منهم. |