يقول الزعيم الهندي المهاتما غاندي: «لقد أصبحت مقتنعا أن السيف لم
يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال
بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، هذه الصفات هي التي مهدت الطريق
وتخطت المصاعب وليس السيف».
بهذه الكلمات استطاع غاندي أن يؤسس له منهجا جديدا ضد الاستعمار من
خلال اعتماده على مبدأ اللاعنف لاستعادة حقوق شعبه المسلوبة، وهو ما تم
بالفعل عندما استطاع تحرير أكثر من 60 مليون هندي بمبدأ «المقاومة
السلمية»، اليوم نرى كيف أن التاريخ يعيد نفسه من جديد لكن هذه المرة
من العراق ومن خلال المرجعية الدينية المتمثلة بشخصية السيد علي
الحسيني السيستاني الذي استطاع رغم بساطة معيشته أن يجمع العراقيين على
اختلاف أطيافهم ومذاهبهم على نمط جديد في مفهوم العمل السياسي الناضج
وهي المقاومة السلمية.
السيستاني الذي تميز باعتداله الأمثل وعقلانيته وصدق منهجه وشمولية
خطابه استطاع من موقعه الأبوي وعمق تجربته وبعد نظره تشكيل منظومة
فكرية معقدة لها من الرؤى العميقة والأفكار الناضجة والتشخيصات الصائبة
والمواقف الدقيقة والمعالجات الصحيحة ما جعل العالم أجمع يقف مذهولا
عند سحر شخصيته ونفوذها الروحي، وليس هذا بغريب حيث شكل سماحته امتدادا
طبيعيا للمرجعية الدينية في العراق من خلال مواقفها التاريخية المشرفة
والشجاعة تجاه أمهات الأحداث وأحلك القضايا في تاريخ العراق, وقد كان
للدور البارز الذي مارسته المرجعية منذ سقوط النظام العراقي وما أعقبه
من احتلال أميركي على العراق الأثر الأكبر في تقويم الاعوجاج الذي تسبب
فيه المحتل نتيجة سياساته الخاطئة، ففي البداية ساهم السيستاني بشكل
رئيسي في عملية التعجيل بسقوط النظام من خلال إبقائه في حالة العزلة
وعدم منحه أية فرصة للحصول على التأييد الشعبي على الرغم من المحاولات
اليائسة للنظام آنذاك للضغط على المرجعية الدينية لانتزاع فتوى تصب في
صالحه, وفي الطرف المقابل، تعامل السيستاني مع الوضع الجديد تعاملا
ذكيا عندما أجاد قراءة ما بين السطور، فلم يوفر للمحتل أي غطاء شرعي
لدخول قواته إلى العراق, وليس هذا فحسب، فقد أدى التزام السيستاني
السكون في بيته احتجاجا على وجود المحتل ثم رفضه لقاء ممثل الاحتلال،
إلى سحب الشرعية المزعومة للمحتل التي عقد عليها آمالا واسعة.
أما أهم المواقف المسؤولة التي اتخذها المرجع الأعلى منذ الفترة
التي أعقبت الاحتلال، إصراره على التعاطي بحرارة مع ملف الانتخابات
العراقية وحثه الشعب على المشاركة لدرجة اعتباره واجبا شرعيا حيث لم
يترك للمحتل مجالا للمناورة، فإما الرضوخ لإرادة الشعب والموافقة على
إجراء الانتخابات أو نزع الأقنعة والكشف عن زيف الشعارات المرفوعة.
كان ذلك على صعيد التعاطي الحكيم للسيد السيستاني مع قوات الاحتلال،
أما مواقفه فيما يخص الشأن الداخلي فإنها كثيرة وعلى قدر عالٍ من
الأهمية نذكر منها على سبيل الاختصار: تحريمه الثأر والقصاص من أتباع
النظام البعثي السابق إلا وفق أحكام القانون، تعامله العقلاني مع أخطر
أزمة تعصف بالعراق واحتواؤه لأكبر فتنة لإشعال حرب طائفية وقطعه الطريق
أمام الإرهابيين في الدخول في حرب أهليه لا تبقي ولا تذر
وبعيدا عن كل هذا وذاك بقى السيد السيستاني معادلة صعبة للعالم اجمع
وخصوصا الادارة الامريكية لحكمته العالية وقراراته الصائبة والدقيقة
خصوصا خلال المرحلة الحرجة التي مر بها العراق ولعل المتابع لسيرة ذلك
الرجل العظيم وتاريخه الطويل يجد شخصية هذا الرجل الزاهد شخصية خيالية
يستحيل وجودها او تكرارها في هذا الزمن
الشخصية الاكثر تأثيرا علي الانتخابات العراقية هي رجل دين زاهد
يبدو عليه الوهن ولا يظهر في أماكن عامة وليس حتي مرشحا في الانتخابات.
ويظهر وجهه ذو اللحية البيضاء علي العديد من ملصقات الدعاية
الانتخابية لكن اسمه لا يظهر في اوراق الاقتراع ولن يتولي أي منصب
سياسي.
ويتنصل اية الله العظمي علي السيستاني المرجع الشيعي الاعلي في
العراق من أي دور سياسي مباشر لكن ليس هناك عراقي اخر له نفوذ سياسي
يقترب من نفوذه منذ أن أطاح الغزو الذي قادته الولايات المتحدة بصدام
حسين.
فعالم الدين ذو العمامة السوداء هو الصوت الاساسي للمعتدلين في
العراق بعد الحرب حيث يتطلع الشيعة الي فتاواه التي يصدرها من مقره شبه
المعزول في النجف.
وتمكن السيستاني الذي ينتمي للمدرسة الشيعية التقليدية التي تتجنب
أن تكون لرجال الدين سلطة سياسية من اجبار واشنطن علي تغيير خططها بشأن
التحول السياسي في العراق مرارا وتكرارا.
فقد أصر علي اجراء انتخابات مبكرة وهو ما تعتبره الاغلبية الشيعية
التي تمثل 60 بالمئة من سكان العراق أفضل سبيل لتغيير الاضطهاد والعزلة
عن السلطة اللذين استمرا لعقود.
وظل السيستاني بعيدا عن السياسة في عهد صدام لكن بعد سقوطه في أبريل
نيسان عام 2003 أصبح رجل الدين ايراني المولد شخصية محورية رغم بقائه
في مقره في النجف.
والي جانب اصراره على أن تفي ادارة الرئيس الامريكي بوش بتعهداتها
بشأن الديمقراطية باجراء انتخابات مباشرة كان على السيستاني التصدي
لتحد داخلي من جانب الزعيم الشيعي مقتدي الصدر الذي كان عازما علي
مواجهة الامريكيين.
واستند الصدر الي مكانة والده الراحل اية الله محمد صادق الصدر خصم
صدام الذي اغتيل في استثارة حماس اتباعه من الشبان والفقراء.
وأثارت انتفاضتان قامت بهما ميليشيا جيش المهدي التابعة للصدر ضد
الامريكيين العام الماضي كبار زعماء الشيعة الذين استشعروا الخطر في
رجل الدين الشاب.
لكن السيستاني حرص على عدم شجب الصدر بل استغل مكانته وقدرته على
الاقناع في نزع فتيل أعمال عنف شهدتها النجف ومزاراتها المقدسة في
أغسطس اب الماضي.
ودفع القتال بين ميليشيا الصدر من ناحية والقوات الامريكية والقوات
العراقية من ناحية أخرى السيستاني للاسراع بالعودة من رحلة علاج أجريت
له جراحة خلالها في مستشفي في لندن للتوسط في اتفاق سلام.
وألقى تدخله الحاسم في هذه الازمة التي بدت مستعصية علي الحل الضوء
على قوة تأثيره.
ورحلة السيستاني /73 عاما/ للندن كانت الاولي التي يغادر فيها النجف
منذ سنوات.
ورغم معارضته لاي مواجهة عنيفة مع قوات الاحتلال التي تقودها
الولايات المتحدة رفض السيستاني لقاء بول بريمر الحاكم الامريكي السابق
للعراق الذي أخطأ في تقدير الحجم الحقيقي لنفوذ السيستاني.
واضطر بريمر لتعديل خطط التحول السياسي في العراق بعد أن خرج عشرات
الالوف من العراقيين الى الشوارع في أواخر عام 2003 لتأييد دعوة
السيستاني لاجراء انتخابات مبكرة.
ولجأ بريمر بعد ذلك الي الامم المتحدة التي كان قد أبعدها من قبل
لمساعدته في اقناع السيستاني بأن الانتخابات غير ممكنة قبل اعادة
السيادة إلى العراقيين رسميا في يونيو حزيران عام 4.200وأعطي السيستاني
موافقة مشروطة علي تعيين الحكومة المؤقتة في يونيو حزيران قائلا انها
تفتقر للشرعية الانتخابية لكنها خطوة في الاتجاه الصحيح وبعد كل هذه
الاحداث والانجازات التي حققها الامام السيستاني بصمته وحكمته واسلوبه
المحنك الواعي للحدث انشغل الامريكان بدراسة شخصية هذا الرجل العظيم
والكبير وجندت كل طاقاتها الاستخبارية والتجسسيية لدراسة شخصية هذا
الرجل واطواره الغريبة وحكمته السياسية التي يفتقد لها الكثير الكثير
من المحنكين السياسين ولكنهم عجزوا وفشلوا عن فهم فكر واسلوب وخلفية
وسر هذا الرجل وتعامله مع الازمات ولعل بريمر سيكون الشاهد الوحيد
للرئيس الامريكي وشعبه لنقل عبقرية هذا الرجل العظيم الذي طلب منة
بريمر شخصيا اللقاء به للتحدث حول الوضع الراهن بالعراق فاجابة
السيستاني (انا ايراني الاصل وأنته أمريكي فكيف لنا التحدث بشان
العراق)كان جواب سماحته قنبلة مدوية ورسالة واضحة للرئيس الامريكي
واخيرا لابد للحق ان يظهر وكلمة الحق هي العليا كيف لا ونحن نقرا اليوم
صحيفة نيويورك تايمزحيث رشح كاتب الافتتاحية في صحيفة "نيويورك تايمز"
الصحافي المعروف توماس فريدمان منح آية الله العظمي علي السيستاني احد
مراجع الشيعة في العراق، جائزة نوبل للسلام تقديرا لعمله من اجل
الديموقراطية في البلاد.
وقال فريدمان "انني جاد"، معددا النجاحات التي تستحق جائزة نوبل.
وقال "اذا كانت شبه ديموقراطية تقام في العراق فهذا يعود الي حد كبير
الي حدس السيستاني والتوجيهات التي اصدرها".
كما شدد فريدمان علي دعواته المتكررة الي الهدوء ومعركته من اجل
تنظيم انتخابات عامة في العراق ورفضته الانتقام رغم اعمال العنف التي
استهدفت الشيعة في العراق.
واوضح فريدمان ان السيستاني "تمكن من بناء شرعية ليست دينية فقط بل
سياسية تتمحور حول تطور العراق"، ولم يستخدمها لتمييز "نخبة صغيرة" من
رجال الدين الشيعة.
واخيرا رأي فريدمان ان السيستاني رجل متواضع لا يغادر منزله في
النجف الا نادرا وعرف "بفضل حكمته" كيف يتصدي للفوضي التي اوجدها صدام
حسين
اخيرا انتصر السيستاني المستقل الذي لاينتمي الى اي حزب او تحالف
فلم تشغله المناصب ولا المقاعد قلة او كثرة فهوا منتصر باعتداله
واسلوبه وشعبيته بين محبيه في العالم اجمع فلتكن شخصية السيستاني مثال
صارخ لكل المسئولين العراقيين الذين يلهثون وراء المناصب ليقتدوا
بسماحته ويستبصروا من فكرة النير والعميق ومن حكمته في تلافي الازمات
وحلها سلميا واخيرا امنيتي ان يكون كل مسؤول سيستاني في الفكر والحكمة
والاعتدال. |