بعد أن شهدت المدن العراقية تظاهرات حاشدة احتجاجا على قيام عائلة
الأردني رائد البنا بالاحتفال بخبر انتحار ابنها وسط حشد من العراقيين،
وبعد أن طالبت شخصيات إسلامية عراقية باعتذار الملك عبد الله شخصيا عن
هذا الحادث وعن حوادث أخرى، وطرد بقايا نظام صدام المتواجدين على
الأراضي اللبنانية، يبدو أن الحكومة الأردنية قررت ممارسة لي الذراع مع
الإرادات السياسية العراقية مستغلة جملة من الأوضاع الحرجة التي يمر
بها العراق، وإلا فإن الاعتذار للشعب العراقي عن جريمة نكراء ارتكبها
مواطن أردني وعن قيام عائلته بالاحتفال به، هو أضعف ما يمكن أن يقدمه
الملك عبد الله للعراقيين، فلو كان نظام الأردن يشعر تجاه العراق بما
يشعر به تجاه إسرائيل، لعد ذلك الاعتذار ضربا من السياسية والدبلوماسية
ومطلبا يتطلبه الخلق العلاقاتي بين الدول، إذ سبق لملك الأردن السابق..
الملك حسين والد الملك عبد الله أن اعتذر للإسرائيليين جراء إقدام
مواطن أردني بقتل مجموعة من السياح اليهود.. لم يعتبر الملك حسين وقتها
أن الاعتذار يشكل إهانة للعرب والمسلمين والأردنيين، وانطلق من كون
الفعل يؤثر سلبا على علاقات بلاده بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول
الأوربية فهم بالاعتذار، ولكن الملك عبدالله لم يعتبر قتل العراقيين من
قبل الأردنيين عملا يستحق الاعتذار.. لم يريد أن يرى الأمر من زاوية
أخرى إنسانية، فحين يقتل شخص شخصا آخر يفترض بعائلة القاتل أن تُقدم
التعازي للعائلة المنكوبة وتشاركها العزاء.. لم يعتبر الملك الأردني
الاعتذار للعراقيين مواساة لهم، ووقوفا إلى جانبهم في محنتهم وتبرؤا من
الإرهاب الذي يفترض أن لا دين ولا وطن ولا قومية له.. بل اعتبر اعتذاره
للشعب العراقي الذي يفترض أنه شقيق لشعب الأردن إهانة له ولبلده.. هذا
المنطق من الفهم والتعاطي السلبي مع العراقيين فيه من الغرابة الكثير..
لماذا هذه الأنفة والفوقية.. لماذا ينظر الأردن إلى الدم العراقي بأنه
رخيص ومستباح ولا يحق للعراقيين أن يحزنوا على قتلاهم.. لماذا يُتهم
الجلبي بتحريك الشارع العراقي الغاضب.. لماذا تتهم إيران بوقوفها وراء
التظاهرات في الشارع العراقي، وهي اتهامات تستخف بوعي العراقيين الذين
أثبتوا أنهم أكثر وعيا من الكثير من الشعوب في المنطقة، كما فيه تكرار
لشريحة واسعة من العراقيين بالعمالة لإيران، وأنهم يتلقون أوامر
وتوجيهات منها، لا بل وصل تجاوز الخطاب الأردني إلى حد التطاول على
أحزاب شيعية كبيرة وعريقة واتهامها بأنها تدور في فلك حرس الثورة
الإيرانية..
وأمام هذه المعطيات يبدو أن الحكومة الأردنية قد اختارت القطيعة مع
العراقيين، لظنها أن العراق وفي ظل ظروفه الحالية لا يمكن له أن يستغني
عن الأردن الذي اعتبره البعض رئة العراق التي يتنفس خلالها ويطل منها
على العالم..
الأوراق الأردنية..
ليس بيد الأردن الكثير من الأوراق ليلعبها على طاولة التجاذب بينه
وبين العراق، فهو يعتمد على ما يدره التبادل التجاري بين البلدين، كما
يعتمد على النفط العراقي، وبالمقابل ليس لقطع علاقاته مع العراق أي
تأثير سلبي بعيد المدى على السوق العراقية، ولكن يمكن للأردن أن يلعب
دورا مؤثرا في الساحة العراقية على الصعيد الأمني، فحين يختار الأردن
فتح حدوده بطريقة غير مشروعة مع العراق ودس الإرهابيين والبعثيين
الهاربين ودعم النشاط الإرهابي أكثر، بإمكانه أن يصعد كثيرا من وتيرة
الأعمال المسلحة داخل العراق، ولكن في مقابل هذه الرأي هناك من يرى أن
ليس لدا الأردن مزيدا ليفعله في هذا الصدد، فالجوامع في المدن الأردنية
تعيش حالة استنفار منذ سقط صدام وتبث الخطب المحرضة على الإرهاب في
العراق، والبعثيون يمارسون نشاطهم التخريبي دون تضييق، بل بتشجيع من
الحكومة الأردنية أو من بعض المؤسسات الأردني أحيانا، ومن ثم فإن ما
يخشى أن يفعله الأردن قد كان..
الأوراق العراقية
لدا العراق الكثير من الأوراق السياسية والإقتصادية ليلعبها مع
الأردن، فهذا الأخير يعتمد اقتصاديا على الإعانات الخارجية ويعاني
اقتصاده من مشاكل كبيرة، ويسهم التبادل التجاري مع العراق، كما يسهم
الترانزيت لحساب العراق في دعم اقتصاد الأردن بشكل كبير، وبالتالي فإن
اعتماد الحكومة العراقية طرقا جديدا لتمرير مستورداتها، وبحثها عن
بدائل للبضائع الأردنية يجعل السوق الأردنية تخسر عميلا كبيرا ومهما..
كذلك على الصعيد السياسي لا يصب في مصلحة الأردن أن يكون في نظر
العراقيين، ولا سيما الشيعة بأنه مساند دائم لنظام صدام وأنه يقف بوجه
حركة التغيير والتنمية التي يشهدها هذا البلد، وتفكير من هذا النوع حين
يجد له مجالا في الذهن السياسي الشيعي سيضيع على الأردنيين فرصة تصحيح
العلاقات مع شيعة العراق، ولاشك أن هذه الفترة بالذات تعتبر فرصة
تاريخية للأردن كي يطوي صفحة الماضي وينطلق بعلاقاته مع العراقيين دون
عقد طائفية..
الخيار الأردني
ولكن مع ذلك يبدو أن الحكومة الأردنية ما زالت تراهن على أشياء
أصبحت من الماضي، وما زال الملك الأردني عبد الله الثاني يجهد نفسه في
زيارات مستمرة للولايات المتحدة يريد من ورائها تغيير المعادلة
السياسية في العراق وفقا لما كانت عليه قبل سقوط نظام صدام..
يريد عبد الله الثاني أن يكون للعائلة الهاشمية دور في العراق ويدعم
بقوة ابن عمه الشريف علي بن الحسين الذي لا يريد أن يعرف هو الآخر، أنه
بات يجيد اللغة الانكليزية أكثر بكثير من إجادته اللغة العربية..
لايريدان صاحبا الفخامة أن يدركا أن التاريخ تجاوز المرحلة التي
يمثلانها، فعادة الحكومات الملكية حين تتطور تصبح جمهوريات، ولم نسمع
أن دولة جمهورية تطورت لتكون ملكية.. الرياح اليوم هي رياح التعددية
والديمقراطية، والغريب أن العالم العربي كان انعكاسا دائما لما يجري في
أوروبا، فالرياح القومية التي شهدها الوطني العربي قد هبت عليه من هناك
مطلع القرن الماضي، والرياح الديمقراطية هبت عليه أيضا من ذات المكان،
مع أن الإسلام الحنيف الذي تنازل عنه العرب وتبنوا قيم البداوة ملئ بكل
ما هو إنساني وتعددي وديمقراطي بحسب الاصطلاح الحديث..
على أية حال يبدو أن الأردن قد اختار التصعيد مع العراق، الأمر الذي
سيسهم في تقوية دعائم الحكومة العراقية التي عبرت في مواقفها بهذا
الخصوص عن مشاعر العراقيين الذي سيلتفون حولها حين يجدونها قد حملت
مشاعرهم محمل الجد، وهذا الأمر هو من بين الاختبارات السياسية الصعبة
التي تواجه سياسيي العراق الجديد..
|