تعرّف الموضوعية Objectivity بانها النظر والحكم على الاشياء
والاحداث والظواهر والاشخاص بنزاهة وتجرد وبعد عن الاهواء والميول
والاتجاهات الشخصية والتعصب العنصري او المذهبي . هكذا عرفها د. فرج
عبد القادر طه في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، اما الذاتية
Subjectivity فتعّرف بانها تقييم الامور او الظواهر او الاحداث او
الاشياء او الاشخاص تقييماً متأثراً بذاتية الباحث وبما تنطوي عليه من
ميول واتجاهات وعواطف وتعصب يعميه عن اكتشاف الحقيقة المجردة ورؤيتها
بوضوح، وهذا بطبيعة الحال يفسد البحث ويشوه الدراسة ويجعل نتائجها
زائفة.
ولو تأمل اي منا نحن البشر في افعاله وما يصدر عنه من سلوك او احكام
لوجد انها تتعارض في احيان كثيرة مع الواقع، ربما تكون في لحظة انفعال
او بشكل متسرع تحت ضغط الموقف، فعندما يكون الانسان مرتاحا تتقارب
احكامه من الواقع بحقيقته بينما تكون انفعالاته هي الحكم على الاشياء
او المواقف في لحظات اخرى، وعليه فان الموضوعية المطلقة أمر يكاد يكون
حالة اقرب الى الخيال، لذا لجأ الانسان الى ان يتموضع، والتموضع
Objectivization بعامة هو تحويل الذاتي الى موضوعي، لذا يجاهد الانسان
العاقل، المعتدل لان يتخطى الذاتية قدر المستطاع، وما امكن وعلى هذا
الاساس يرى (هيجل) ان الوعي لا ينشأ من فراغ بل في علاقة بالآخر تمتد
من المهد الى اللحد اذا صح التعبير، وعليه يفرق هيجل بين التموضع
بمعناه الايجابي المقبول تفريقا جوهريا، وازاء ذلك فان الامر امر موضعة
كما يقول علماء النفس وهو اقرب الى الصدق الواقعي منه الى ضرب من ضروب
الخيال غير الواقعي وغني عن البيان بالقول ان فهم ومعالجة ما يدور داخل
انفسنا في مواقف الحياة المتنوعة واحكامنا التي نصدرها تعبر عن تلك
اللحظة في مواقف كثيرة وعليه ان البحث في هذه الموضوعات يعد بمثابة
رحلة في مجاهل النفس وهي بنفس الوقت الغوص في اعماق النفس بحثا عن
الاعتدال في الاحكام التي يصدرها اي منا مستعينا تارة بقدرته واطاره
المرجعي والخلفية الثقافية والتربوية التي شكلت مكونات ذاته كاساس
تكويني، وتارة اخرى كاساس ما يتيح له ان يكون دليلا ومرشدا مأموناً في
اجتياز طرقات ومتاهة النفس .
اما الاعتدال "الوسطية" في الاحكام او السلوك، فهي الحكم على
الاشياء ما امكن على امور الحياة وفي التعاطي مع مفرداتها بتموضع اقرب
الى الحياد والتوازن، وهو يمثل خياراً ليس تقليدياً بين عدد من
الخيارات او مستوى ترجيحياً بينهما.
يرى علماء النفس ان للموضوعية والاعتدال في الشخصية بعض الخصائص من
اهمها :
- الشمولية والتكامل في الاحكام والتقييمات
- الادراك الشمولي للذات
- اتساع البعد الاخلاقي
- سعة الادراك
- نضج العلاقة بالاخر
- النمو النفسي – الاجتماعي السوي
- الاعتدال السلوكي
يقول د. عبد الوهاب المسيري: تعبر
الموضوعية عن ادراك الاشياء على ما هي عليه دون ان يشوبها اهواء او
مصالح او تحيزات، اي تستند الاحكام الى النظر الى الحقائق على اساس
العقل، وبعبارة اخرى تعني الموضوعية الايمان بان الموضوعات المعرفة
وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وان الذهن يستطيع ان يصل الى ادراك
الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها ادراكاً كاملاً . وازاء ذلك يكون
النقيض من هذا هو الذاتي، اي ان الشخص الذي ينطلق من الذات في حكمه على
الاشياء من حوله، فهو يفهمها ويحدد موقفه منها ويتصرف معها انطلاقاً من
مشاعره ورغباته وتجاربه ومصالحه وميوله واهوائه الشخصية .
فالموضوعية اذن هي الطريقة المضادة للتفكير الضيق، اما الذاتية فهي
تزييف الحقيقة، ففي الموضعة يكون الاحساس حالة عاطفية اميل الى
العقلانية وتتطابق ازاء ذلك مع الفعل الذي يصدر في مواقف الحياة
المختلفة ويتعامل معها بكل تعقل، ف(كارل بوبر)يقول في كتابه (اليوتوبيا
والعنف) اني انسان عقلاني، لانني ارى في موقف التعقل البديل الوحيد
للعنف، والعقل هو النقيض المباشر لاية وسيلة من وسائل القوة والعنف،
وهو اللاعنف بعينه، وهو لغة ومنطق الرسل والانبياء، وهو منطق السلم
واللاعنف والاحتجاج العقلاني من اجل انقاذ البشرية كما عبر عنه( السيد
محمد الحسيني الشيرازي) مؤسس نظرية اللاعنف الاسلامي المعاصرة.
كان وما زال الحكم المعتدل والموضوعي هو الاساس الذي يخدم البشرية
في حل المشكلات الحياتية المتنوعة، الاجتماعية ،النفسية، التربوية،
الفكرية والسياسية في اي مجتمع كان، متحضرا ام متخلفاً وخصوصا اللجوء
الى اللاعنف والمسالمة في المنازعات ورؤية الاشياء بعين واسعة
وبموضوعية متعقلة، وعليه يقودنا هذا الطرح الى مسألة اساسية في ميادين
الحياة كافة، فليس بخاف على اي منا نحن البشر ان في التطرف والتصلب في
التفكير ذاتية مقيتة تعمي العقول وتشوه الادراك وهي بنفس الوقت تبعدنا
عن الاحاطة الكاملة بكل الامور وهي تقوم اساساً على الفكرة النفسية
القائلة : نحن نرى ما نراه، لاننا نريد ان نراه، وليس الذي يجب ان نراه،
وهي حساسية انتقائية في الادراك، تشوه المعلومة قبل ان يعالجها العقل
بموضوعية وحكمة وهي قمة الذاتية وتقود الى الابصار المحرف والرؤية
المعوجة .
اننا في التعقل نلجأ الى الاعتدال، وفيه نجد ان الموضوعية الحقة هي
التي تأخذ في الاعتبار متغير الذاتية وفي ذلك يقول عالم النفس الشهير (مصطفى
زيور) ان الفروق بين الانسان المريض نفسياً والانسان السوي فروق نسبية
نستطيع ان نلخصها في ان السوي استطاع بحنكته ان يستظل بالاعتدال
والموضوعية دون الانزلاق في شقاء الذاتية المطلقة التي تقود الى
الاحكام المتطرفة، وهي المرض النفسي بعينه، فالنفس في بنيانها تظل ابداً
تبحث عن الامان والمسالمة والتسامح اكثر مما تبحث عن العنف الإ من كان
به مرض. اما متغير الصحة النفسية فهو يتشابك بشكل ملحوظ في هذين
المتغيرين، فلا يوجد شخص معتدل وموضوعي يشقى من العلل ولكن نرى العكس
وهو صحيح تماما، لم يبرأ المتحيز، المتطرف، الذاتي من الانانية والمرض
النفسي وازاء ذلك يعرف د. عمر شاهين استاذ الطب النفسي في جامعة
القاهرة الصحة النفسية بانها التفاعل المتزن والمتكامل بين مكونات
الانسان، ومن معاييرها :
- درجة معتدلة من الثبات في السلوك
- قدر مناسب من الثبات الانفعالي
- التعاون مع الاخرين في المجتمع
- التفاعل الايجابي مع الواقع وتقبله
- الصدق مع النفس
ولسنا مغالين نحن معشر السيكولوجيين لو قلنا ان الصحة النفسية هي
القدرة العالية على الانتاج والعمل واضفاء المحبة والتواد على الاخرين
دون الشعور بالنقص، لذا فالاعتدال ينطلق من ذات تفسر المواقف الحياتية
بصورة موضوعية وتعالجها بصورة مسالمة بعيدة عن التزمت والتصلب والجمود،
وهو قمة التوافق والصحة النفسية .
* السويد - استاذ جامعي وباحث سيكولوجي
elemara_32@hotmail.com |