إن من ينفي القول بأن جزء كبيرا من مجتمعنا يميل كل الميل بشعوره
وعواطفه إلى الثورة الإسلامية في إيران والى حزب الله في لبنان ،
عقائديا وسياسيا وربما حزبيا؛ فهو ممن يتهرب عن عرض الحقائق كما هي،
بأشكالها ومضامينها .
وإن من ينفي القول بأن ولاء هذا الجزء الكبير حل بديلا عن الولاء
للسلطة والعائلة الحاكمة ولا علاقة بينهما من قريب أو من بعيد ؛ فهو
ينأى بنفسه عن ذكر الحقائق ومعانيها الواقعة ويتلاعب بالأوصاف اللفظية
.
وان من ينفي القول بأن التقليد المرجعي هو تقليد عقائدي وسياسي
وثقافي جامع ولا يختلف في مفاهيمه بين كون المرجع بحراني أو غير بحراني
، عربي أو غير عربي ، محلي أو خارجي ، فهو لا يفقه شيئا في المفاهيم
الشيعية .
لماذا إذن لا نعترف بالحقائق حتى تنطبق ألفاظنا تماما على معانيها
فنسمي الأشياء بأسمائها بعيدا عن التورية السياسية وغيرها من آلات
الغموض والتقية ، وحتى يتسع لنا المقام في عرض خلفيات كل حادثة تتكرر
فنرجعها إلى عللها الأولى لنكون كمن سد باب التبرير الدفاعي الهجين إلى
الأبد؟! .
ولماذا نضطر دائما إلى متابعة ومراقبة أقوال وخطابات وكتابات تلك
الشبكة الإعلامية المشؤومة فنرد بالنفي لوقائع لها مظاهر خارجة على
أرادتنا نؤيدها بعاطفة أو نتبعها بإيمان، أو نرد على وقائع تصنعها ظروف
استبداد غيرنا وكان مبدأ نشوئها خلفيات تاريخية سلبية لعبت الأنانية
والقبلية السياسية والطائفية الدور الأعظم في نموها وتضخمها؟!.
إننا بتلك التورية ودلالتها المكتنزة نصنع مجتمعا يغلبه الشعور
بالنقص وهو مراد تلك الشبكة المشؤومة ومن يتخفى خلفها، كما أننا نصنع
بذلك فكرا سياسيا واجتماعيا يتلقى اتباعه الليل جملا حين يدعو الداعي
إلى الصبر على الملمات ، أو حين ينادي المنادي إلى العقل الواعي في
الأزمات ، أو حين يشير المشير إلى وجوب التحدي لبناء الذات بناء خالصا
لله سبحانه وتعالى. فلسنا نصنع حسنا حين نترصد أقوال وخطابات وكتابات
ذوي التخلف الثقافي والفكري والوطني أو صناع الهوى والترف اللفظي!
ولنا في إمامنا أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) عبرة كبرى ، حينما
أطلق في مقدمات نهضته كلمات أتمهن في وضوح تام وصراحة مطلقة. وأبى الا
ان يخوض رحى النضال على سبيل إصلاح أمة جده محمد(صلى الله عليه وآله)
بعزم لا يلين ويقين لا رجعة فيه ولا تردد ، فأحسن اللفظ في شرح وضع
الأمة ونظامها الديني وحالها السياسية والاجتماعية ، كما أحسن اللفظ في
نداءاته ، فقال فيما قال : «إني لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالماً ولا
مفسدا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد أريد أن آمر بالمعروف
وانهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي» .
ولم يتقصد الإمام (عليه السلام) بكلماته تلك لعبا بالألفاظ حسابا
لموازين السياسة أبدا، لذلك كانت نهضته نقية طاهرة لا تقبل الجدل حتى
عند اعدائها ومناهضيها . فالفساد الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي
في الأمة آنذاك كان حقيقة واقعة مستشرية وليست مجازا لهويا هادفا الطعن
في رسالة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) لدوافع تنافسية او عصبية او
قبلية عشائرية ، كما لم يكن الفساد هذا وليدا للحظة مفاجئة عصفت بالأمة
كعاصفة الموج الهائج القادم من أعالي البحار لظاهرة طبيعية حلت بقشرة
الأرض فمات بأثرها معاوية مأسوفا عليه ثم اعتلى من بعده ابنه يزيد سدة
الحكم والخلافة في قصة دراماتيكية والأمة فيها لم تزل بعد على أول طريق
معرفة حق الخليفة الحزين يزيد وشريعته واجتهاداته! . إنما الفساد آنذاك
كان مشاعا وطال الشريعة ورموزها ولمس جذور عقائدها وتطبيقاتها.
وشهد الامام الحسين (عليه السلام) تبعات تعيين يزيد وليا للعهد في
رابع انتكاسة على نمط قياصرة دول شمال البحر المتوسط ، مثلما شهد تبعات
حكم معاوية ودولته من قبل. فعندها أطلق أبو عبد الله (عليه السلام)
كلماته العظيمة صريحة بلا مواربة او تورية ،مريدا منها كامل ذات المعنى
لا معنى آخر ولا جزء منه ولا ملامسة أو مقاربة له. فلا سياسة ولا "شعرة
معاوية" عند أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) تقسم الشريعة إلى ماض
غُفر له وحاضر يستوجب النظر إليه بعين واحدة وبجزء من اللفظ او بتبعيض
للعقل او الرأي والموقف، او بنظر الى مستقبل يستوجب كسبه سياسيا في حال
الى جانب أهل بيته (عليهم السلام) والقفز اليه في حال أخرى بوصفه من
متطلبات الاحتياط والحذر.
لذلك كان خروج الحسين(عليه السلام) من المدينة واضح الطريق والهدف ،
وكانت المعركة في علمه حتمية وان النصر بالنسبة إليه واقع لا محالة ،
وان المتخلف عن ركب كربلاء وعن خوض وقائعها لن يبلغ الفتح . والفتح في
هذه المعركة ليس قضاء مجازيا على سلطة لكسب عرش سلطة أخرى تمتد بأذرعها
الدافئة لتحتضن بقدرتها وسلطتنها ومناصبها واموالها وجاهها طلاب فتح
الحسين (عليه السلام) ونصره، بل إنها تقويض حقيقي لسلطة وراثية منبوذة
دينيا وتدمير لكل أسسها وقيمها وقواعدها وجذورها وعمقها التاريخي .
وكانت الخاتمة كسبا ونصرا وفتحا حقيقيا مؤزرا لسلطة مطلقة بحجم وبقداسة
جزاء (قل للشي كن فيكون).
وإذا كنا من الباحثين عن الحقيقة وعِبرها ، فإن هذا الإمام العظيم
في شريعتنا وعقائدنا وتاريخنا وتقاليدنا وأعرافنا إمام مفترض الطاعة
ونور قبل الخلائق ومثال متكامل لا ينفك عن القرآن الكريم والسنة
النبوية كما في قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) :" إني تارك فيكم
الثقلين , كتاب اللّه وأهل بيتي , وانهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ
الحوض) .
فلا معنى إذن أن يطلق عشاق الحسين(عليه السلام) كلمات وخطابات
ومواقف لا تعكس صور الحقيقة بكاملها حين تتعرض القيم والأوطان والأنفس
إلى أخطار تُهم سياسية وأوصاف إعلامية رخيصة موجهة للنيل من مظاهر
الالتزام الديني أو الوطني حين يعبر البحرانيون عن مودتهم للحسين(عليه
السلام) عبر إحياء شعائر يوم الطف ووقائع كربلاء.
أليست الأوضاع القائمة في البحرين تستوجب منا النظر بعمق إلى منهج
الإمام (عليه السلام) في القول والفعل بعيدا عن التلاعب بالألفاظ في
ردود الأفعال بأشكالها الخطابية والكتابية المنبثقة عن نظريات سياسية
قائمة أثبتت حتى اليوم عدم جدواها مع متطلبات المرحلة الراهنة وتراجعها
وتأخرها عنها إضافة الى ضعفها ووهنها في مقابل تلاعب السلطة بلا
مسؤولية وطنية او نظر صادق لمصلحة البلاد ومستقبلها.
ففي مقابل التصريحات الموجهة وغير المسؤولة والموغلة في تبعيتها
الأمنية والطائفية المشككة في مواطنة المحتشدين لإحياء شعائر عاشوراء
والمتهمة إياهم بالتمرد على الوطنية والوطن واستغلال مواكب العزاء
للتعبير عن الولاء لشخصيات أجنبية غير وطنية - خاضت السلطات وجهاتها
الرسمية مع الخائضين ممن لا يملك عقلا حرا صافيا مستوعبا لمفاهيم
الحياة الوطنية ولا حقائقها في بلادنا ،لا في ألفاظها ولا في معانيها .
فخَرْق حجاب الوطنية بحقائقها يجري على خارطة مؤسسات الدولة بسرعة
الصاروخ ، واما الإجراءات الأمنية والادارية والعسكرية وتوازناتها
الطائفية بلا عدل فقد مضى على سيادتها في مجتمعنا أكثر من مائة سنة ،
وكانت إحدى مظاهر هذه السيادة ولادة تلك الشبكة الإعلامية المشؤومة
والمؤلفة من لون خاص من الناس لا هم له إلا انتظار مكالمات الثناء
والحمد تفد اليه من هذه الجهة الرسمية او تلك السيادية بعد مقال او
عمود او تحقيق صحفي يؤلب من خلاله الأوهام على الحقائق والأرقام . كل
ذلك يجري وادوات الشعور والاحساس معطلة عند هؤلاء الخائضين الصم البكم
العمي المشككين في وطنية الآخرين.
إن من يجردنا عن وطنيتنا بهذه السذاجة يفصح عن مظاهر أزمة فكر وطني
واقعة في ذاته ومن يسنده ، ويفصح عن نظرة جاحدة للوقائع بلا قاعدة
مفاهيم ثابتة وخلاف ثوابت ناطقة في ذهنه {وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل.وفي اعتقاده أن
الوطنية لا تتمثل الا فى ذات قطب واحد حصرا هو مصدر العطاء والفيض لها
، وشاءت الاقدار ان تكون ذاته المريضة ومن على شاكلتها من آثارها
الأولى! . فذلك من قول يراد من ورائه تعزيز ازدواجية باطلة كما يراد من
ورائه تعزيز نقص في ذوات الاخرين وثقتهم في أنفسهم وحقوقهم الوطنية.
فلا حق للجاهل بالوطنية وشروط توافر اقطابها ومرتكزاتها ان يتحدث في
مطلق الوطنية وان يوزع صكوكها على من يريد ويتمادى في حبسها عمن يريد .
أن مثل الولاء السياسي في البحرين لمرجعيات خارجية غير وطنية لا
علاقة له البتة بالوطنية ذات القطب الطائفي الواحد ولكن مظاهره لا تنأى
عن قصور في الاداء السياسي والاجتماعي والثقافي المرجعي في بلادنا أيضا.
ولا يقوم الولاء لجهات سياسية خارجية ايضا الا لقصور ذاتي في السلطة
ذاتها وفي رموزها على صعيد شرعيتها ووطنيتها، وصدقها والتزامها
بالمواثيق والعهود، وكفاءة سلطاتها الثلاث ، ونمط علاقتها بسيادة الوطن
وسيادة حق المواطن.
فمنذ يوم " الفتح" الى يومنا هذا فشلت السلطة في تحقيق وطنيتها
بالفعل والقوة كما فشلت في صناعة ثقافة الولاء بالفعل والقوة . وفشلت
في صناعة رموز الولاء كما فشلت في صناعة قانون شرعي يعرف الولاء ويعززه
وطنيا..
ومنذ ذلك " الفتح التاريخي" مرغ مفهوم الولاء للوطن في وحل
الاستفزاز الطائفي السياسي وتنوع وسائل اللعب بالتوازن الديمغرافي
الطائفي عبر تحالفات مع عشائر وقبائل تقطن بلادا اخرى كالسعودية
والاردن وسوريا. ومرغ هذا المفهوم أيضا في وحل طائفية امنية أممت
بأعداد هائلة من المجنسين العرب وغير العرب استوردوا من وراء الظهور
لشغل وظائف في مؤسسات قوى الامن والدفاع كقوات قمع وارهاب .وكذلك مرغ
مفهوم الوطنية بطائفية ادارية استبعدت من خلالها الطائفة الشيعية عن
وظائف مؤسسات الدولة الاستراتيجية من الدرجة الاولى والثانية ، وغلبت
عناصر من لون طائفي آخر في مؤسسات الدرجة الثالثة ، وكرس توازن بالنصف
بين موظفي الطائفتين في مؤسسات الدرجة الرابعة وما يعقبها. إضافة إلى
كل ذلك مرغ مفهوم الوطنية في طائفية سياسية واجتماعية همها "الوطني"
خلق شعور بالنقص الذاتي لدى ابناء الطائفة الشيعية امام الطائفة الاخرى
وذلك من خلال ثقافة العلو والاستكبار التي تشكل عماد التكوين الوظيفي
في دوائر الدرجة الاولى والثانية والثالثة ، وكذلك من خلال الثقافة
الطائفية الاحادية في مؤسسات التعليم والاعلام .
ومنذ يوم " الفتح" عزل التكوين الشيعي بكل رموزه وثقافته عن كل
فعاليات الدولة وحرضت ثقافة العلو ضده ، وأدخل في شتات سكاني في المدن
، وحوصر في القرى ، حتى لم يعد يفكر الا في استرداد شيئا من مجاله
الحيوي على صعيد الرزق، ما أثر بشكل سلبي على ثقته في ذاته امام مؤسسات
الدولة ، وضمرت خبراته العلمية والثقافية نسبة لما كان عليه قبل "
الفتح" فتقلصت في ذاته رغبة التنافس . كل ذلك ترك انعكاسا غير مستحب
على نظرته للرموز السياسية او الوطنية التي لا تمثل تطلعاته وتحدياته
للخروج من عزلته القسرية وازمته مع الذات في وقتنا الراهن .
ويعترف الكثيرون من متابعى وضع المرجعية والحوزات الدينية على صعيد
الرمزية الدينية بأن الطائفة الشيعية في البحرين فشلت بسبب ذلك الحصار
التاريخي وتلك الأزمة السيادية والطائفية في إعداد رمز مرجعي ديني
مُقلد أو مُتبع منذ مرجعية الشيخ يوسف البحراني في حوزة كربلاء المقدسة
، كما ان المرجعيات الدينية غير البحرانية في حوزات النجف وكربلاء وقم
المقدسة لم تكلف نفسها عناء التفكير في سد هذا النقص او معالجة هذا
العجز ، إذ كان همها منذ تبلور الفقه الاجتهادي منصبا على تخريج علماء
دين لا يتجاوزون في علمهم وثقافتهم مستوى مرحلة السطوح العليا فقط في
أحسن الأحوال ، ومن ثم يفدون على بلدهم البحرين وكلاء أو خطباء لا
مراجع دين . واستبعدت مرجعياتنا في الخارج عن تصوراتها مشروعا
استراتيجيا يضم مقررا بإعداد أو تخريج مرجعية دينية بحرانية تمثل ذاتها
وتساهم في بناء حوزة دينية مستقلة في جزيرة البحرين ؛ وذلك لعدم توافر
ساحة البحرين على ظروف أمنية أو سياسية تفي بالغرض والمقصد استراتيجيا.
إن من يتهم الطائفة الشيعية جزافا بعدم الوطنية ويطعن في إخلاصها
لهذه الجزيرة ، إنما يتهم ويطعن في ذاته ويعبر بذلك على ملأ عن قصوره
العقلي. فلماذا لا يرفع الغشاوة عن نظره ويجرد إحساسه من طائفيته
السياسية. ولماذا تشده الخشية دائما عن قراءة تاريخ بلاده قراءة منصفة
تعتمد المصادر السليمة ؟ .ولماذا يخشى من الحقائق العلمية والتاريخية
التي تجلي الحقيقة وتبعده عن أوهام الطريق ؟!.. إن عليه أن يثق تماما
بأن مظاهر التبعية لمرجعية سياسية أو دينية غير وطنية تبررها النصوص
الدينية عند الطائفة ، وتعززها الأوزار التاريخية التي لم تدفع دياتها
ثقة وصدقا، وتزيدها شدة ورابطة رواسب الإحباط السياسي والطائفي الذي
تتبنى سيادته بين الناس قوى رسمية تتوارى خلف عناصر إعلامية موتورة.
|