منذ
عهد الجاهلية كان طعام أهل الجزيرة العربية يقتصر على التمور واللحوم
وما تنتجه الأغنام والأبقار من حليب ومشتقاته. ولذلك كان الاقتصاد في
الجزيرة العربية يدور مدار هذه المواد الثلاث ومنتجاتها ،بيد أن مادة
التمر تعد أكثرها إنتاجا وتبادلا على الصعيد الاقتصادي وأكثرها رواجا
واستعمالا، برغم استعداد الأرض لإنتاج الكثير من الأعشاب وبقية ألوان
الزراعات .
النخلة في ذلك الوقت كانت معلما من معالم حب الوطن، ليس لهيئتها
الجميلة وقوامها الممشوق وألوان رطبها المثيرة، إنما لعلاقة المواطن
بهذا اللون من الزراعة . فالزراعة بشكل عام تنقسم من حيث النمو وعطاء
الثمر إلى نوعين : زراعة سريعة النمو فتأتي أكلها خلال أسابيع وليست
بحاجة إلى رعاية زراعية وجهد كبيرين يبذلان على مدى زمني طويل . وزراعة
أخرى بطيئة النمو ولا تعطي ثمارها إلا بعد زمن طويل يقدر في بعض
الأحوال بخمس إلى عشر سنوات تختبر فيه قدرات الزراع وقيمهم ، وتدخل
شجرة النخلة في هذا النوع من الزراعة ، حيث كان مجتمع البحرين الزراعي
القديم المميز بحسه الديني الوطني الرفيع يعتني كثيرا بهذا النوع من
الزراعة وإلى عهد قريب ،حتى ساءت الأحوال على الصعد السياسية
والاجتماعية والاقتصادية مع هيمنة وجشع أبناء آل خليفة الأولين
وحلفائهم بعد غزو البحرين ،حتى ساد الاضطراب الأمني فتوقفت زراعة
النخلة ودمر الكثير منها بعد نمو حركة العمران على غير هدى في المناطق
الزراعية ، وتوسعت ظاهرة "الدفان" منذ عام 1967م وامتدت على سواحل
الجزيرة خارج إطار القانون لتغطي مساحة 43.6 كيلومتر مربع ،ما اثر بشكل
كارثي على مصادر المياه الجوفية وانقطاعها عن المناطق الزراعية التي
تتواجد عليها النخيل بشكل مكثف.
لم
تكن شجرة النخلة مصدرا غذائيا يدفع المواطن في القرى إلى زراعتها فحسب
، بل كان القروي يكن حبا ومودة لهذا الوطن ومواطنيه فيجد في هذا الحب
وفي هذه المودة دافعه الأول نحو الاعتناء بمصادر الدخل والنمو
الاقتصادي الزراعي وبهذا النوع الصعب من الزراعة على غير عادة الطامعين
في مصادر الدخل السريع من خلال زراعة النوع الأول فقط من غير حساب لهم
الوطن والمشاركة في بناءه استراتيجيا أو من خلال المضاربة في سعر
المزارع والبساتين لجني الربح الوفير وان دمرت الأرض وزراعتها.
من
هنا يجد المواطن في القرى انه ظلم مرتين : مرة حين استكملت حلقة مصادرة
بساتينه كلها ومنتجها الزراعي خارج إطار القانون على مدى القرنين
الماضيين ، فلم يعد يمتلك منها الآن إلا اقل من عشرها تقريبا . ومرة
حين تعمدت بعض الجهات المختصة إهمال وتدمير أشجار النخيل وتحويل
البساتين إلى قسائم وعقارات تباع وتشترى في مضاربات همها الربح والكسب
السريع بلا حساب.
كان
أهل القرى في البحرين اكثر تمسكا بأرض هذه الجزيرة ، ونجد أن هناك بعض
الزراعيين لازالوا يميلون إلى هذه المهنة ويحنون إليها ويتذكرون أيامها
الحلوة ولكن أعدادهم تقلصت إلى نسبة اقل من 1% تقريبا من عددهم
الإجمالي إلى ما قبل 50 عاما.
وإذا
كانت هناك من روح وطنية متأصلة وعميقة الجذور عاشتها هذه الجزيرة ، فقد
تمثلت بين القرى في ذات الإنسان القروي الزراعي ، فهو عصب الجزيرة
الاقتصادي في مرحلة تاريخية مضت ، وما دلائل رعايته للزراعة طويلة
المدى إلا دليلا واحدا على عمق وطنيته، لكنه دفع ثمن تمسكه بمهمته
الوطنية باهظا من خلال ما لاقاه من محاولات للهيمنة الاقتصادية وما
أعقبها من محاولات إضعاف لموقف القرى اقتصاديا عبر مبرر تنويع مصادر
الدخل الحكومي الذي جاء على حساب الزراعة ، ثم من الإهمال الرسمي الذي
طال قراه وحياته الاجتماعية والثقافية .
هذا
القروي كان ولازال مصدر فخر واعتزاز في صبره على بلاء رزقه ووطنيته،
وفي تمسكه بدينه وقيمه ، وفي تمسكه بتاريخه المجيد وعطائه الوطني
الكبير ، وفي تمسكه بأهل البيت(عليهم السلام) . وقد لعب تمسكه بالإمام
الحسين(عليه السلام) وبقيم نهضته على وجه الخصوص دورا كبيرا في محافظته
على قيمه الدينية برغم التخلف العلمي والثقافي الكبير الذي ساد مناطق
القرى ولجوء البعض من المتمدنين البسطاء إلى إطلاق نعوت سخيفة تصف أهل
القرى بالجهل والبساطة وتصنف لهجتهم إلى لهجة الغرباء بقصد زرع حال
النقص في ذواتهم وعاداتهم وتقاليدهم وإخلاقهم، والحال انهم يمثلون
الأصالة الوطنية والدينية معا بكل صورها المثالية.
إننا
نجد اليوم ذلك التزاحم الكبير بين المساجد ومراكز الوعي والإشعاع
الثقافي ،وكنا على صغرنا نشاهد هذه المساجد والمراكز وقد احتلت سواحل
الجزيرة وأطراف القرى ووسطها لكثرتها ،فبين كل مسجد ومسجد هناك مسجد ،
وبين كل حسينيتين هناك حسينية ، وتتزاحم الحسينيات في القرى أكثر من
المدن . ولولا بركة الحسين وأهل بيت رسول الله (عليهم افضل الصلاة
والسلام) لما كانت هناك بقية من أهل القرى على الدين والعلم والثقافة
لما لاقوه من جشع وأطماع ومن ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية
والأمنية وغيرها حتمت عليهم الصبر والتحدي ، وحتى الضغوط السياسية
والثقافية التي وفدت عن طريق نشوء وتأسيس الأحزاب غير الدينية في القرى
بقصد استغلال ذلك الصبر والتحدي لم توفق في نموها واستمرارها برغم وجود
الأرضية المناسبة .
ولو
تتبعنا حركة القرى وأثرها السياسي والاجتماعي والثقافي في وضعنا الراهن
لوجدنا أن أبناء القرى هم اكثر الناس تفاعلا في مشروع البناء المؤسسي
المدني . وبين الشوارع المقفرة والأزقة المتهاوية لهذه القرى تجد
الجمعيات ومؤسسات النفع العام في نمو دائم .يضاف إلى ذلك: أن القرى
دخلت عالم الإنترنت وأجهزته بشكل عملي مجدي . فمن القرى نشأت صفحات
الإنترنت الشعبية والممثلة لمناطقها ، ومنها لعبت هذه الصفحات دورها
السياسي والثقافي المهم والفاعل على عكس المدن التي عاشت غربة اجتماعية
لكونها نشأت حديثا على مشروع إسكاني التقاطي غير متكامل البناء هدفه
الربح . وكأن أبناء القرى عزموا على تبني مشروع التحدي و" الإبدال
الحضاري" للتعويض عن التدمير الهائل الذي أصاب قراهم ومزارعهم وثقافتهم
وإنسانيتهم . وربما كان مثال ظاهرة صاحب "ملتقى البحرين" الأستاذ علي
عبد الأمام الذي اعتقل بالأمس القريب بتهمة التعرض لذات الملك في
ملتقاه الشعبي – ابرز ظاهرة إيجابية حضارية على تفاعل أبناء القرى مع
القضايا الوطنية والدينية وسعيهم الدؤوب نحو التعويض عما فقدوه في محنة
الجشع الاقتصادي التاريخي الذي ضرب غشاوة على التخطيط الحكومي ، وفي
محنة فشل السلطة التنفيذية منذ 40 عاما في رسم البلاد رسما استراتيجيا
يحفظ لها كل مكونات مجتمعنا وخصائصه ومميزاته الإنسانية .
والى
جانب ظاهرة الكمال القروي على مشروع استغلال التكنولوجيا استغلالا حسنا
كما في مسألة الأستاذ علي عبد الإمام هناك ظاهرة التراجع الحكومي نحو
إنماء الجشع الاقتصادي التاريخي القديم والهيمنة خارج إطار القانون
التي شهدنا أحد رموزها مؤخرا في قضية استباحة خليج قرية "توبلي" . فأين
الوطنية بين هاتين الظاهرتين المتزامنتين؟! ومن منهما يمثل النخلة
ورمزيتها مع ملاحظة الفرق بين بذل فردي إيجابي في ظاهرة "وطنية مميزة"
مثلها الأستاذ علي عبد الإمام في ملتقاه الإليكتروني وبين بذل مؤسسي
حكومي سلبي في ظاهرة "الحنين إلى جشع الأجداد" في الاستحواذ على
الأراضي والعقارات ومناطق الوفرة المالية الاستراتيجية خارج إطار
القانون؟!. فمع أي منهما نتضامن؟ |