ظهرت اراء عديدة ونظريات واتجاهات تدعم اساليب الحرب وتدعو الى
استخدامه في تحقيق الانتصارات وكسر شوكة الاعداء وتحطيم تاريخ الآخر
وسلب اواله او هتك اعراضه ، حتى ظهر في عصر التكنولوجيا اعلام الحرب ،
وعد آلة مضافة لآلة الحرب ، ربما كانت اكثر تأثيراً وقوة من فتك
السلاحوتأجيج مشاعر العدوانية ، وتدعو الى حرق الاخر شعباً او ارضاً او
تاريخاً، وعاون اعلام الحرب ثقافة العنف وشعراءه وكتاّبه حتى ظن البعض
ان لجيش العنف مؤسسات لا عسكرية فحسب وانما اعلامية وثقافية وتربوية
وحتى ظن البعض من الناس ان تجييش المجتمع هو واجب مقدس لخلق النفير
العام في نفوس الفتية والشبان والنساء والكبار ، اما الاطفال فحصتهم
التنشئة نحو التهيؤ للقادم الذي يبحث عن التعبئة دون الوعي بما سينتج
عنه هذا التطرف في كل شئ .. ولا نعتقد ان هناك موضوع واحد قد تعددت فيه
سبل التحفيز والحث وتضاربت فيه وجهات النظر كما تعددت وتضاربت في موضوع
العنف منذ اول عنف عرفه الانسان ايام قابيل وهابيل .
فالاتجاهات الفكرية الفلسفية والعسكرية والنظريات كلها اضفت على هذه
الدعوات اسماء متعددة ابرزها : حروب الانتصارات ، مقاومة الشرور ، ردع
الكفار ، ثني العدو ، قهر الوحوش .. وهكذا من مسميات تثير دوافع
العدوانية عند شعب ما من الشعوب او بلد ما او مجتمع ما .
ان الانسانية تحملت اوزار العنف ورجالاته ودعاته عبر قرون عديدة قبل
التاريخ وما بعده ، ما زالت وتائره تتزايد وتستقر ولم يتوقف هذا الحفيف
، ولو تأملنا للوهلة الاولى ان هنالك تعاضاً اساسياً واختلافاًواسعا لا
يمكن التقرب اليه بين اتجاهين متعاكسين هما الاتجاه نحو العنف والاتجاه
نحو اللاعنف والمسالمة ، فكلا السلوكين يصدران من نفس واحدة ، والواقع
ان هنالك الكثير من اوجه الشبه بينهما وهو ان الانسان هو واحد ، وهو
ايضا من خلق الله ان آمن معنا الكل في هذه البديهية ، وهو واحد يأكل
ويشرب ، ويفرح ويحزن ، يتزوج وينجب ، يتقارب ويبتعد . ولكن هناك بعدد
نقاط الاتفاق ، وربما اكثر نقاط الاختلاف ، ففي اتجاه العنف لا يحتاج
الانسان الى التطبيع ، بل انه تعّلم غريزي لان الانسان يعود الى ما
وراء انسانيته ، اي ينتزع مقومات الانسانية الى الحيوانية ، وفيها ايضاً
آميل الى التعلم السريع للعنف منه الى نقيضه في اللاعنف ، وهو يلجأ له
في سلوكه المسالم بطريقة العنف ، ويحقق السلام بالعنف ، لكنه السلام
المشوب بالحقد والالام والمآسي ، الذي يترك في النفوس الكراهية
والضغينة ويجعل من الآخر مهزوما في داخله ومأزوماً تجاه الذي اوقع به
الالم ، فلم يلين له بال او يرتاح له ذهن الا في الانتقام ممن اوقع به
المأساة ..
اما في الجانب الاخر وهو جانب اللاعنف والمسالمة ، ففي داخل هذا
الاتجاه ينشأ الخلاف ايضاً ، ولكن بالوسائل التي تحقق اعلى قدر من
الرضا للذات واعلى قدر من التعايش للتنازل والتواضع
للاخر دون ايذاءه او المساس بحقوقه الشخصية ، هو صراع ايضا ومنافسة
هي الاخرى ايضا ولكن نحو التواضع والاحترام وتقديم ما يمكن تقديمه
باعلى صورة حتى ولو بالنصيحة ان وجدت او بالسلوك العام في التعامل ،
هذا السلوك ناجم عن تطبيع النفس على التواضع تلقائياً لا باعتبارها
وسيلة دفاعية لرد الآخر او توقع شيئاً منه ، انه يتخلص من بثور
الانانية في عملية التطبيع النفسي بالتودد مع الاخر ، ويحيد الصراعات
الناجمة عن حفزات الشر في النفس اذا ما سلمنا جدلا بان صراع الخير
والشر بنطلقان من مكمن واحد هي النفس الانسانية الواحدة ، وبالتالي
فأنه يقمع دفعات الشر الغريزية بالاتجاه الموجب باقامة علاقة تواصل مع
الاخر ، علاقة بناء سيكولوجي اولا ثم تمتد لتكون علاقة بناء اجتماعي
ثانياً .
ولو امعنا النظر في سيكولوجية التطبيع نحو اللاعنف لوجدناه تتخذ
معنيين :
المعنى الاول : يقترن ازدهار المعرفة الداخلية – الذاتية بتطوير
داخلي في النفس .
المعنى الثاني : تنحصر هذه المعرفة في ازدياد قدرة المسالم –
اللاعنيف على الاشياء واستيعابها دون اية مخاوف محتملة .
ان النفس الانسانية حفلت منذ خلقها بهذا الجانب " المسالمة" وظفرت
خلالها بالكمال ، لان الله خلق الانسان في احسن تقويم ، ثم ان هذا
الحسٌنْ في التكوين اعطاه المعرفة الواضحة الجلية في الخلٌق والاحترام
والتواضع والرفعة عن صغائرالامور ورؤية معالم الكون وهو مصدر اصيل
للمعرفة في كل جوانبها وهو تطبيع لا ريب فيه نحو المسالمة واللاعنف .
اما المعرفة المشوشة فانها قادت البعض من البشر الى التصفية والشقاء
والكره والبغض حتى جعلت منه اقرب الى الغريزة الحيوانية منها الى
الانسانية ، بل انا نرى اللاعنف واليات تطبيقه جاءت من غير قصد لدى
الانسان في اكثر من موضع في حياته ولكن الدعوة الى النزعات الحيوانية
ظلت هي الغالبة وهو السلوك الاكثر قتامة وشدة وسوداوية في النفس
الانسانية ولاقت من الرواج والتدعيم والاثابة بما فيه الكفاية لان
يحاكي الحيوانات المفترسة في سلوكها حتى طال هذا العدوان البشر
والحيوانات الاليفة والبيئة الكونية التي عاشها اجدادنا الاوائل وما
زلنا نعيشها الى يومنا هذا على سطح الكرة الارضية .
يقول عالم النفس الشهير " مصطفى زيور " ان النفس الانسانية هي هي في
كل ما يصدر عنها، اي ان ما يصدق عليها من صفات وقواعد اساسية في مظهر
من مظاهرها ، يصدق عليها ايضاً في غير ذلك من المظاهر ، ان هذه قضية
بديهية لا تحتاج الى بيان ، اذ لا يعقل ان تتغير طبيعة النفس تبعاً
لتغير ما تعالجه من المواقف . فاذا قلنا لشخص عينه ان النفس ، بناء على
ذلك ، هي هي سواء اكان ما يصدر عنها من سلوك العنف والعدوانية ام سلوك
اللاعنف والمسالمة ، انها هي هي في اعماقها ، سواء سواء اكان ما يشغلها
من كراهية او بغض ام نشاط انساني بناء لبني البشر جميعهم ، وان ما يصدق
عليها هو هو سواء كان حاصل انتاج سلوكها في كل ما يصدر
عنها، ولكن الفارق مرة اخرى في كيفية مسار تطبيع هذا الفعل ، هل هو
سلوك عدواني وعنيف ، ام مسالم قائم على التسامح واللاعنف ، وهو ما نصبو
اليه في موضوعنا هذا . فالنفس لا يمكن ان يصدر عنها او لا يصح بالحقيقة
ما يصدر عنها ذات الصفات الإ في حالة المرض في شطره الاول وهو العنف
والعدوانية والصحة والسواء في شطرها الثاني اللاعنف والمسالمة ، لذا
فأن انتظامها في سلوك التطبيع نحو المسالمة واللاعنف قائم على اساس
المنطق الذي يرتضيه العقل الانساني ، ونقيضة هوالمنطق الذي يقوم على
السلوك الحيواني ، فبواعث النفس تدفع بالمسالمة واللاعنف نحو التطبيع
الداخلي الذاتي نحو القبول والاعتراف بالاخر بينما البواعث في العنف
والقسوة تدفع الى سلوك القتل والانتهاك والتدمير .
بقي علينا ان نوضح الباعث لانطلاق العدوان والسلوك التدميري بالعنف
، وكما هو معروف لدى المتخصصين في العلوم النفسية ولدى عامة الناس ايضا
بان العدوان والسلوك العنيف هو طاقة انفعالية تشحذ الطاقة الذهنية
لمتابعة المواقف الحياتية ، وهي دائماً خالية من حسن النية او التعاطي
بسلوك المرونة مع تلك المواقف لدى الفرد نفسه او مع اسرته او مع
الاخرين ، فيكون التوتر في اعلى درجاته دائما ، والشك في الاخر مهما
كان قربه او بعده عنه حتى وان كانت زوجته او ابناؤه ، فهو يشحن الطاقة
الذهنية نحو هدف ما في الحياة سواء كان موضوعا ام شخصا بعينه او ما
شاكل ذلك ، ويظل التوتر هاجسه الدائم . اما لو استعرضنا بواعث اللاعنف
وعوامل تشكيل السلوك لوجدنا ان عوامل التطبيع النفسي بدأت منذ سنوات
التربية الاولى وامتدت الى المجتمع لتكون تنشئة معتدلة مع الاخرين حتى
تجعل الفرد المسالم بعيداً حتى عن التأفف او مظاهر الجزع مع الذات في
احلك لحظاتها او مظاهر الضجر في اعلى درجاتها ، والقول الذي يسود دائما
في فترات الألم والضيق " قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا " لذا فأن
المسالمين يحققون الظفر والقدر الكافي من الاتزان ما كانوا يحصلون عليه
بغير موهبة التطبيع النفسي التدريجي للذات نحو اللاعنف والمسالمة .
*السويد - استاذ جامعي وباحث سيكولوجي
elemara_32@hotmail.com |