الآن وقد انتهت جوقة الانتخابات العراقية، ما حقيقة دوافع رافضي
المشاركة فيها؟ وما موقع البعد المذهبي في المواقف التي صاحبتها ان
بالتأييد او الرفض؟ وما هي مدلولاتها السياسية والاستراتيجية في
المحيطين العربي والاسلامي؟ النتائج الاولية تشير الى فوز ساحق لقائمة
الائتلاف العراقي الموحد، وهي قائمة تضم الاسلاميين الشيعة من الاحزاب
المعروفة والشخصيات المستقلة. وكان ذلك الفوز متوقعا سلفا ولكن ليس
بالحجم الذي تم به.
ثمة ابعاد عديدة لتلك الانتخابات ونتائجها، يجدر الوقوف عندها
لاستشراف المنحى السياسي المستقبلي للعراق، البلد العربي الاكبر في
الشرق الاوسط من حيث الامكانات المادية والبشرية، والأهم من حيث الموقع
والثروة والتاريخ. من هذه الابعاد تبرز أربعة تستدعي التأمل والمزيد من
الفحص. أولها ظهور الشيعة العرب للمرة الاولى في التاريخ السياسي
المعاصر كقوة سياسية كاسحة، ليس عبر انقلاب عسكري، ولا من خلال ثورة
شعبية عارمة كالتي حدثت في ايران، بل من خلال انتخابات توفر فيها قدر
من الشفافية والنزاهة، بشهادة جهات دولية من بينها الامم المتحدة.
وثانيها انها أسست لممارسة ديمقراطية في اكبر بلد عربي مشرقي، وهي
ممارسة واعدة في بلد بقي محكوما بانظمة استبدادية متعاقبة منذ تأسيس
الدولة العراقية، وبالتالي فلن تكون آثارها محصورة بحدود ذلك البلد.
وثالثها انها ستكون مفصلية في تحديد مسقتبل الاحتلال الذي لم يحسن
ادارة البلاد بعد اسقاط نظامها، وساهمت سياساته غير المدروسة في توفير
الظروف لاعمال عنف وارهاب لم تشهد ا لمنطقة لها مثيلا. ورابعها انها
ستضع المسلمين الشيعة في صدارة الادارة السياسية في بلد ينتمي اهله
لقوميات متعددة ومذاهب دينية شتى، وبالتالي ستكشف مدى قدرتهم على ادارة
بلد متعدد الطوائف والاجناس، ومدى التزامهم بممارسة ديمقراطية تقوم على
اساس "لكل مواطن صوت".
ثمة اسباب يمكن تلمسها لتفسير اصرار بعض قطاعات المسلمين السنة في
العراق على مقاطعة الانتخابات، من بينها وجود الاحتلال وعدم توفر
الظروف الامنية المناسبة، وغياب الاجماع الوطني، وعدم توفر احصاء سكاني
دقيق. هذه المبررات فرضتها المجموعات التي تبنت الخيار المسلح لمواجهة
الاحتلال، وهي مجموعات ليست من صنف واحد، وليس لديها سياسة واضحة
واهداف محددة، ولم تحظ باجماع وطني. وقد اثبتت المشاركة الواسعة في
عملية الاقتراع رغبة العراقيين عموما في اعادة الامن والاستقرار الى
بلدهم عن طريق صناديق الاقتراع، وقطع الطريق على الاحتلال باقامة نظام
سياسي يشارك فيه جميع المواطنين عبر نظام انتخابي قائم على اساس تساوي
ابناء العراق في الحقوق. وبرغم مساعي الجموعات المسلحة لمنع عملية
الاقتراع، فقد جرت العملية وعما قريب ستصدر نتائجها النهائية. وقد
تباينت مواقف غير العراقيين ازاء الانتخابات العراقية، بين الدعم
والرفض. ومع ان بعض الاعتراضات قامت على اساس رفض الاحتلال، وان انهاء
الاحتلال يجب ان يسبق عملية الاقتراع، لم يكن خافيا وجود حساسية مفرطة
ازاء ما يمكن ان تفرزه صناديق الاقتراع، من ترجيح كفة الشيعة نظرا
لاغلبيتهم العددية، وهو واقع لا يريد البعض الاعتراف به. وقد عبر ملك
الاردن عن ذلك بوضوح عندما حذر من قيام "هلال شيعي" من ايران الى لبنان،
بعد ان اتضح ان اية ممارسة ديمقراطية في العراق سترجح كفة الشيعة.
المعترضون على الانتخابات لم يطرحوا بديلا مقنعا لها. فنظام المحاصصة
السياسية الذي تم العمل به بعد سقوط نظام صدام حسين ليس خيارا سياسيا
لانه يتجاوز الارادة الشعبية ولا يتوفر على شرعية دستورية. ولم يكن
هناك اجماع على العمل المسلح خصوصا بعد ان اصبح عبثيا عندما استهدف
المواطنين العراقيين العاملين في النظام المدني والامني والعسكري للحكم،
اكثر من استهدافه قوات الاحتلال. كما ان نمط الحكم السابق ليس مقبولا،
فهو الذي جر الويلات على العراق، وادخلها في حروب داخلية وخارجية لم
تتوقف منذ عقود.
ما الجديد الذي جاءت به الانتخابات العراقية؟ لا شك ان فوز قائمة
الائتلاف العراقي الموحد بشكل كاسح يعتبر طوفانا سياسيا كبيرا في
المنطقة، سوف يغير الكثير من المسلمات والتوازنات، ولكنه، برغم الخشية
الكبيرة من صعوده، لن يكون عامل توتر امني او اسياسي مع جيرانه. ولعل
هذا الصعود يمثل جوهر الاعتراضات التي ابدتها المجموعات المسلحة وبعض
الانظمة والمجموعات السياسية العربية. فهذا الائتلاف له ابعاد عديدة.
فهو عنوان للوجود الشيعي عموما، وهي سمة يشترك فيها مع بعض القوائم
الاخرى مثل قائمة التي يتزعمها اياد علاوي، رئيس الوزراء الحالي. ولكنه
يختلف عنها بكونه ائتلافا للقوى الاسلامية الاساسية في المجتمع العراقي،
فهو يضم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، وحزب الدعوة
الاسلامية، والتيار الصدري ومنظمة العمل الاسلامي، بالاضافة الى شخصيات
اسلامية مستقلة. وبالتالي فهو، من حيث العقيدة السياسية، مصدر ازعاج
لقوات الاحتلال التي لا ترغب في صعود قوة اسلامية الى موقع اتخاذ
القرار، على حساب المقربين منها ممن كانت تعول عليهم لتمرير سياساتها.
وهذا الائتلاف مرتبط بالمرجعية الدينية المتمثلة بأية الله السيد علي
السيستاني، الذي أصبحت مواقفه مصدر ازعاج لقوات الاحتلال، برغم انه لم
يدع لحمل السلاح ضدها. فهو الذي أفشل المشروع الامريكي الذي كان يهدف
لاعداد دستور من قبل اعضاء معينين وليس عن طريق الانتخاب، الامر الذي
أسس لهذه الانتخابات. وهو الذي رفض مقابلة اي مسؤول امريكي او بريطاني
حتى الآن، واكتفى بالتدخل عندما يرى ضرورة لذلك، مبتعدا عن الشأن
السياسي اليومي. وقد أثبتت النتائج الانتخابية قوة تأثيره في الشارع
العراقي، ولا شك ان ذلك أمر فاجأ الامريكيين والبريطانيين كثيرا. يضاف
الى ذلك ان الائتلاف لن يكون اداة بأيديهم، وستكون له سياساته
المستقبلية ذات الطابع الاسلامي والوطني التي تختلف مع ما يتطلعون اليه،
سواء كان ذلك بخصوص محاولات التطبيع مع "اسرائيل" ام استهداف دول
المنطقة ام السياسات الاخرى المرتبطة بالنفط والقواعد العسكرية والنفوذ
الثقافي والفكري. فالنجف مدينة لم تخرج عن محيطها العربي والاسلامي
يوما، ولم تساوم على القضايا الاسلامية والعربية، ولها تا ريخها في
النضال ضد المحتلين. هذا التراث السياسي والنضالي لا ينفصل عن واقعها،
وبالتالي ففوز الائتلاف المدعوم من المرجعية الدينية يعتبر، كما أسلفنا،
طوفانا سياسيا، لم يتوقعه الكثيرون، خصوصا الذين خططوا للحرب واسقاط
نظام صدام حسين.
الصدمة الكبرى للمحيط العربي تتمثل بوجود دور محوري للشيعة في ادارة
العراق المستقبلية، ابتداء بصياغة الدستور، واتتخاب الرئاسة وتشكيل
الحكومة، مرورا بالانتخابات البرلمانية مطلع العام المقبل، ووصولا الى
ادارة العراق بعد استعادة السيادة وانتهاء الاحتلال. فهل يمثل هؤلاء
الشيعة تهديدا لأحد في المحيطين العربي والاسلامي؟ وهل لديهم أجندة
سرية تهدد الآخرين؟ لقد عاش الشيعة والسنة اخوة في اغلب البلدان
الاسلامية، خصوصا في العراق الذي لم يعرف التوتر المذهبي من قبل. واثبت
وجودهم في السلطة السياسية سواء في ايران ام لبنان في السنوات الاخيرة
انهم يحملون هموم الامة ويتصدرون النضال ضد الاحتلال ايا كان شكله.
فايران هي التي تدفع ثمن موقفها اليوم ازاء القضية الفلسطينية، ولا
يستطيع احد انكار حقيقة مهمة وهي ان استهدافها من قبل الولايات المتحدة
الامريكية انما هو بسبب رفضها الاعتراف بالكيان الاسرائيلي واتهامها
بدعم المجموعات المناوئة لهذا الكيان. وما استهداف المشروع النووي
الايراني الا بسبب التحريض الصهيوني الذي يعتبر السياسات الا يرانية
تهديدا لأمن "اسرئيل". وفي لبنان، ما يزال "حزب الله" يمثل قوة التصدي
الاساسية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وهو امر لا يحتاج الى المزيد من
الايضاح. والنجف لها تاريخها الرافض للاحتلال. فقد قاد علماؤها ثورة
العشرين ضد الاحتلال البريطاني، كما هو معروف، ووقف علماؤها بقوة ضد
احتلال فلسطين، وأفتوا بجواز دفع الحقوق الشرعية للفلسطينيين. والفتوى
الشهيرة للعالم الكبير آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في 1366
هجرية تختصر ذلك الموقف. فعندما سئل عن الموقف من المحتلين في فلسطين،
اجاب " من واجب المسلمين جميعاً في سائر الأقطار أن يقاطعوهم ومن
يحميهم ويساعدهم . ومن يشتري منهم أو يبيعهم أو يروج صنيعهم أو يلبس
منتجاتهم أو يأكل من حاصلاتهم أو يعاملهم بأي معاملة تجارية أو غيرها
فقد حارب الله ورسوله وباء بغضب من الله ورسوله وقد خان الحق وطعن في
قلب العرب والإسلام بل وخرج من دين الإسلام لقوله تعالى : "ومن يتولهم
منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ". ومن المؤكد ان
واشنطن سوف تسعى للتأثير على القيادات العراقية المستقبلية للتطبيع مع
"اسرائيل" ولكنها ستجد ذلك مهمة شاقة جدا.
هذه الفتوى، وهناك العديد مثلها، تكشف مدى ارتباط علماء المسلمين
الشيعة بقضية فلسطين منذ عقود. وليس جديدا القول ان الضغوط الامريكية
والاسرائيلية على الجمهورية الاسلامية الايرانية في الوقت الحاضر انما
هي، في بعض جوانبها، بسبب ما يمثله ذلك الموقف من دعم معنوي للحركات
الاسلامية عموما، يدفعها للاستمرار في رفض الاحتلال الاسرائيلي وعدم
التطبيع معه. اما الموقف الايراني فقد تبلور بعد الثورة عندما وصف
الامام الخميني رحمه الله الكيان الاسرائيلي بانه "غدة سرطانية" في
العالم الاسلامي، ودعا الى اقتلاعها. ومعروف ايضا ان حزب الله اللبناني
الشيعي هو اول جهة عربية حققت انتصارات عسكرية ضد الاحتلال الاسرائيلي،
وقد رفض ان ينطلق في سياساته الا بهدف مواجهة ذلك الاحتلال. وحتى في
العراق، لن يكون بامكان قوات الاحتلال التأثير على مواقف فقهاء الشيعة
في النجف، ومن يرتبط بهم من الساسة في بغداد، لتغيير مواقفهم من
الاحتلال، سواء في العراق ام في فلسطين. ففقهاء النجف عرفوا منذ
الخمسينات بمواقفهم الداعمة لفلسطين ومجاهديها. وكان المرجع الشيعي
الكبير، السيد محسن الحكيم، قد أجاز دفع الاموال الشرعية لقضية فلسطين،
وكان موقفا سجله التاريخ بوضوح. وهكذا موقف المسلمين الشيعة في كل مكان،
وقبل أقل من ثلاثة أعوام استشهد الشاب محمد جمعة الشاخوري عندما شارك
في مسيرة في البحرين ضد الاحتلال الاسرائيلي، فأصيب بطلق ناري امام
السفارة الامريكية في المنامة.
فلماذا الخوف اذن من ان يحصل الشيعة العراقيون على موقع متقدم في
الادارة السياسية لبلادهم؟ ومن الذي يثير النعرات بين ابناء الدين
الواحد على اساس الانتماء المذهبي في الوقت الذي يتطلب الموقف تماسكا
بين كافة القوى والاتجاهات لانهاء ليس الاحتلال العسكري فحسب، بل
الهيمنة السياسية والثقافية ايضا. ان من المؤكد ان واشنطن لم تكن ترغب
في فوز قائمة الاتئلاف العراقي الموحد، فليس ذلك خيارها في العراق،
ولكنها، في الوقت نفسه، رفعت شعار الديمقراطية واصبح عليها الالتزام
بمقتضياته وأغلب مكونات ذلك الاتجاه لم يكن من داعمي الحرب ولا
السائرين في طريق المشروع الامريكي اساسا، وانما كانت مشاركتهم، بهدف
استرجاع السيادة الكاملة لقطع الطريق على الاحتلال ومبرراته. ولا شك ان
اقامة نظام يتمتع بشيء من الا نفتاح والحرية والديمقراطية في العراق من
شأنه تعزيز التوجه العام في المنطقة نحو الاصلاح السياسي واضعاف
الاستبداد. وبرغم ما قيل عن الانتخابات، فقد كانت نزيهة بقدر كبير، مع
الاخذ بعين الاعتبار انها اجريت في ظروف الاحتلال، كما هو الحال في
فلسطين وافعانستان، والامل ان تؤدي نتائجها الى تلاحم وطني يعيد للعراق
موقعه المناسب على الساحة السياسية العربية والدولية، ويؤدي الى
استقراره وامنه. وسو ف تكشف الايام ان اقامة حكم القانون المؤسس على
دستور يضعه ممثلون منتخبون عن شعب العراق، خيار استراتيجي ناجح، وانه
سيقضي على مبررات وجود الاحتلال. اما عمليات العنف المتواصلة، خصوصا
التي تستهدف ابناء العراق انفسهم، فاغلبها عبث لا يؤدي الا الى المزيد
من التوتر السياسي والاجتماعي والديني، وهو امر لا يصب لصالح مشروع
التحرير. كما ان الصمت على هذه الاعمال تأسيس لانحرافات فكرية تؤمن
بالدموية والعنف ا لاعمى، وتوفر المبررات للوجود الاجنبي في المنطقة.
ومن الخطأ الكبير السماح بتحويل الوضع في العراق الى حالة من التحارب
الطائفي والتراشق السياسي على اساس الانتماءات الدينية والعرقية، ومن
يحب العراق يتمنى ان يتحول الى واحة من الحرية والاخاء والتفاهم
والتعاون لانهاء مبررات الاحتلال، بدلا من تكريس الاحقاد والدموية
والقتل على الهوية وسفك الدماء البريئة، فاستمرار سفك الدماء في ارض
الرافدين لا يصب الا لصالح الاحتلال في العراق، وايضا في فلسطين. |