الحديث عن شريحة أو طائفة من طوائف العراق المتآخية، هو حديث عن
العراق، وهو لا يهدف إثارة النعرات بقدر هدفه التعريف بجزء مهم من
مكونات الأمة العراقية، من هنا .. وحين يبرز نوع من التعاطي الإيجابي
على الساحتين العراقية والدولية عند هذه الشريحة العراقية أو تلك، يصبح
من دواعي الفخر أن يتصفح العراقيون هذا الإنجاز..
طوال الفترة الماضية .. التي سبقت الانتخابات وتلتها، كانت القضية
الأهم في التناول الإعلامي المكرس للعراق، التركيز على المخاوف من
الوصول الشيعي لسدة الحكم، فاستضافت الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى
العشرات من الشخصيات العراقية الشيعية..
اللافت أن الخطاب الشيعي بدا أكثر قوة ورصانة وانفتاح على الآخر،
وابتعد كليا عن عُقد الطائفية والمظلومية والإقصاء التي عانى منها
الشيعة لأكثر من ثمانين عاما.. وليس من باب المصادفة أن يتسم الخطاب
الشيعي العراقي بما يتسم به اليوم من رصانة وثقة وانفتاح حضاري مكنه من
ولوج مساحة من وعي واهتمام المتلقي _ العالمي والغربي تحديدا _ كانت
مملوءة بسوءات خطاب آخر حسب نفسه على الإسلام وأساء لقيم التسامح
والمحبة فيه، فلسنوات عدة كان الآخرون يقرأون ما تكتبه عن
الإسلام،عقليات عدوانية مسلمة، وازداد الأمر سوءا حين وصل فكر هذه
العقليات لسدة الدولة وحكم أفغانستان لسنوات عدة.. لقد صُدم العالم وهو
يرى المرأة الأفغانية المسلمة تمنع من التعليم ويحرم عليها ممارسة أي
مهنة ولا تسير في الشوارع إلا بصحبة رجل، وعليها أن تضع( خيمة) تغطيها
من رأسها وحتى أخمص قدميها، وإلا تعرضت للرجم والجلد وسوى ذلك من
العقوبات التي ابتدعتها طالبان.. من خلال هذه الممارسات كانت العقيدة
الإسلامية المليئة بكل ما هو إنساني تتعرض للتشويه والتحريف، فمن الصعب
أن تقنع العالم بأن ما يراه هو الإسلام المزيف.. إسلام وعاظ السلاطين
الذين برروا للأمراء والحكام جرائمهم على مر العصور، فأنتجوا فكرا
أشوها نما مع السنين وصار عقيدة زائفة بديلة عن الإسلام المحمدي الأصيل..
وتعاظم الأمر عند المتابعين حين باتوا يشاهدون مناظر مؤلمة تقطع فيها
رؤوس الناس بغير حق، ويمثل بجثثهم، في وقت تفتخر الحضارات الأخرى اليوم
بسن قوانين تراعي حقوق الحيوان، واستبدلت عملية الإعدام بوسائل لاتوقع
بالمعدوم إلا أقل قدر ممكن من الألم.. صورة (المسلم الإرهابي) كما يعرض
نفسه على شاشات التلفاز، ملثم يلوح بالسكين والبندقية ويطرب لإزهاق
الأرواح وإهراق الدماء، لا يُسأل عنها الآخرون، بقدر ما يُسأل عنها
المسلم نفسه، أو بتعبير أدق أنموذج (المسلم التاريخي) الذي لم يتمكن من
التعايش الحضاري مع الآخرين بعيدا عن الإقصاء والعدوانية، مبتعدا عن
القيم الحقيقية للدين الإسلامي الذي بهر العالم فيما سبق بقيم التسامح
والرحمة فيه.. ربما نفرق نحن المسلمون بين هذا النموذج السيء للمسلم،
وبين الإسلام الذي نقرأه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة
وسير الأئمة والأولياء والصالحين، ولكن كيف للآخرين أن يميزوا؟.
المشكلة أن دوائر الفتيا في العالم العربي،وعموم العالم الإسلامي لم
تكن جريئة بطرح مواقفها المعارضة لمهرجانات الذبح هذه، بل وقف رجال دين
وفضائيات عربية ومثقفون وساسة عرب يبررون تلك الأفعال ويشرعنونها، وذهب
البعض لأبعد من ذلك حين قال: أن الرسول الكريم (ص) أمر ببعض الاغتيالات!!
بينما قال فيه الباري جل وعلا: وإنك لعلى خلق عظيم..
في خضم هذه الدوامة برز خطاب شيعي عراقي معتدل مثلته حوزة النجف،
وكربلاء والساسة والمثقفون العراقيون الشيعة، أهم سماته الانفتاح
الحضاري المرتكز على الإسلام الصحيح، والابتعاد عن لغة التهديد والوعيد
والانفعال، والاستجابة لكل ماهو إنساني مستفيدا من تجارب الأمم في هذا
المجال مع الاحتفاظ بالخصوصية.. وقد كان لتشجيع العملية الديمقراطية
والوقوف عند منطق متين يمكن للآخرين التعاطي معه دون عقد، أثره الكبير
في نجاح هذا الخطاب، فحين رفض سماحة السيد السيستاني أي صيغة أخرى
لتكوين الجمعية الوطنية ما عدا الانتخابات، لم تتمكن أي حجة أخرى من
الوقوف بوجه هذا المطلب المشروع المستند على قيم حضارية يؤمن بها الغرب
اليوم، ما دفع صحيفة الواشنطن بوست إلى القول: السيستاني يعلم بوش كيف
هي الديمقراطية..
إن نجاح الخطاب الشيعي العراقي في رسم معالم صورة ناصعة للمسلم،
يسهم دون شك في رفد الخطاب الإسلامي عموما بميزات قويه تجعل( الآخر)
يُفرق بين الغث والسمين من القول والسلوك، الأمر الذي ينعكس إيجابا على
مسيرة النهضة الإسلامية .. |