كل من تهمه مصلحة بلده لابد يرفض أي نوع من أنواع إنقاص السيادة لبلده،
وتحت أية ذريعة كانت، ولكن هذا الرفض لا بد أن يؤطر ضمن آلية تستجيب
للمنطق، فمثلا لا يمكن أن نتخذ من رفض الاحتلال ذريعة لقتل العراقيين،
أو تخريب البلد، أو قتل رجال الأمن والشرطة الذين يشكلون القوة الوطنية
التي ستحل محل الاحتلال في حال رحيله، كما أن رفض الاحتلال لا يعني
مطلقا تخريب اقتصاد البلد وتدمير بناه التحتية.. ولكن مع الأسف كل هذه
الأعمال هي إما من مهام أولئك الذين يدعون رفضهم للاحتلال، أو أنها لم
تلق أي تنديد منهم وبالتالي فُهِمَ من خطابهم أنهم يؤيدونها ويدعمونها
ويفتحون بيوتهم وقصباتهم ومدنهم لها..
كل العراقيين يريدون رحيل الاحتلال، فلا أحد بينهم يرضى بوجود شخص
أجنبي قريب من بيته أو مزرعته.. وحين نتحدث بجرأة، فعلينا أن نقر أن
الاحتلال نفسه يريد أن يرحل... لايوجد مبرر منطقي لوجود الاحتلال في
العراق، طالما انتهى الهدف الذي جاء من أجله المحتلون، فالأمريكان
اليوم يخسرون في العراق أكثر مما يربحون، وحتى على صعيد المستقبل،
فالعراق بلد عاجز حتى اليوم وربما إلى ما بعد سنوات عن توفير حياة
كريمة مستقرة لأهله، فما بالك بالغرباء؟!.. وإذا كنا نقر بمصلحية
السياسة الأمريكية، فعلينا إدراك مؤشرات الرحيل (المشروط)عن العراق في
أقرب فرصة.. هذه الفرصة أخرها من يحملون السلاح ويدمرون ويقتلون، فحين
تقطع دولة عظمى كالولايات المتحدة وعدا دوليا بالمساعدة على قيام حكومة
في بلد ما، فهذا يعني أنها ملزمة دوليا بحفظ أمن واستقرار هذا البلد،
ولا يمنها تركه رمادا والرحيل عنه، ستكون وصمة عار كبيرة في تاريخها،
فضلا عن أن الرئيس الأمريكي وإدارته قد عجزوا عن تأكيد الهدف الذي
خاضوا الحرب من أجله، ولم يُعثر إلى اليوم على أسلحة صدام المحظورة..
وليس من المتصور أن يهتم الشعب الأمريكي كثيرا بنشر الديمقراطية في
أنحاء العالم حين يكون الثمن دماء أبنائه، ويعرف الجميع أن دعم
الأمريكيين لجورج بوش في حرب الإسقاط كان على خلفية أحداث كبيرة شهدتها
الولايات المتحدة، ولو لا تلك الأحداث لما تمكن الرئيس الأمريكي من
إخراج فرقة واحدة من جيشه، ولو عدنا لعام 1991 لوجدنا ما يؤكد ذلك،
فجورج بوش الأب كان باستطاعته من الناحية العسكرية إسقاط صدام آنذاك،
ولكنه لم يجد مبررا قويا يقنع به الشعب الأمريكي والعالم، طالما أن هدف
الحرب ـ تحرير دولة الكويت ـ قد تحقق وقتها.. وبالعودة إلى ذات السبب
المتقدم، فالشعب الأمريكي بات يدرك الرهان الدولي الذي خاضت فيه
الولايات المتحدة وهو ما دعاه لتجديد ثقته بالرئيس بوش..
هذه حقائق يدركها أولئك الذين يدعون ليل نهار لرحيل القوات الأجنبية،
فلماذا هذا الإصرار، وما الذي تخفيه هذه الدعوات من مقاصد.. ولماذا
يرفع هؤلاء عقيرتهم مطالبين جدولة رحيل القوات الأجنبية؟!..
دهاء المخطط
يخطئ من يظن أن الأمر يخلو من دهاء، بل هو الدهاء بعينه، ولا عيب في
دهاء السياسة، ولكن العيب في الإتكاء على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة في
الوصول إلى أهداف فئوية أو طائفية أو حزبية.. الأمر لا يعدو عن كونه
صراعا على السلطة والمكاسب، فالاحتلال هذا قد دخل مدنا معروفة دون
إطلاقة واحدة، فلماذا استُقبل بالقُبَل أولا ثم بالرصاص والمفخخات ؟!
..
في الوقت الذي يصرح الأمريكان وغيرهم من القوات الدولية أنهم سيسحبون
جنودهم حالما يستطيع العراق الوقوف على قدميه، يشدد هؤلاء على رفض هذا
المطلب المنطقي ويصرون على أن تكون هناك جدولة لرحيل القوات الأجنبية...
بتأمل بسيط يمكن التكهن بخيوط المخطط الذي يحاول هؤلاء إدخال العراق
إليه والذي يمكن قراءة محاوره كالتالي:
1ـ ضغوط سياسية وإعلامية ومسلحة لإجبار القوات الدولية على رسم جدول
زمني محدد لرحيلها، وبالطبع يتم هذا تحت المظلة الدولية، ولن يتاح لهذه
القوات التراجع عن قرارها هذا، وإن تراجعت فسيكون الأمر كما لو أنه
تنصل عن التزام دولي، الأمر الذي سيفسر وقتها على أنه إصرار من قبل
الاحتلال على البقاء في العراق، وستجد قنوات وشخصيات معروفة مبررا
ممتازا لعزف سمفونية تضليل جديدة.. وسيردد البعض كثيرا:” ألم نقل لكم
أن الاحتلال جاء ليبقى، وها هو يتنصل من التزاماته بالانسحاب “ وسيجد
مواطنون عربا مغرر بهم طريقهم نحو العراق لتبدأ موجة عنف جديدة..
2ـ بعد أن تتم جدولة الاحتلال تكون هذه الأطراف قد باشرت بتدمير كل
إنجاز بني خلال الفترة التي سبقته، سيما وهي تعبتره غير شرعي، وقد كرست
جهودها لضرب الشرطة والجيش وإضعاف القوى الأمنية..
3ـ وما أن ترحل القوات الأجنبية حتى يتم الانقلاب على العراق الجديد
وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بمساعدة مخابرات وعصابات مسلحة عربية..
هذا مجمل ما يفكر به المطالبون بجدولة الاحتلال وقد قرأ ساسة البيت
الأبيض ذلك، ورفضوا أي جدولة للانسحاب طالما أن العراق لم يقف على
قدميه، وهو موقف تبنته الحكومة العراقية أيضا..
مؤشرات أخرى
لو اراد الإنسان أن يسلك جادة العقل فعلا، فبإمكانه أن يفعل ذلك،
وبإمكانه أن يكون مقبولا ومنسجما مع القيم الحضارية والأخلاقية التي
تدعوه لها فطرته، فهذه الفطرة ترفض أن يذبح الانسان بالطريقة التي
شاهدها العالم بأسره، كما أن فطرة العقل ترفض الإعوجاج، وتميل للوضوح
والصراحة والمباشرة، ولكن للأسف لم تتمكن الجماعات التي تدعي معارضتها
للاحتلال أن تكون منسجمة مع الفطرة الإنسانية، لذلك خسرت حتى من كانوا
يناصرونها بالأمس إعلاميا وسياسيا، لأنها ببساطة رفضت المسلك الأفضل
بالقياس مع المسالك الأخرى.. هناك من يدعو إلى انتهاج الخيار السلمي
للقضاء على الأزمة في العراق، طالما أن القوات الدولية وقرارات مجلس
الأمن أكدت على سيادة العراق واستقلاله، وهي ضمانة أكيدة على أن وضع
البلد الاستثنائي هذا لن يطول ولن يصبح واقع حال إلى ما لا نهاية، وكان
بإمكان الحريصين على العراق وأهله، أن يكونوا مع هذا التوجه، ولكن
غيرهم سارعوا للوقوف بوجه الإرادة الجماهيرية معتبرين أن الانتخابات
حرام، والعملية السياسية حرام، والانخراط في صفوف الجيش والشرطة
الوطنية حرام.. حسنا إذن كيف يمكن طرد المحتل والسيطرة على البلد..
لماذا لا تسترد (الحقوق) باستغلال المواطن المناسبة في خطاب( الخصم)؟..
هو يقول أنني سأرحل حالما تكونون قادرين على حماية شوارعكم ومدنكم
وحدودكم.. طيب كيف نكون كذلك دون شرطة وجيش وقوات أمن؟.. هناك هدف آخر
إذن، وهو إضعاف ما يمكن أن يقف حائلا دون رجوع الوضع إلى ما كان عليه
قبل الاحتلال، هذا ما يريده رافضو العملية السياسية وهذا ما يخططون له..
ولكن هل يمكن إعادة الزمن إلى الوراء؟!.. هناك من المؤشرات والأحداث
والمتغيرات التي طرأت على المنطقة، وكلها تؤكد أن التغيير لم يكن وليد
الحرب الأخيرة، ولا نريد أن نقول بما ذهب له الآخرون، من أن أحد أسباب
الحرب الأخيرة هو قرب الشعب العراقي قبيل الحرب من تحقيق أهدافه، ولكن
يمكن الإفادة من هذه المقولة في تأكيد حقيقة بلوغ الشعب العراقي قبل
الحرب مراحل متقدمة في تفكيك منظومة النظام البائد، وتحديه بأوضح
الصورة، ولا أظن احدا لا يذكر الثورة الصدرية، والطوفان الجماهيري الذي
كان يحدث مع كل زيارة شعبانية أو أربعينية للإمام الحسين هذه المواقف
الجماهيرية كانت تؤكد أن التغيير قادم لامحال، وقد أتى التغيير ولم يقف
الشعب العراقي إلى جانب صدام حسين بل أطلق على نظامه إطلاقة الرحمة..
هذه المؤشرات والحقائق لن تغب بعد عن ذهنية الشارع العراقي، على الأقل
الشريحة الواسعة التي ظلمت منه، ورغم محاولات جهات عراقية محسوبة على
النظام المنهار بلورة خطاب جديد يناغم مشاعر المواطنين تحت هذا الظرف،
وسعيهم لمصادرة فرحة العراقيين بسقوط الصنم وإفسادها من خلال تخريب
الخدمات وتوزيع الموت، بغية إيصال العراقيين لحد القول:( رحم الله ايام
صدام)غير أن العراقيين باتوا يدركون خفايا المقاصد، وزادتهم تلك
الممارسات وعيا وأحاطتهم معرفة بمجريات الأمور في العراق، ورأى العالم
بأسره كيف أنهم تحدوا الموت وصوتوا للعراق، في ثورة وعي عارمة ردوا بها
على كل الذين يحاولون تضليلهم ثانية.. إنهم ببساطة استطاعوا عن وعي
ترتيب جدول الأولويات، ورتبوا قائمة الخصوم والأعداء وفقا لخطورتهم،
ولن يكون نظام البعث وورثته في مرتبة سوى الأولى في تلك القائمة.. |