حاولت وفي المدة الأخيرة سحب نفسي عن الصحافــة فلست بصحفي وما
مهمتي تراشق الأفكار، التنابذ في الأوتار ولا معايرة الرأي العام.
إنمــا أجد نفسي أحــياناً مشدوداً بشعور الذنب عن السكوت عمن يضر
بالرأي والحقيقــة. فإنما الشر ينتصر بسكوت أهل الخير، فهل لي أسكت؟ هل
لي أن أسكت عمن يسمي العراق مشكلــة؟ هل لي أسكت عمن يسمي الإسلام،
المسيح والصابئـة مشكلــة؟ هل لي أسكت عمن يسمي الكورد مشكلــة؟ أم هل
لي أسكت عمن يسمي الديمقراطيــة والدولــة القانونيــة مشكلـــة؟
قضايا العراق إنما مثلها مثل غيرها من قضايا كل شعوب الأرض،
المشكلــة العراقيــة لا تكمن في العراق، لا في الكورد، لا في العرب،
ولا في غيرهم ممن يسميهم المخطئ مشكلــة. مشكلــة العراق إنما تكمن
فيمن يعمل على تسميتها مشكلـــة. يتهم السيــد الحافظ الكورد بكونهم
حجرة عثر في طريق نهضة العراق، وأنهم خونــة باقي الشعب العراقي، وأنهم
مشكلــة التوتر الفكري والسياسي في العراق. ومن ثم يرد الدكتور الفضل
بان للكورد الحق بتقرير المصير بموجب أعراف دوليــة لم يصادق العراق
عليها وما هي بملزمــة لأحـــد.
فهل لي أتساءل: من هم سكان العراق الأصليون؟ بم عرف ويعرف العراق
أصلاً؟ ما علاقــة العراق بالعرب؟
ما من أحــد ليبحث عن ردٍ إلاّ ليجيبني بأن العراق أصلــه سومري،
أثوري، بابلي، كوردي وأرمني. وما العرب في العراق إلاّ نزوح لم يجــد
لنفســه مفراً في الجزيرة منذ زهاء عشر قرون من الزمان لا أكثر. لكن من
هو البطل القادر على أن يرفع رأسه فيقول بذلك؟ طبعاً يعتقد غير الكورد
العراقيين أنهم عرب، ولهذا يدافع عن قضيتهم الوهميــة كونهم عرب. فما
هم أهل الحلــة، أليسوا بابليون؟ وما هم أهل الديوانيــة والسماوة؟ ما
هم أهل البصرة؟ ما هم أهل الموصل. المشكلــة العراقيــة تكمن في أن
إحتلالاً عربيـــاً صب على رأس العراق ليس فقط ليضم العراق إلى حوض
العروبــة، إنما ليمحي كل تأريخ العراق بأيادي أبناء العراق أنفسهم
وأمــام كل العيان بلا أن يدري أحــد.
علنـــا نراجع التأريخ؛ لكن ليس تأريخ صدام المزور الذي علمنــا
إياه في مدارس وجامعات العراق، قبيل 1990 الكويت كانت شقيقـة، وبعيدها
صارت محافظــة. قبيل 1981 مصر كانت خائنــة وبعيده صارت عربيــة؛ وقبيل
ثورة الشعب المنكوبــة سنــة 1991 جنوب العراق كان الجنوب وبعده صار
الغوغاء، وصار شيعــة العراق هنود؛ قبيل 1992 كان الكورد عصاة وبعيده
صاروا خونــة. علنــا نراجع تأريخنــا الحقيقي في مصادر خارجيــة،
محايدة، موضوعيــة، أكاديميــة، وغير متقلبــــــــة. لنجد فيها
عراقنـــا جزء من إمبراطوريـــة عظمى حكمت الشرق قبيل عشرة ألف سنــــة
كانت أسمها الإمبراطورية الأشوريــــة. عصرها كان عصر العراق الذهبي،
حيث صب في العراق عاصمــة الدنيـــا قبل قيام رومـــا، ونهوض أوربا.
حيث قبيل الألف الثالث أجدادنــا المغفول عنهم نقلوا علم الكتابــة
لمصر التي يشير لها كل العالم اليوم بأنها أصل الحضارة؛ طبعاً إذا ما
كنا نعتبر تأريخنــا مشكلـــة، فلغيرنــا لهو حضارة. قبيل النصف الثاني
من الألف الرابع قبل الميلاد تقاسمت قبائل العراق إمبراطوريــة عظمى
لتصب نفسها في حضارة اليونان، وقبيل الألف الأول تجاور عراقيو اليوم،
المشكلة، عظام إمبراطوريتي الشرق أشور وبابل. في بابل بنو لأنفسهم أول
برلمان شعبي، ديمقراطي، مستقل ما من يطعن بتزوير انتخاباته، ليس
كبرلمان اليوم المشكلــة. وفي الإمبراطورية الأشوريــة عملوا على نقل
حضارة الشرق من العراق نفســه، من الصين ليبنوا إمبراطوريــة الغرب
الرومانيــة. علـّموا الروم صف القوانين بشريعــة حمو رابي؛ عراقيو
اليوم المشكلــة سبقوا شريعــة الروم باثني عشر قرن: شريعــة حمورابي
سبقت إنجيل الرب وقرآن محمــد بألفي سنــة. وحيثما بدأت حملات الروم
الاستعمارية زهاء القرن الرابع قبيل المسيح، عراق اليوم، المشكلـة، صب
في أول فكرة حكم غير مركزي في تأريخ الإمبراطوريــة الرومانيــة؛
ليعلموا الروم حينئذٍ معنى البرلمان، الشريعــة والتقنين، التجارة
والفنون، السلام وعلاقات الجوار.عراقيو اليوم، المشكلة، صاروا يستهزئون
من تأريخهم، ليسمي غيرهم أنفسهم بــه، ولتلك هي المشكلــة. مثل كورد
العراق بين ظهير شعوب العالم يوجد أكثر من مثال، الباسك الأسبان، الروم
البريطانيين في أسكوتلاند؛ ومثل العراق شعوب غيره ملونــة ومتغايرة في
الأصول ما من يسميها مشكلــة، لكن العراق بالنسبــة للبعض مشكلــة،
الكورد مشكلــة، وأن يكون أو أن لا يكون العراق جزء من الأمــة
العربيــة تلك هي المشكلــة.
المشكلــة لهي في تناسي عراقيو العراق أصلهم العراقي، تأريخهم،
والتمعن في معالم مستعمريهم العرب، التركمان، الفرس، وحتى المغول. ما
من عراقي يفكر فيمن سيأخذ معه جزأه في جيبــه ليسمي لنفســه استقلالية؛
وما في العراق من يفكر في أن الأرض لهي لكل البشر، وإنما الأمر احترام
الفرد للآخر بناء على تأريخـه، ثقافتــه، لغتــه، عقيدتــه، أو بمجرد
مستواه الاجتماعي ووجهة نظره ومن ثم للعيش في العراق سويــة كيفمــا
عاشوا في العراق ملايين السنين أجداد عراقيو اليوم، صانعوا المشكلــة،
حيثما المشكلــة ما هي إلاّ حديث الصحافــة والأعلام، صنيعــة
السياســة والاستعمار الفكري الذي صب على عقول تبرأت من تاريخها، ولتلك
هي المشكلــــة، القضيــة التي كل من يدعي كونـه عراقي لهو مدعو
لمعايرتها.
Samer AL NASIR
samer@sameralnasir.net |