الأزمة السياسية في العراق لم تبدأ في التاسع من نيسان عام 2003، بل
قد يبدو هذا التاريخ عند كثيرين، هو بداية النهاية لهذه الأزمة. ولكن
من الغريب أن البعض يركز على مرحلة أخيرة من الوضع العراقي ولا يريد
العودة إلى الوراء قليلا لمعاينة الجذور والأسباب التي أدت إلى الوضع
الحالي..
أزمة العراقيين لم تبدأ باحتلال العراق، ومطالبهم السياسية بالتغيير
لم تكن وليدة الاحتلال الأجنبي أو سواه، فقبل عشرات السنين بدأت حركة
عراقية واسعة للمطالبة بالإصلاحات السياسية دفعت ثمنها قوى وحركات
وشخصيات عراقية دماء وتغييب وسنوات طويلة من المكابدة والغربة.. الوضع
العراقي لم يهدأ منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة وفقا لـ(
نظرية عثمانية)لأن هذه النظرية وببساطة شديدة ألغت جميع أطياف الشعب
العراقي سياسيا ولم تبق إلا على طيف واحد.. هذه النظرية التي قامت على
أسس طائفية دينية ضيقة كانت وليدة ظروف معينة أصبحت من الماضي الخاطئ،
والتاريخ ملئ بالنظريات الخاطئة التي يدحضها التطور ويرفضها العقل
الإنساني بعد أن يعيش تجربة جديدة، ولكن الغريب حقا أن الأمور تطورت في
تركيا (صاحبة النظرية الطائفية) فيما بعد وصدرت فيها دعوات واسعة
للمطالبة بالتعايش السلمي بين الأديان والقوميات والطوائف، وهاهي تعتذر
عن إبادة الأرمن وفي طريقها للاعتراف بقبرص، بينما الحال في العراق بقي
على سوئه، وحافظت أنظمة الحكم المتعاقبة فيه على أحادية الحكم، ولم
تتطور عقلية الحاكمين السياسية فتستوعب مكونات العراق الأثنية، الأمر
الذي كان على الدوام سببا في احتدام الصراعات التي طفا بعضها على السطح
وأدير البعض الآخر في الخفاء، ولكن آثاره كشفت فيما بعد على شكل مقابر
جماعية وأحواض أسيد وسجون سرية..
وبقي العراق مأزوما يعاني الغليان الداخلي وترتجف أعضاؤه غيضا أو
تألما ولم يكن للعامل الخارجي أي ثقل في إذكاء مشكلاته.. حتى تلك التي
كانت مع جيرانه والعالم، فالحرب الأخيرة التي اجتاحت العراق لم تكن
سببا في حربه مع الأكراد في السبعينات، ولم تكن سببا في حملة الإعدامات
الواسعة التي اجتاحت هذا البلد خلال العقدين الأخيرين، مثلما لم تكن
سببا في حربه مع إيران واجتياحه للكويت، وقتل نظامه الشيعة في الجنوب
وتجفيفه الأهوار..
العراق ببساطة كان يعاني من أزمة داخلية حاول حكامه أن يصدروها
للخارج بغية التخلص منها، فحرب العراق ضد إيران مثلا كانت عملية إعدام
جماعي لمن عجز النظام العراقي السابق عن إعدامهم من طوائف العراق التي
لم يكن لها الحق في التمثيل السياسي ولم تحظ بالقبول في مؤسسات الدولة
المختلفة، وإلا فإن صدام لم يكن ساذجا لدرجة أنه يقود حربا ضد أقوى دول
الخليج، دون هدف ودون استراتيجية تخدم نظامه، والواضح أن الحرب لم تخدم
العراق، ولم تضف لأرضه ولا لمياهه ولا لثرواته شيئا.. لم يكن للحرب سبب
سياسي مقنع.. حتى صدام نفسه لم يتمكن من إقناع العالم أن لحربه سبب
سياسي، أو أن له مع الإيرانيين مشكلة يمكن التحاور لحلها، فمرة يطالب
بجزر تعود لدولة عربية أخرى ذات سيادة، ويمكن لحكومتها أن تطالب بحقها،
ومرة يطالب بقطعة أرض بور في خضر وهيلة، ولكنه يتنازل لآخرين عن أرض
عراقية في مكان آخر، لذلك لم يخرج من الحرب سياسيا إلا كما دخلها، وعاد
مقتنعا ببنود معاهدة الجزائر التي مزقها.. لماذا؟.. هل كان صدام مجنونا؟
ربما أفضل تخريج لتلك المأساة هي أن نقول أن صدام كان مجنونا، ولكن
الواقع هو أمرّ وأقسى وأعمق.. الحرب من وجهة نظر صدام كانت دائما
العامل السحري الذي يمكن أن يضيف سنوات أخرى لعمره السلطوي، الأمر الذي
صرح به أكثر من مرة.. وهو ما يكشف حقيقة الأزمة السياسية في العراق،
فكل الأنظمة التي تعاقبت على حكمه لم تتطرق للتغيير السياسي واعتبرته
ضربا من ضروب الـ( مؤامرة الدولية) التي كانت شماعة جاهزة يعلق عليها
الاستبداد والتفرد بالسلطة وإعدام المعارضين.. الحكومات السابقة لم تكن
شفافة في التعامل مع الطرح الديمقراطي لأنها ببساطة انتمت إلى أقلية
عراقية ترفض أن يشاركها غيرها من العراقيين بالسلطة..
العراق اليوم
بعد التغيير الكبير الذي حدث في العراق والمنطقة قبل ما يقرب من
عامين كان لا بد أن يعيش العراق وضعه كماهو عليه بالفعل، أي لابد أن
تعكس مرآة واقعه الجديد كل ألوانه ومكوناته الدينية والمذهبية
والسياسية على حقيقتها، دون تغييب ولا إقصاء ودون تضخيم ومبالغة.. هذا
الواقع بدا غريبا على بعض ظل رهنا لرؤىغير واقعية ولادقيقة حاولت
الأنظمة السياسية تمريرها وغرسها في أذهان الآخرين..
بدا مستغربا لدا هذه البعض أن يرى أسماء شيعية وكردية تتصدر مؤسسات
وأجهزة دولة ظلت على مدى عقود طويلة حكرا على أقلية من العراقيين، لذلك
أصيبت ( طائفة) السلطة السابقة بالفزع والذعر، وإن صح التعبير
بالهستريا التي من آثارها هذه الأعمال الإرهابية العنيفة التي لم تستثن
من العراقيين أحدا، سيما حين صارت تجارة عند نفر عاطلين عن العمل وجدوا
من يدفع لهم لقاء القتل والتدمير وإشاعة الرعب..
وسط هذه الأجواء الملبدة ظلت عجلة العراق الجديد تسير وإن ببطء وصار
العراقيون الطامحون لمستقبل أفضل يقاتلون من أجل إدامة الحركة في عجلة
العراق اليوم، وضمن هذه الجهود كان الإصرار على إجراء الانتخابات في
موعدها المحدد سابقا في قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت، رغم
محاولات عراقيين ودول عربية عرقلة الانتخابات، أو إلغائها، فما هو مصير
العملية الانتخابية.. وهل ستكون عصا سليمان في الوضع العراقي الراهن؟.
بدائل الانتخابات والعملية السياسية
المسار السياسي تعرض لشبهات عديدة، بدأت أولا بالتشكيك بمجلس الحكم
واتهامه بالتبعية، وأنه لايمثل العراقيين لأنه غير منتخب، ثم جاءت
الحكومة الانتقالية الأولى المنبثقة عن مجلس الحكم، واحتفظت لنفسها
بذات التهم التي وجهت لمجلس الحكم، ولم يتغير الأمر مع الحكومة
الانتقالية الثانية الحالية، رغم أنها لم تعين من قبل الأمريكان، بل من
قبل الأمم المتحدة ومن خلال موفدها الأخضر الإبراهيمي، والواقع أن
تعيين الحكومة الحالية من قبل مجلس الأمن لا يعني أن مجلس الحكم
وحكومته لم يكونا شرعيين، وأن ما قيل بحقهما حقيقي وصحيح.. نعم من
الناحية القانونية لم يكن مجلس الحكم منتخبا، ولكن عدم انتخابه لايعني
أنه لم يمثل شريحة واسعة من العراقيين طالما جمع أحزابا وحركات سياسية
انتمت لشرائح واسعة وناضلت ضد صدام سنوات طويلة، ثم أن المرحلة وقتها
لم تسمح بالانتخاب، ولا بد في حينها من أن تتصدى قوى عراقية للعملية
السياسية، وإلا فالعراق معرض لمخاطر جسيمة، والمفارقة أن ذات الإشكال
الذي وجهه البعض لمجلس الحكم يوجه أيضا لجهات عارضت التوجه السياسي في
العراق، فهيئة علماء المسلمين مثلا أعطت لنفسها حق تمثيل سنة العراق
العرب، وتحدثت على الدوام باسمهم رغم أنها لم تنتخب منهم ولم يكن لها
عمق تاريخي في العمل السياسي، وبالتالي فإن ما تحتج به هذه الهيئة في
رد هذه الشبهة يمكن أن يحتج به أعضاء مجلس الحكم أيضا في رد الشبهات
المماثلة..
ولا بد من التأكيد هنا بالطبع أن المسألة لا تدور حول جدل عقيم أو
شبهات وعكسها بقدر ما تتعلق بمستقبل بلد، فالذين احتجوا بعدم شرعية
العملية السياسية في العراق، لم تقتصر ردود أفعالهم على التصريحات
والمقاطعة والتظاهر والاستنكار، وكل هذه مظاهر للديمقراطية الجديدة في
العراق، بل رفعوا البنادق بوجه كل من دخل الحلبة السياسية وقتلوا عددا
غير قليل من خيرة النخب السياسية والثقافية
العراقية الأمر الذي يعني تخليهم عن ثابت مهم وأساسي في العمل
السياسي، ألا وهو نبذ العنف والتصفيات الجسدية، والتضامن دوما حول
المشترك الوطني والإيمان بوجود الآخر. وبالإضافة لذلك لم يطرح هؤلاء
بديلا عن العملية السياسية ولم يكن لهم مشروع سياسي واضح، وكل ما يفهم
من تصريحاتهم أنهم يطالبون برحيل قوات التحالف من العراق، ولكن ما بعد
هذا الرحيل لا يعرفه أحد، وبهذا يمكن وضع قراءات عديدة لما يسعى
الرافضون للعملية السياسية لإحداثه:
السيناريو الأول: يحاول
المناوئون للعراق الجديد تكثيف عملهم المسلح وإشراك أطراف عديدة في
عمليات يقودونها هم للإيحاء أن هناك مقاومة عراقية مسلحة واسعة للتواجد
الأجنبي، وفي نهاية المطاف يهدفون لإحراج حكومة جورج بوش أمريكيا
وعالميا ودفعها للانسحاب غير المدروس من العراق، عن طريق إلحاق خسائر
كبيرة بالقوات الأمريكية تحديدا وكثيرا ما تناقلوا في أوساطهم الانسحاب
الأمريكي من الصومال.. أما بعد الانسحاب المفترض، فيعول هؤلاء على
رجحان كفتهم اللوجستية من خلال الدعم الذي يتلقونه من العرب، ويعولون
على قدرتهم في ممارسة العنف وإلحاق الأذى الواسع بالآخرين، وكفاءتهم في
قيادة المعارك الداخلية ــ إذا ما وقعت ــ نتيجة لماتراكم لديهم من
خبرة طوال سنوات الحكم السابق..
السيناريو الثاني: وفي حال عدم
تحقق السيناريو الأول، فيبدو أن المناوئين للعراق الجديد رضوا بالخيار
الآخر، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (إدارة توزيع السوء) وتخريب كل ما
تحاول الحكومة بناءه وقتل رجال الدولة بدءا بالموظفين ورجال الأمن
والشرطة ووصولا لأعلى المستويات، وقد صرح لنا بعض المطلعين عن قرب على
تفكير بعض الجماعات المسلحة بما يدل على أنهم يراهنون على الخراب في
الوصول إلى السلطة بأحد طريقين: الأول ويتعلق بالقضاء على القيادات
والكفاءات التي يحسبونها على الأطراف والطوائف الأخرى، لإيجاد مكان لا
منافس فيه لشخصيات متوسطة الثقافة والتعليم والخبرة السياسية تشكل غطاء
للمسلحين، وهم بذلك يتمنون العودة للسلطة بعد إقصاء الجميع إما
بالتصفية الجسدية، وإما باضطرارهم للهرب
خارج العراق..
أما الثاني، فهو التعويل على الضغط العربي على واشنطن لتغيير
سياستها في العراق، وإقناعها أن الظروف لن تتغير نحو الأحسن طالما بقي
هؤلاء المسلحون خارج السلطة، وأن عليها حتى تضمن (بقاءها المصلحي) في
العراق أن تتعاون مع المسلحين وتتنصل عن وعودها بالديمقراطية والتعددية
والفدرالية..
السيناريو الثالث: وحين أخفق أصحاب الخيار المسلح في
سيناريوهات العنف الأخرى فيبدو أنهم رضوا بالخيار الأسوأ وهو العمل على
القيام بعمل مسلح غير واضح الأهداف أو ما يمكن أن نسميه( العمل اليائس)،
وهو ما نشاهده اليوم سمة بارزة في أعمال العنف في العراق، وكثيرا ما
تحدث أعمال تخريبية وتفجيرات في أماكن لا علاقة لها بالدولة مطلقا،
الأمر الذي أفرغ هذه الأعمال من كل تعاطف شعبي وخسر القائمون بها تأييد
بعض الشارع العراقي الذي كان مؤازرا لهم في أوقات سابقة..
إلى أين يتجه العراق؟
على الرغم من شدة الحملة التي تواجه العراق الجديد وشراستها وتعدد
أطرافها، ظل العراق يسير سياسيا بالاتجاه الصحيح، فالانتخابات التي (قاتل)
عراقيون وعرب وإقليميون على أن تؤجل أصر آخرون على أن تُجرى في موعدها،
ورجحت كفت الذين أصروا على إجرائها، وبقي على الشعب العراقي أن يثبت
أنه مع العراق الديمقراطي.
وفضلا عن ذلك هناك توجهات عديدة في المدن العراقية على تكريس
الفدرالية واللامركزية في الحكم، ما يعني قيام كيانات ومؤسسات حكومية
وغير حكومية تسهم بدرجة فاعلة في خلق ثقافة جديدة لدا العراقيين لا
تنسجم وعودة الاستبداد والدكتاتورية التي هي من ملامح البرنامج الخفي
للمسلحين، وبعبارة أخرى إن قوة المجتمع المؤسساتي تقف حائلا دون عودة
الديكتاتورية وإن تسلحت بالعنف والقتل، وهو الأمر الذي التفت إليه
الكيانات السياسية والثقافية العراقية..
والأهم في الراهن العراقي أن الوعي الجماهيري بدأ يتدرج صعودا وصار
الناس أكثر تحسسا للحدث السياسي من ذي قبل، ولم تعد الحركات الدعائية
تنطلي عليهم بسهولة، وربما خسر المسلحون كثيرا في ارتكابهم أعمال غير
مبررة، وقتلهم الناس على الهوية، وإدخالهم الخلاف المذهبي سلاحا في
الصراع، إذ تنبه الناس إلى أن مطالب هؤلاء لا تتعلق برحيل الاحتلال
ومقاومة الغزاة مثلما يعلنون، بل القضية الأساسية أنهم لا يقدرون على
التعايش مع أبناء جلدتهم وشركائهم بالوطن، ويريدون التفرد بالسلطة، وهو
ما استفز شرائح كبيرة وواسعة من الشعب العراقي، وجعلها تلفظ هؤلاء وتضع
كل أعمالهم في دائرة الشك والريبة..
خلاصة الأمر أن العراق يتجه بالاتجاه الصحيح، ولكن مع ذلك لابد من
وجود رقابة جماهيرية على كل القرارات والخطط التي توضع لمستقبل هذا
البلد، مثلما يجب على الأحزاب والحركات السياسية العراقية التي ناضلت
ضد صدام أن تفعل دورها أكثر في الوسط الجماهيري وتخلق وعي مضاد لكل
السياسات الهدامة التي تريد بهذا البلد العودة إلى الماضي.. |