التصريحات التي صدرت مؤخرا عن الملك الأردني، ومن قبله عمرو موسى
والرئيس المصري باتت تعطي وجها واضحا لما يجري في العراق، واللافت أن
هذه التصريحات حملت من الوضوح ما تجاوز حدود الصراحة ونسف كل عبارات
الدبلوماسية التي اشتهر بها ملك الأردن والرئيس المصري، وللتذكير فقد
أعلنا أنهما ضد وصول الشيعة للحكم في العراق. هذه التصريحات تزامنت مع
الإعلان عن سيناريو خطط له خلف الكواليس أراد واضعوه إثارة الرأي العام
العربي، والتأثير على السياسة الأمريكية إزاء العراق من خلال ما أعلنته
مصر من إلقائها القبض على شخص إيراني بحجة أنه يخطط لاغتيال شخصيات
مصرية.. هذه التصريحات المتسرعة والمعادية لشريحة واسعة من العراقيين
أكدت بما لايدع مجالا للشك أن ما أطلق عليه التمرد في العراق كان يدار
من قبل مخابرات دول عربية، وأن (حرب) تنظيم الزرقاوي وغيره من
التنظيمات التي عاثت القتل والتدمير في العراق طوال الأشهر الماضية،
كانت عبارة عن حرب بين التيار العربي الشوفيني وبين محاولات تغيير
المسار السيئ الذي سار عليه الحكم في العراق طوال السنوات الثمانين
الماضية..
في الأشهر الدامية الأخيرة مورست عدة سيناريوهات كانت مفضوحة لدا
المتابعين والعارفين بخفايا الشأن العراقي، والمدركين لحقيقة الموقف
العربي من القضية العراقية منذ كان صدام متحكما برقاب العراقيين، ولكن
بسطاء الناس وعوامهم لم يكتشفوا الوهم الكبير الذي سمي مرة بـ( مقاومة
المحتل) ومرة أخرى بـ( الانتصار للإسلام) وسار البعض وراء شعارات كهذه
ودفع العراقيون ثمنا باهضا من أمنهم وعمرانهم وفرصهم في التطور، ولكن
جاءت التصريحات الأخيرة للعاهل الأردني والسيد عمرو موسى ومن قبلهما
الرئيس المصري لتكشف للعراقيين أولا، أن ما يراد من العراق هو أن يستمر
فيه ما كان قائما من أيام الحكم العثماني، فلم يكبر العقل الرسمي
العربي، إلى الحد الذي يستوعب فيه أن من حق الجميع في العراق سنة وشيعة
كوردا وعربا وأقليات أن يعيشوا ويمارسوا حقهم السياسي في اختيار من
يمثلهم وفقا للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية التي أقرت للجميع هذا
الحق. ولكن رب ضارة نافعة كما يقولون، فهذه التصريحات رغم ماحملته من
نوايا سيئة ضد العراقيين، غير أنها جاءت معها بإيجابيات كبيرة لعل أهما:
أولا أنها صدمت العراقيين عموما، والشيعة على وجه الخصوص، ونبهتهم لما
يراد بهم وفوتت على المشروع الرامي لزجهم في مواجهة خاسرة النتائج، فرص
النجاح، وكان كثيرة من الشيعة وإلى وقت قريب يشعرون أنهم يهتمون إلى حد
الإتباع بالموقف العربي من العراق، وكان كثير منهم يتابع التصريحات
العربية حول العراق، ويعتبر الجامعة العربية مرجعيته السياسية، ولكن
تصريحات العاهل الأردني والسيد عمرو موسى والرئيس المصري، نبهت هؤلاء
إلى أن الموقف الرسمي العربي لم يكن في أي وقت حريصا على سيادة العراق
كبلد عربي، بل كان العرب الرسميون حريصون دائما على أن يظل العراق هرما
يسير على نهايته المدببة، غير راغبين باستعادة هذا الهرم شكله الطبيعي
عبر استناده على قاعدته العريضة..
وثانيا كشفت هذه التصريحات أن من يقود العمليات الإرهابية ضد الولايات
المتحدة في العراق، ليس الزرقاوي أو بن لادن أو غيرهما، بل من يقود هذه
العمليات هو تنسيق عربي مؤلف من مخابرات دول عربية معروفة تعتبر نفسها
مسؤولة عن البيت السياسي العربي، ولا نكشف سرا إذا ما قلنا أن هذه
الدول هي( مصر، الأردن، سوريا،السعودية وغيرها)، وقد جاءت التصريحات
الأخيرة لتضع الولايات المتحدة أمام هذه الحقيقة، وحقيقة أخرى تكشف أن
من يقف وراء تخريب العلاقات الأمريكية ـــ الإيرانية دائما، هي مجموعة
مخاوف تسربها الحكومات العربية المشار إليها إلى واشنطن التي تعاملت
معها في السابق على أنها معلومات حقيقية من مصادر نزيهة، وهذا الأمر
يشابه ما كان يسربه المصدر نفسه للغرب عموما وللولايات المتحدة خصوصا
من معلومات حول شيعة العراق والخطر المزعوم الذي يشكلونه على المصالح
الغربية في حال وصلوا للحكم، ولكن أثبتت الوقائع والأيام أن الطرف
الوحيد الذي يمتلك إرثا وثقافة للتعايش هو الطرف الشيعي، فرغم أن شيعة
العراق يشكلون الأكثرية في هذا البلد، ويملكون تنظيمات مسلحة مجربة
ومدربة وقوية، غير أن خيارهم في المواجهة المسلحة مع أي طرف، لم يكن
إلا الخيار الصعب الذي ليس بعده خيار، وهي ثقافة إنسانية عظيمة تشترك
مع ما توصل إليه العالم المتحضر اليوم، وما قننه من مواثيق وقوانين
ومعاهدات دولية. وقد رأى العالم بأسره الموقف الشيعي من الأزمة
العراقية من خلال الآراء السديدة للمرجعية الدينية، بينما رأى الجميع
المواقف المشجعة على الذبح والعنف والتخريب التي وقفها آخرون.. خلاصة
الأمر أن تصريحات المسؤولين العرب لم تكن بالإنصاف الذي يتطلبه أي موقف
سياسي منصف، ولكنها جاءت لتصب في مجرى الوعي العراقي، وفي مسار القدرة
الأمريكية على فهم ما يجري في العالم العربي من تدليس وتزوير للحقائق،
الأمر الذي لا يخدم بالنتيجة إلا مصلحة العراقيين جميعا دون استثناء،
وأخيرا، فإن مفارقة أخرى من بين ما جاء في تصريحات العاهل الأردني من
مفارقات تكشف تحاملا غير مبرر على كل من هو شيعي دون تصنيف أو تمييز،
ففي الوقت الذي ينتقد شيعة العراق الموقف الإيراني من الوضع في العراق،
يمتطي الكثير من المسؤولين العرب ومنهم ملك الأردن خيلهم ويطلقون
العنان لتصريحات رنانة بمناسبة وبدون مناسبة حاسبين شيعة العراق على
شيعة إيران، ورامين شريحة كبيرة من العراقيين بالعمالة لإيران زاعمين
تدخل الأخيرة بالشأن العراقي من خلال دعمها للشيعة فيه، بينما الشيعة
فيه يدعون أيضا أن إيران تدعم ما يسمى بـ( المقاومة) في العراق على
حسابهم.. ويبدو بين هذه العقد الكبيرة التي تحيط بالشأن العراقي، أن
الملك حسين نسي تدخل بلاده بالشأن الإيراني، واكتفى بإلصاق التهمة بها
حين قال أنها تتدخل بالشأن العربي، فالكل يتذكر الإطلاقة الصاروخية
التي أطلقها والده في الحرب العراقية الإيرانية باتجاه إيران، وبدل أن
يكون عامل لحمة وصلح وتهدئة كان عامل فرقة وتصعيد، كما الكل يتذكر
تصريحات المسؤولين الأردنيين تجاه جماعة مجاهدي خلق، وكيف أن الأردن
رفض إخلاءهم عبر حدوده مثلما رفض طردهم من العراق، مع أن هذه الجماعة
إرهابية ومطلوبة للعراقيين بعشرات الضحايا ومئات التجاوزات على حقوق
الإنسان العراقي..
إن الموقف الأردني لايصب في مصلحة العراق الجديد ولا يقصد منه إلا
إثارة النعرات الطائفية والعرقية بين العراقيين، وهو تدخل سافر سيغذي
الحقد ضد الأردن والأردنيين ومن المحتمل جدا بروز جماعات شيعية متطرفة
قد تهاجم المصالح الأردنية في العراق وفي غيره، في وقت لاتحتاج فيه
المنطقة إلى مثل هذه الجماعات..
abbas_sm89@hotmail.com |