الروح سواء قلنا هو النشاط الدماغي كما في علم الأعصاب أو هو أمر لا
يدرك كنهه إلا الله تعالى لكنها كلمة لها وقعها وتأثيرها وقدسيتها في
النفوس وبها قوة الإنسان ومعنويته وقيمته.
لذا يمكننا التعبير عن المشاهد الروحية أنه ما كان ينبغي للتاريخ أن
يتعجل وهو يطل من علٍ على مشهد العناق الروحي بين المهاجرة والأنصار في
ربوع دولة المدنية، ذلك المشهد الذي كان جديراً بتسجيل دقيق لكل
تفاصيله النفس إيمانية. والتي تمثل استثناءً في تاريخ بني البشر...
يقبل الأنصاري على المهاجر برضا وسماحة، يقتسم معه البيت والمال،
يخيّره بين أفضلهما يقتسم المتاع والدواب، الأرض والثمار، مباراة قمة
في الأداء الإيثاري، أحدهم ترك المال والزرع والضرع، وفرّ بدينه إلى
حيث كانت هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر نزع عن نفسه
ثوب الأنانية البغيض، وترك نصف ما في يده زلفى إلى الله، لم يكن
الإيمان قد وقّر – بعد – في القلوب، فقد كان الدين في مهده، لكنه التوق
الإنساني للتحرر من عبودية الذات ومن خواء الروح وسلطة الغرائز...
الموقف محض باطني، ففي الترك والفوت يتنافس المتنافسون، الكل يترك
ويتخلى فيتحلى ويتجلى (ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ..).
وهذا هو منطق الروح الذي يستعصي على الأدلة العقلانية، فنظراته
العميقة تستند إلى الحدس، شأنها في ذلك شأن نظرات الفن والشعر والنحت
والرسم، وقد تجسد هذا المنطق الروحي في العقيدة، وهو المنطق الذي يجعل
المؤمنين يدركون التيارات العميقة للوجود الإنساني ذاته، فالتحقق –
بلغة الروح – لا يتم إلا بالترك وبعكس اللغات المادية الأخرى التي
تنطلق من مسارات العقل والعقلانية المحضة.
ونحن لا نصل لقوانين حركة التاريخ بالأدلة العقلية فقط، بل أيضاً من
خلال النظرة الحدسية للتاريخ كواقع أبدي، تغلفه نظرة واسعة شاملة مفعمة
بالقضاء والقدر، بهذا المنطق قرأت (كارين آرمسترونج) تأثير الروحية
الإسلامية.. وثمة معطىً استثنائي اختصت به الحضارة العربية الإسلامية
في تميزها عن حضارة الغرب المسيحي، فقد قامت حركة التحرر في أوروبا
بالنضال ضد الكنيسة، أما في البلاد الإسلامية المستعمرة فقد حدث العكس
– كما تقول (بيانكا ماريا سكارسيا) الإيطالية في كتابها (العالم
الإسلامي وقضاياه التاريخية) فباسم الإسلام كان نهوض الجماهير وتحررها،
حينما تحول الإسلام إلى الأيديولوجية الوحيدة القادرة على الرد على
الصدمة الهائلة التي جسدها الاستعمار...
إنه الفرق بين ثقافتين لا بين دينين، ثقافة ترى الدين ثورة عقلية
وروحية وسياسية ومن ثم فهي ترى في الدين عزها ومجدها، وثقافة ترى ذاتها
في الانعتاق من الدين والتمرد عليه، قامت نهضة الحضارة الأولى على
قواعد الدين وقامت نهضة الثانية على رفض الدين والإله والسخرية من كل
ما هو مقدس.
ومن ثم يلعب الدين في حياة البشر دور الأيديولوجية التوحيدية، التي
تؤلف بين ما هو مبادى وما هو روحي، أو بين البعد الديني والبعد
الاجتماعي والسياسي – والإسلام – تحديداً – ينطلق من فلسفة التوحيد إلى
تجسيد الوحدة العضوية بين جميع الأفراد المنتمين إليه، لكن يلعب
التأويل – منذ فجر التفلسف الإسلامي – دوراً محورياً جعل الإسلام يتحول
حيناً إلى راية لحركة ثورية تستهدف النهوض والتقدم ودفع الظلم والفساد
في الأرض، أو يتحول أحياناً أخرى إلى أداة في منظومة رجعية، تعود
بالدين إلى فهمه الوظيفي الطقوسي الذي يقترب من معنى الانصياع للطبيعة
كما في الفلسفات البدائية، بعكس الفلسفات الروحية العقائدية التي رأت
في الدين محرضاً على غزو الطبيعة وإخضاعها لخير الإنسان وعمران الكون.
والدين لا يلعب في حياة البشر دوراً تجريدياً خالص الروحية، بل يلعب
– أساساً – دوراً اجتماعياً، يختبر كل يوم حقائق الدين والإيمان في
الحياة الواقعية، ومن ثم ظل الدين مرتبطاً بثقافة المجتمعات، يتغير
مفهومه بتغير البيئة الثقافية.
والروحية الإسلامية هي الوحيدة التي أثرى المجتمع الإنساني بنقاط
التوازن المادي والمعنوي فاهتم بالجانب المادي كما الجانب المعنوي (فليس
منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه) هذه مقولة الوسطية المعتدلة
في الدين الإسلامي. |